الباغوز لنفض «غبار الحرب» بعد 4 سنوات على هزيمة «داعش»

«الشرق الأوسط» تزور البلدة التي دمرتها معركة طرد التنظيم من آخر معاقله في سوريا

امرأة وابنها يمران بحطام سيارات دمرت أثناء المعركة الأخيرة لـ«داعش» في الباغوز قبل إعلان هزيمته مارس 2019 (الشرق الأوسط)
امرأة وابنها يمران بحطام سيارات دمرت أثناء المعركة الأخيرة لـ«داعش» في الباغوز قبل إعلان هزيمته مارس 2019 (الشرق الأوسط)
TT

الباغوز لنفض «غبار الحرب» بعد 4 سنوات على هزيمة «داعش»

امرأة وابنها يمران بحطام سيارات دمرت أثناء المعركة الأخيرة لـ«داعش» في الباغوز قبل إعلان هزيمته مارس 2019 (الشرق الأوسط)
امرأة وابنها يمران بحطام سيارات دمرت أثناء المعركة الأخيرة لـ«داعش» في الباغوز قبل إعلان هزيمته مارس 2019 (الشرق الأوسط)

في مثل هذه الأيام من عام 2019 شهدت بلدة الباغوز، بريف دير الزور في شرق سوريا، واحدة من أعنف المعارك للقضاء على «تنظيم داعش» في آخر مناطق سيطرته، جغرافياً وعسكرياً، في سوريا. انتهت المعارك باستسلام عناصر التنظيم الذين قاتلوا حتى الرمق الأخير. نُقلوا إلى مقرات احتجاز تديرها «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، تحت إشراف قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية. بالإضافة إلى المقاتلين، نقلت قوات «قسد» التي يشكل الأكراد عمادها الأساسي، مئات من أفراد أسر التنظيم إلى مخيمات تُشرف عليها في شمال شرقي سوريا. في ذكرى هزيمة «داعش»، زارت «الشرق الأوسط» بلدة الباغوز التي ما زالت تحاول نفض غبار المعركة عنها، وكذلك مخيم الهول في الحسكة، وجاءت بهذا التحقيق:
في الطريق الرئيسية المؤدية إلى بلدة الباغوز فوقاني، بريف دير الزور، لا تزال آثار المعارك ظاهرة بوضوح في كل مكان، رغم مرور 4 سنوات على انتهائها. مبانٍ مدمرة. هياكل سيارات متفحمة. بقايا صواريخ تركت آثارها من خلال فجوات كبيرة بالأرض. أما الجسر الذي يوصل هذه البلدة بناحية البوكمال المجاورة، فلم يعد صالحاً للمرور نتيجة الدمار الذي لحق به، نتيجة المعارك في هذه المنطقة التي تقاسمتها جهات سورية متحاربة.
عند التجول في شوارع البلدة تتكرر مظاهر الدمار الذي حلّ بها جراء المعارك العنيفة التي شهدتها في بدايات عام 2019، كما يُلاحظ على الجدران وجود بعض من كتابات «تنظيم داعش» التي تذكّر أهل الباغوز بحقبة حكمه البالغة التشدد. كذلك يمكن رؤية قسم من المنازل والمحال التجارية التي أصبحت أثراً بعد عين، إذ لم يتبق منها سوى جبال من الركام، أما التي نجت من شدة القصف فلم تسلم أبوابها ونوافذها من شدة الانفجارات التي دمرت المناطق المحيطة بها.

