عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)
أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)
TT

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)
أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير.
ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها.
فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً. تتحلل بقدر الله وتتبد أبداً، لتخلق بفوضاها نظاماً دقيقاً معجزاً، ليكون قدر ذاك النظام الدقيق المعجز أن تمضي فيه سنة الاهتراء والإهلاك حتى يفنى».
إذن هو نظام مُحكَمٍ خُلِقَ وكأنه من فوضى، ليهترئ إلى فوضى عارمة - وكأنها لا تفضي إلى نظام - حتى يكون في تحلله واهترائه فناؤه ونهايته نحو «مُفردة» جديدة، ليكون خلقاً جديداً، ليكون بعثاً جديداً، ليكون «البعث الحق» كما نص التنزيل الحكيم، تلك هي قصة الكون كما تتلمسها عقولنا الآن.
خالقُ فرد «واحد» في عدده. متفرد «أحد» في كيفه. «صمد» لا يعتريه تغير ولا يطال كماله نقص، خلق كل الشيء المتعدد على غير تفرد ولا كمال، كل الشيء يهترئ ويتغير ويهلك إلا وجهه، «فكل شيء هالك إلا وجهه».
خلق لكل شيء جَدَلَهُ، وخلق الإنسان الذي هو «أكثر شيء جدلاً».
سابين هوسينفلدر، العالمة الألمانية وصاحبة كتاب «الفيزياء الوجودية»... تتساءل في إطار ما أسمته فيزياء «الوقت والإهلاك والخلود»، لماذا نهرم ونشيخ كلما مرَّ علينا الوقت، لماذا لا نصبح أكثر شباباً أو نبقى على حالنا دونما تغير؟
تتساءل عن ذاك السر الغامض - أو قل التناقض - في أسس علم الفيزياء. تلك التي تقول إنه بالنظر إلى القوانين التي تحكم الأجسام المجهرية المكونة للمادة، كالجزيئات الأولية، فهي قوانين تصح دلالاتها ونتائجها في أي اتجاه للزمن المستقبل كان أو الماضي.
ورغم أننا نحن البشر وكل مخلوق حولنا من نبات وجماد بل وعوالم وأكوان، كل ذلك خلق من ذات الجزيئات الأولية، فإنه لا يصح فيه ذات الحكم لذات القوانين، وتبقى معضلة التزمن حاكمة فينا.
نحن رهينة تيار الزمان الذي يجرفنا ولا نملك منه فكاكاً ولا له مقاومة أو إيقافاً. إننا نسبح في اتجاه واحد للزمان وكأننا مقيدون بسلاسل من زمن تدفعنا نحو المستقبل على سهم من الوقت يسير نحو الأمام وليس أبداً إلى الخلف.
تتغير أماكننا. تتغير قراراتنا ورغباتنا. تبقى أمنياتنا متعلقة بأهداب أمل بالية ترجو ألا نَهرم وألا نشيخ، وألا يطالنا فعل الزمن كما نعيه ونسميه ونقر به، ولكن نبقى رهائنه، مدفوعون به.
نحن لم نَعِ من حياتنا إلا أن ما مضى قد مضى، وأن كل فعل جرى قد انقضى، لا نملك له نسخاً وعَوداً لما كان.
فإن سقط منا حجر في الماء نعلم يقيناً استحالة أن يعود أدراجه من الماء إلى أيدينا. وإن اشتعل عود ثقاب قُدَّ من جذع شجرة اجتثها حطاب في غابة. نعلم أنه من «الجنون» كما نظن أن نرى تداركاً فيزيائياً يسمح لنا أن نلج باباً نخبر فيه عود الثقاب - وبفعل ممارسات إنسانية شبيهة كالتي أتت به مشتعلاً - ينطفئ ملتئماً مستعيداً مادته الأولى وهيئته الأولى، ثم ما يلبث أن يلتحم بجسد الجذع الذي قُدَّ منه مُستعيداً أصل موضعه... ثم ما يلبث ذلك الجذع أن يهتدي لجِذره فينتصب به حياً رياناً في تربة غابته التي كانت.
إذن ما الذي يجري وقوانين الفيزياء التي تحكم جزيئات الطبيعة في كل خلق الله واحدة، ذهاباً وإياباً، ماضٍ ومستقبل، لا تنطبق على ذاك الخلق ذاته.
قال الفيزيائيون إن الإجابة في تراتبية تلك الجزيئات في حال المخلوق الواحد. فالماء هو الماء أكان ثلجاً صلباً. أم رقراقاً يسري. أم بخاراً يحمله السحاب. الفارق أن تراتبية جزيئات الماء في كل حال من صلب لسائل لغاز قد اختلفت وتغيرت. أو كما يقولون تغيرت «الإنتروبيا». تغير الترتيب بين نظام وتراتبية، وبين فوضى وعشوائية. بين تماسك وبين إهلاك.