مخلفات تحصد أرواح الأبرياء

في مخيم القرية الذي يقع بالجهة الشرقية قرب تلتها الاستراتيجية، والذي تحول آنذاك لآخر نقطة تجمع لعناصر «تنظيم داعش» وعائلاته، تأتي سُميّة ذات الأربعة عقود بصحبة أصغر أبنائها بشكل شبه يومي، وتجهش بالبكاء وهي تقف قرب مقبرة هياكل سيارات صدئة كانت تعود لمقاتلي التنظيم. تروي هذه السيدة التي كانت ترتدي عباءة وغطاء رأس أسود اللون، كيف فقدت ابنتها العنود ذات الـ13 ربيعاً، بعد انفجار قنبلة يدوية قرب الطريق الفرعية التي تربط تلة الباغوز بالقرية. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «ماتت بنتي الصغيرة، قبل 3 شهور، بلغم كان مزروعاً بالقرب من هذه الطريق... لن أنسى ملامح وجهها وفستانها الملوّن وضحكتها التي لا تفارقني للحظة. سرقت هذه الحرب فلذة قلبي».
ويقول سكان ومسؤولون في الإدارة المدنية إن كثيراً من الأهالي الذين عادوا إلى ممتلكاتهم ومنازلهم بعد انتهاء معركة الباغوز، أصيبوا أو قتلوا جراء انفجار ذخائر ومخلفات زرعها عناصر التنظيم بكثافة، لمنع السكان من الهرب والفرار بعد اقتراب المعركة الحاسمة من هذه البلدة على ضفاف نهر الفرات. وبحسب إحصاءات رسمية، مات 35 شخصاً نتيجة مخلفات الحرب، في وقت بلغت فيه حالات البتر والعاهات الدائمة حتى اليوم نحو 70 حالة. وتُعد هذه الأرقام كبيرة مقارنة مع بلدة لا يتجاوز عدد سكانها اليوم 8 آلاف نسمة فقط.
والباغوز عبارة عن بلدة سورية صغيرة المساحة تتبع ناحية السوسة إدارياً، تقع في الريف الشرقي لمحافظة دير الزور في حوض نهر الفرات شمالاً بمنطقة البوكمال. وبلغ عدد سكانها نحو 11 ألف نسمة، حسب إحصاء سنة 2004.
تحوّلت أرض المخيم لمكب ومقبرة ضمت عدداً كبيراً من هياكل سيارات معطلة أو متفحمة ودراجات نارية، إلى جانب شبكة أنفاق وسواتر ترابية عالية للحماية من الصواريخ وقذائف الهاون وشظايا القصف. يقول فيصل (33 سنة) إن الباغوز تحولت إلى «منطقة عسكرية» منذ بداية سنة 2018، ولم تتعافَ من الحرب حتى اليوم. نزح فيصل من الباغوز برفقة عائلته لأكثر من عام قاصداً المناطق المجاورة شمالاً التي تسيطر عليها قوات «قسد» وعاد إليها في صيف 2019 بعد شهور من انتهاء المعركة ضد «داعش». ويؤكد في حديثه مع «الشرق الأوسط» أن بعض أهالي القرية كانوا قبل الحرب أصحاء لا يعانون الأمراض «أما اليوم فتراهم يمشون من دون أعضاء نتيجة بتر ساق أو يد... ترى بعضهم يتنقل على كرسي متحرك. كل ذلك نتيجة للحروب التي دارت في المنطقة. هذه الصور تذكّرنا بأن الحرب التي دارت في الباغوز ليست كغيرها من الحروب». وكحال غيره من أبناء البلدة، لم يخفِ فيصل خشيته من عودة خلايا التنظيم المنتشرة في منطقة متشابكة عسكرياً، موضحاً: «عشنا مشاعر الخوف لا سيما خلال الفترة الأولى، بسبب جرائم نفذتها خلايا نائمة موالية للتنظيم، نخشى منها ومن القوات النظامية والميليشيات الإيرانية؛ لأن هذه الجهات منتشرة بالفعل في محيط الباغوز».
وهذا الخوف مرده عمليات الذبح والقتل الوحشية التي اتبعها عناصر التنظيم خلال حكمهم لمناطق سيطرتهم في شرق سوريا وشمالها. ويتذكر كثير من السكان مشاهد القتل الجماعي للمئات من أفراد عشيرة الشعيطات نهاية 2014، ولجوء «داعش» إلى بثّ الرعب من خلال نشر صور ومقاطع فيديو مروعة، مثل حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وتعليق رؤوس جثث عشرات الجنود السوريين - وهم أشباه عراة - بعدما أُسِروا في مطار الطبقة العسكري، وتصفية عشرات المواطنين بما في ذلك أجانب من صحافيين وعاملين في منظمات إنسانية إغاثية.

عودة الحياة والأشجار المثمرة

في كثير من أحياء الباغوز وأزقتها يمكن رصد بدء أعمال إعادة إعمار البلدة التي يحاول سكانها نفض غبار الحرب عن منطقتهم، إذ تجد كثيراً من الأهالي منهمكين في إزالة جبال الركام وإعمار منازلهم ومحالهم التجارية بإصرار وعزيمة، كما يسعى السكان إلى إعادة عجلة الحياة إلى بلدتهم التي أنهكتها المعارك، لكن الباغوز قد لا تعود إلى وضعها السابق إلا بعد سنوات.
يقول شعبان (54 سنة) الذي يمتلك بستاناً زراعياً تبلغ مساحته 10 دونمات، وكان مزروعاً بأشجار الرمّان لكنها حرقت ودمرت نتيجة المعارك: «كان بستاني يضم 500 شجرة رمّان؛ لكن هذه الأشجار احترقت كلها ولم يتبق منها سوى بقايا جذور محترقة... منزلي أيضاً تعرض للدمار واحترق أثاثه، ونحاول بناء ما يمكن بناؤه». ويؤكد أنهم يحتاجون لسنوات أخرى للتعافي من الحرب، مشيراً إلى أن تربة الباغوز باتت شبه محترقة و«لم تعد صالحة للزراعة... لا لزراعة الأشجار، ولا لزراعة المحاصيل الموسمية. هذه كارثة إنسانية بكل المقاييس».
وتعاقبت جهات عسكرية عدة على حكم الباغوز منذ ربيع 2011 عندما اندلعت الثورة ضد الحكم السوري. في بداية عام 2013 خرجت البلدة عن سيطرة النظام وصارت خاضعة لسيطرة فصائل مما يُعرف بـ«الجيش السوري الحر»، قبل أن تخضع لـ«جبهة النصرة» التي باتت اليوم «هيئة تحرير الشام». في منتصف عام 2014، انتقلت السيطرة على الباغوز إلى أيدي «تنظيم داعش»، واستمرت كذلك حتى بداية فبراير (شباط) 2019 عندما شنت «قوات سوريا الديمقراطية»، بدعم من التحالف الدولي بقيادة أميركية، هجوماً واسعاً تمكنت خلاله من القضاء على سيطرة التنظيم الجغرافية والعسكرية في مارس (آذار).
يقول حواس سدير الجاسم، أحد وجهاء الباغوز، إن عشائر المنطقة طالبت مسؤولي التحالف الدولي خلال لقاءات مباشرة، وكذلك الإدارة الذاتية والمنظمات الدولية المعنية، بالعمل على إزالة مخلّفات الحرب ومساعدة الأهالي للتعافي منها. ويضيف، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن الباغوز «دفعت أكبر فاتورة في الحرب ضد (تنظيم داعش) الإرهابي، كونها كانت آخر معاقله الجغرافية التي تحصن بها مقاتلوه».
ويؤكد سدير الجاسم أن إحصاءات رسمية وثّقتها لجان محلية مختصة تحت إشراف خبراء تفيد بأن حجم الأضرار ضخم جداً في المباني السكنية والبنية التحتية والأشجار المثمرة والأراضي الزراعية. ويوضح أن الأضرار تتوزع على الشكل الآتي: «عدد المنازل السكنية المدمرة حسب أسماء أصحابها 1450 منزلاً، 80 في المائة منها سويت بالأرض، و20 في المائة لحقت بها أضرار متفاوتة بين دمار جزئي وحريق». ويتابع بأن أعداد الأشجار المثمرة المتضررة بلغت نحو سبعة ملايين شجرة من النخيل والحمضيات والزيتون، «أما الرمان فقد احترق أو جفّ منه 650 ألف شجرة جراء الحرب». ويزيد قائلاً إن النيران طالت 5 مدارس تعليمية بقي منها «مدرستان فقط هما بحالة مقبولة لاستقبال التلاميذ» بعد القيام بأعمال ترميم فيهما. ويشير أيضاً إلى تضرر البنية التحتية والطرق الرئيسية وشبكات المياه والصرف الصحي، ومعظم المحال التجارية.
الشيخ سدير، كغيره من سكان المنطقة، بقي في بلدته خلال سنوات حكم التنظيم المتشدد وحتى خروج جميع سكانها هرباً من العمليات العسكرية، قبل أن يعود إليها في أبريل (نيسان) 2019. يستذكر سدير الصور الأولى التي شاهدها عقب عودته، قائلاً: «صُدمنا من مشاهد الحرب وأكوام الخراب والهياكل المتفحمة التي بقيت شاهدة على احتدام المعارك... بقينا أسابيع وشهوراً (في حالة صدمة). وحتى اليوم، يصعب علينا التعايش مع هذا الدمار ومع المقابر الجماعية» التي تنتشر في الباغوز ومحيطها.