وتلك «الإنتروبيا»... تلك الفوضى والعشوائية ومغادرة النظام والتراتبية، في زيادة لا تنتهي أبداً. كسهم الوقت وسريانه لا نملك لها منعاً ولا تحولاً. وإن قد نملك لها إبطاءً!
إذن هكذا ستنتهي الأكوان. إنتروبيا الكون في زيادة أبدية. إذن هو إهلاك وشيخوخة وفقدان قدرة وفقدان طاقة حتى يتحلل كل شيء وتنطفئ كل جذوة طاقة في كل كون. ليكون هناك خلق جديد. بعث جديد. بعث حق. لا هلاك بعده ولا تحلل فيه.
هل استسلم الإنسان لذلك؟ أكاد أقول إن علماء الأحياء ما زالوا يعملون بجد في أبحاث ترجو تأجيل الشيخوخة أو منعها. علماء الفيزياء يقولون تلك مهمة مستحيلة.
علماء الأحياء يجادلون، نستطيع أن نقهر الشيخوخة، أن نؤخرها كثيراً على الأقل. أي نستطيع أن نبطئ الإنتروبيا، وأن نخفف الاهتراء وإن لم نوقفهما، وعلماء الفيزياء يقولون، في الكون سيبقى الإهلاك أمضى، حتى وإن قلَّ في خلق سيزيد حتماً في غيره.
حتى الأدب... حينما أراد أن يقرأ في هذا السؤال بفلسفة خيال الأديب، وقف منه موقف الحائر العاجز لا تسعفه شطحات الخيال... فها هو إسحق أزيموف في روايته الخيالية «السؤال الأخير»، يضع بطل روايته أمام حاسوب ليسأله: «هل هناك وسيلة لنوقف التحلل والإهلاك وفوضى الجزيئات في الكون؟ هل ممكن أن نوقف الإنتروبيا في الكون الكبير كي لا يشيخ؟»، وعلى مدار مليارات السنين - كما يصفها خيال الأديب - تأتي إجابة الحاسوب، أن ليست لديه معلومات كافية للإجابة عن السؤال.
يبقى الحال في خيال الأديب هكذا إلى أن تحلل كل شيء وخمدت كل طاقة، وفني كل نجم وبقي في الكون ظلام بلا حياة... فتأتي إجابة الحاسوب «فليكن خلقاً جديداً».
إذن التحلل والشيخوخة والنقص والاهتراء والهلاك. قَدَرُ كل خلق متزمن. قَدَرٌ لا فكاك منه... قدرٌ هو في حقيقته «جدل». صراع ومجالدة ومجادلة بين البقاء أو الهلاك.
هو قَدَرُ صراع المتناقضات في الشيء الواحد. ألم يأتِ في التنزيل الحكيم القول الحق عن «مضغة مخلقة وغير مخلقة» في أطوار خلق الإنسان. وكذلك عن حي يُخلَق من ميتٍ ومَيَّتٍ يُخلَق من حي في الحديث عن أطوار خلق النبات. «إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون».
وهنا نظن الوحي ينتصر لمقاربة الفيزيائيين. بتأكيد صراع المتناقضات في الشيء الواحد، أو قل جدل الطبيعة بين بقاء وهلاك في الشيء الواحد، وبالإقرار بالإنتروبيا حقيقة حاكمة.
ما ذاك الصراع في جُلِ مخلوقات الحق سبحانه، وجدلها السرمدي بين البقاء والهلاك، وما سمي اهتراءً أو تحللاً أو إنتروبيا، إلا عينُ «تسبيح» المخلوق - الهالك المتزمن - للخالق الحق السرمدي المنزه عن كل نقص وكل هلاك.
وهو ذات الصراع وذات الجدل وذات التسبيح، الذي يعطي للزمن معناه وحقيقة وجوده.
ولأن الله فوق الزمن، وسبحانه أن يتزمَّن والسموات والأراضين يتزمَّنّ.
ولأنه سبحانه سرمدي منزه عن النقص وعن الهلاك، وكل شيء هالك إلا وجهه.
والأكوان بما فيها ومن فيها - السماوات السبع والأرض ومن فيهن تهترئ وتتحلل وتفنى بفعل الإنتروبيا. إلا هو سبحانه.
ففي عين تنزههه عما يُلِمُ بخلقه عينُ تنزيههم له. «عين تسبيحهم له». وإن لم نفقهه.
«تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً»
سبحانه من خلقنا إنساناً يُسبحِه فطرة... حين أمضى فينا جدل الطبيعة، شيخوخة واهتراءً وتزمناً.
ويسبحه عقلاً. حين قدرت حِكمَته أن نقارب بعقولنا الحق قبولاً وإعراضاً، فكان لنا فوق جدل المخلوقات جدل ليس لغير الإنسان منه حظ التكريم... وليكون «الإنسان أكثر شيء جدلاً».
فَكِّرُوا تَصِّحُوا.
- باحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

تركيا على الخط السريع للتصادم بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة

TT

تركيا على الخط السريع للتصادم بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة

متظاهر سوري يرشق نقطة عسكرية تركية عبر الشريط الشائك عند معبر ابن سمعان شمال حلب (أ.ف.ب)
متظاهر سوري يرشق نقطة عسكرية تركية عبر الشريط الشائك عند معبر ابن سمعان شمال حلب (أ.ف.ب)

يصعبُ وضع خط زمني واضح للتطورات المتلاحقة التي قادت إلى حوادث العنف الأخيرة ضد اللاجئين السوريين في تركيا، وما ترتب عنها من مظاهرات ضد الوجود التركي ضمن مناطق سيطرة المعارضة السورية في مناطق الشمال السوري.

في تلك الحوادث يتبدل موقع السوريين بين كونهم ضحايا لموجات العنصرية في تركيا، وضحايا التهميش في مناطق سيطرة المعارضة. ولولا الزمن الفاصل بين تلك الحوادث وأسبقية وقوع إحداها قبل الأخرى وإن بأيام معدودة أو ساعات أحياناً، لأمكن اعتبار أي منها سبباً لما بعدها أو نتيجة لما قبلها. لكن الواقع المعاش ليس بهذا الوضوح.

خطورة تسريب البيانات

في الأيام القليلة الماضية، تراجعت حدة الصدامات المباشرة على خلفية أحداث قيصري، لكن بعض المؤشرات المقلقة بقيت تظهر بين الحين والآخر، سواء على شكل مزيد من «الأحداث الفردية» كاعتداء في مطعم هنا أو حديقة عامة هناك، إلى أن جاء تسريب بيانات أكثر من 3 ملايين سوري مقيم في تركيا عبر حساب على منصة «تلغرام» باسم «انتفاضة تركيا» ليدق ناقوس خطر من نوع جديد. فقد تضمنت البيانات، معلومات حساسة، مثل الأرقام الوطنية للأشخاص السوريين دون سواهم من المقيمين الأجانب، واسم الأب والأم، ومكان وتاريخ الولادة، وعنوان السكن ورقم الهاتف. وهذه قواعد بيانات شخصية يفترض أنها محفوظة لدى دوائر الهجرة بالدرجة الأولى بالاضافة إلى الجهات المختصة الأخرى، ويأتي تسريبها ليضع مزيداً من الضغوط على السوريين؛ لأنه يعرّض سلامتهم للخطر. فليس سراً أن هجمات في قيصري قبل 3 أيام فقط على هذا التسريب، ترافقت مع تداول المهاجمين معلومات محددة عن أماكن السوريين وأرزاقهم؛ ما يشكل تنبيهاً خطيراً لما قد يحدث مع انكشاف هذه البيانات وإمكانية استخدامها للملاحقة والترهيب.

اللافت، كان تعامل السلطات التركية مع المسألة وكأنها مجرد خطأ تقني؛ إذ أعلنت دائرة الهجرة أن المعلومات الواردة في البيانات «قديمة نسبياً»، ثم قامت بحذف القناة عن «تلغرام»، في حين سارعت وزارة الداخلية بإعلان أن المسؤول عن التسريب هو طفل يبلغ من العمر 14 عاماً. وأضاف بيان الداخلية أنه «سيتم القبض على جميع الذين يحاولون خلق الفوضى، ومن يستخدمون الأطفال في استفزازاتهم».