شهادات ناجين من قبضة «داعش»

 5 مقابر جماعية في الباغوز

 فتية «سلاحهم» الحجارة والعصى للدفاع عن قسم «النساء المهاجرات» في الهول

مديرة مخيم الهول لـ «الشرق الأوسط» : تفكيكه يحتاج إلى سنوات... وهو الأخطر في العالم

 «لا شواهد» لقبور اللاجئين العراقيين


مقالات ذات صلة

أبو الغيط: لا أعلم إن كانت سوريا ستعود للجامعة

أبو الغيط: لا أعلم إن كانت سوريا ستعود للجامعة

أبو الغيط: لا أعلم إن كانت سوريا ستعود للجامعة

قال الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، إنَّه «لا يعلم ما إذا كانت سوريا ستعود إلى الجامعة العربية أم لا»، وإنَّه «لم يتسلَّم بصفته أميناً عاماً للجامعة أي خطابات تفيد بعقد اجتماع استثنائي لمناقشة الأمر».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شؤون إقليمية سوريا وإيران: اتفاق استراتيجي طويل الأمد

سوريا وإيران: اتفاق استراتيجي طويل الأمد

استهلَّ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، أمس، زيارة لدمشق تدوم يومين بالإشادة بما وصفه «الانتصارات الكبيرة» التي حقَّقها حكم الرئيس بشار الأسد ضد معارضيه. وفي خطوة تكرّس التحالف التقليدي بين البلدين، وقّع رئيسي والأسد اتفاقاً «استراتيجياً» طويل الأمد. وزيارة رئيسي للعاصمة السورية هي الأولى لرئيس إيراني منذ عام 2010، عندما زارها الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، قبل شهور من بدء احتجاجات شعبية ضد النظام. وقال رئيسي، خلال محادثات موسَّعة مع الأسد، إنَّه يبارك «الانتصارات الكبيرة التي حققتموها (سوريا) حكومة وشعباً»، مضيفاً: «حقَّقتم الانتصار رغم التهديدات والعقوبات التي فرضت ضدكم».

«الشرق الأوسط» (دمشق)
العالم العربي أنقرة تستبق «رباعي موسكو» بمطالبة دمشق بموقف واضح تجاه قضايا التطبيع

أنقرة تستبق «رباعي موسكو» بمطالبة دمشق بموقف واضح تجاه قضايا التطبيع

استبقت تركيا انعقاد الاجتماع الرباعي لوزراء خارجيتها وروسيا وإيران وسوريا في موسكو في 10 مايو (أيار) الحالي في إطار تطبيع مسار العلاقات مع دمشق، بمطالبتها نظام الرئيس بشار الأسد بإعلان موقف واضح من حزب «العمال الكردستاني» والتنظيمات التابعة له والعودة الطوعية للاجئين والمضي في العملية السياسية.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
العالم العربي درعا على موعد مع تسويات جديدة

درعا على موعد مع تسويات جديدة

أجرت اللجنة الأمنية التابعة للنظام السوري في محافظة درعا (جنوب سوريا) اجتماعات عدة خلال الأيام القليلة الماضية، آخرها أول من أمس (الأربعاء)، في مقر الفرقة التاسعة العسكرية بمدينة الصنمين بريف درعا الشمالي، حضرها وجهاء ومخاتير ومفاوضون من المناطق الخاضعة لاتفاق التسوية سابقاً وقادة من اللواء الثامن المدعوم من قاعدة حميميم الأميركية. مصدر مقرب من لجان التفاوض بريف درعا الغربي قال لـ«الشرق الأوسط»: «قبل أيام دعت اللجنة الأمنية التابعة للنظام السوري في محافظة درعا، ممثلةً بمسؤول جهاز الأمن العسكري في درعا، العميد لؤي العلي، ومحافظ درعا، لؤي خريطة، ومسؤول اللجنة الأمنية في درعا، اللواء مفيد حسن، عد

رياض الزين (درعا)
شمال افريقيا مشاورات مصرية مع 6 دول عربية بشأن سوريا والسودان

مشاورات مصرية مع 6 دول عربية بشأن سوريا والسودان

أجرى وزير الخارجية المصري سامح شكري اتصالات هاتفية مع نظرائه في 6 دول عربية؛ للإعداد للاجتماع الاستثنائي لوزراء الخارجية العرب بشأن سوريا والسودان، المقرر عقده، يوم الأحد المقبل. وقال المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية، السفير أحمد أبو زيد، في إفادة رسمية، الخميس، إن شكري أجرى اتصالات هاتفية، على مدار يومي الأربعاء والخميس، مع كل من وزير خارجية السودان علي الصادق، ووزير خارجية السعودية فيصل بن فرحان، ووزير خارجية العراق فؤاد محمد حسين، ووزير خارجية الجزائر أحمد عطاف، ووزير خارجية الأردن أيمن الصفدي، ووزير خارجية جيبوتي محمود علي يوسف. وأضاف أن «الاتصالات مع الوزراء العرب تأتي في إطار ا

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.