أب وأطفاله يعبرون أمام محال مغلقة لسوريين في ولاية بورصة التركية (أ.ب)

ليلة الرعب في قيصري

قبل حادثة تسريب البيانات كانت الشرارة التي أطلقت موجة العنف الأقوى ضد اللاجئين السوريين في تركيا، وما لحقها من رد فعل سوري على الرموز والمؤسسات التركية في الشمال السوري وأدت إلى اشتباكات مباشرة أودت بحياة 11 سورياً على يد القوات التركية في مناطق الشمال السوري.

فقد انتشر مقطع فيديو في وسائل التواصل الاجتماعي لشاب يتحرش جنسياً بطفلة في مدينة قيصري التركية مع إشاعة أنباء مغلوطة بأن الرجل سوري والطفلة تركية. خلال ساعات، كانت مجموعات تركية شبه منظمة بدأت في تنفيذ هجمات استهدفت بالحرق والتكسير سيارات ومحال تجارية ومساكن للسوريين في قيصري، وكل من يشتبه بأنهم سوريون في الشوارع. وعلى رغم تأكيد ولاية قيصري بأن الرجل سوري، وقد جرى اعتقاله، وأن الطفلة سورية وتم نقلها إلى أحد مراكز الحماية التابعة لوزارة الأسرة، فإن الهجمات ضد السوريين لم تتوقف، بل توسعت إلى أكثر من مدينة تركية واستمرت بضعة أيام تعرّض خلالها حتى السياح في مدينة كإسطنبول لهجمات ومضايقات.

هذا الجو دفع مئات الآلاف من اللاجئين إلى ملازمة منازلهم، وإسدال الستائر والاعتماد على خدمات التوصيل والحرص على الهدوء والتحدث بالتركية في المواصلات العامة عند ضرورة الانتقال أو الامتناع عن التحدث مطلقاً في الشوارع أو الأماكن العامة. الحدائق والشوارع في المدن ذات الكثافة السورية خلت تماماً من العائلات وأُغلقت المحال التجارية ولم يعاد فتحها حتى وقت الكتابة. أما الذين يملكون سيارات خاصة واضطروا إلى الخروج في هذه الفترة، فقد ركنوا سياراتهم خوفاً، واعتمدوا على المواصلات لكون سيارات الأجانب في تركيا تحمل رمزاً خاصاً يبدأ بحرف M أو MP وبالتالي يمكن تمييزها بسهولة في الشوارع.

ولعل أكثر المتضررين كانوا أصحاب المحال التجارية وعمال المياومة في مصانع الألبسة أو القطاع الزراعي الذين لم يخرجوا للعمل منذ نحو أسبوع تقريباً، وهم الحلقة الأضعف بشكل عام، ولا سيما في أوقات كهذه. فلحظة اللقاء النادرة بين الأحزاب السياسية المتخاصمة، هي لدى تحميل اللجوء السوري مسؤولية الأزمات في البلاد، وخصوصاً الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها تركيا منذ أكثر من سنتين، بما في ذلك التضخم الذي بات يتجاوز 70 في المائة.

تحريض عفوي - منظّم

أشارت صحيفة «يني شفق» التركية إلى أن المشاركين بأعمال العنف ضد السوريين كانوا يتواصلون عبر 4 مجموعات في «واتساب» كانت تُستخدم سابقاً للتهرب من عمليات الشرطة الروتينية، وتضم كل منها نحو 500 شخص.

اللافت، أن هذه المجموعات انقلبت فجأة للتحريض ضد السوريين، ومشاركة مواقعهم، وتخطيط وتنظيم الهجمات عليهم وعلى أرزاقهم. وكالة «الأناضول» الرسمية التركية، نقلت في اليوم التالي لأحداث قيصري عن وزير الداخلية التركي علي يرلي قايا، خبر توقيف 1065 شخصاً في أنحاء البلاد، وحبس 28 منهم، وصدور أمر فرض الرقابة القضائية بحق 187 شخصاً. الوزير أوضح أن قوات الأمن التركية أوقفت 855 شخصاً في ولاية قيصري وحدها، تبين أن 468 منهم لديهم سوابق جنائية.

ويقول المحامي السوري والناشط المدني محمد الصطوف إن هذه الخلفيات للموقوفين تعطي صورة عن الشبكات المسؤولة عن الهجمات المنظمة وطريقة عملها، لكنها لا تفسر المشاركة العفوية لمئات الأتراك العاديين، في الاعتداء على المنازل والأشخاص.

تفسير الحكومة بحسب الصطوف، وهو يحمل الجنسية التركية أيضاً، ينكر وجود مشكلة في تركيا، تتعلق بكراهية الأجانب عموماً وبينهم السوريون. فطول أمد اللجوء السوري، والاحتكاكات اليومية والثقافية، ساهمت مع مرور الوقت في تسهيل لوم الأتراك العاديين للسوريين وتحميلهم مسؤولية تردي الظروف المعيشية خلال السنوات الأخيرة.

وتكشف أحداث قيصري، عن درجة الاحتقان ضد الأجانب، وإمكانية انفجاره في أي لحظة وأي مكان، لأسباب قد تكون مصطنعة، ولأهداف تسعى أطراف ثالثة لاستغلالها وتوجيهها. وفي الوقت الذي لا يمكن فيه الاكتفاء بتضخيم النزعة القومية التركية، ورهاب الغرباء، وخطاب الكراهية المنتشر اليوم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لتفسير ما يحدث، فإن الخطاب المضاد الساعي للتهدئة قد يكون مبالغاً في تبسيطه أيضاً.

فالقول إن الاحتجاجات هي اعتداء على «الأخوة التي تربط بين الشعبين التركي والسوري»، كما قالت هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات (İHH) التركية في بيان لها يبدو أقرب لإغماض العيون عن الوقائع والاستماع للأمنيات. كما أن التراشق السياسي اليومي بين صانعي القرار والمعارضة في تركيا، والإعلان الأخير عن تقارب بين أنقرة ودمشق ثم عن لقاء مرتقب بين الرئيسين التركي رجب الطيب أردوغان والسوري بشار الأسد، بغرض إعادة السوريين إلى بلادهم بمعزل عن أمنهم، يضع اللاجئين، في موقع ضعيف ومكشوف، ولا يمنحهم أي احساس بالاستقرار والأمان.

متاجر سورية تعرضت للاقتحام والتكسير في أيار الماضي (الشرق الأوسط)

من يدفع أثمان اللجوء؟

بحسب بيانات دائرة الهجرة التركية، هناك 3 ملايين و114 ألفاً و99 سورياً يحملون بطاقات الحماية المؤقتة مقابل مليون و125 ألفاً و623 شخصاً يحملون تصاريح إقامة تترواح بين إقامات «سياحية» وأذونات عمل، وهذا لا شك رقم كبير للغاية في أي مجتمع مُضيف.

«لكن اللجوء السوري الطويل في تركيا ليس سبباً لتعثر الاقتصاد التركي في قطاعات كثيرة كالعقارات والصناعة وتداولات البورصة، ولا يتحمل مسؤولية التضخم المالي»، يقول الباحث الاقتصادي والأستاذ في جامعة لوزان جوزيف ضاهر لـ«الشرق الأوسط». ويضيف ضاهر: «على العكس من ذلك، ساهم اللجوء السوري في رفد سوق العمل التركية باليد العاملة الرخيصة، في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات؛ ما أدى إلى مزيد من تراكم رأس المال والأرباح لرجال الأعمال الأتراك». وبالتالي «لم يكن اللجوء سبباً في زيادة نسب البطالة الكلية ولا في تجويع الأتراك، كما تدعي عديد من الجهات الفاعلة السياسية التركية ذات التوجهات القومية والعنصرية». ويوضح ضاهر أن اللجوء السوري في تركيا، «ساهم في بدايته، بحدوث نمو في الاقتصاد التركي، مع هجرة كثير من الصناعيين ذوي الملاءة المالية الصغيرة والمتوسطة، من حلب وريفها ليفتتحوا ورشاتهم ومصانعهم جنوب تركيا».

وهؤلاء استثمروا أموالهم في الاقتصاد التركي واستعانوا بيد عاملة سورية وتركية على السواء ضمن شروط الاستثمار الاجنبي المعمول بها حتى الآن والتي تفرض توظيف 5 أتراك مقابل كل عامل أو موظف أجنبي أياً كانت جنسيته. لكن هنا أيضاً وبسبب التضييق الحكومي والمجتمعي وغياب أي آليات ناظمة واضحة اضطر كبار الصناعيين والمستثمرين السوريين، لا سيما في قطاعات صناعة النسيج والقطن والألبسة، بالإضافة إلى الصناعات الغذائية، إلى نقل مصانعهم وأعمالهم إلى مصر.

وفي 2014 بدأ تدفق أموال من نوع آخر إلى تركيا، وهي أموال المانحين الدوليين لدعم اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة لهم. ولعل السبب الفعلي كان وقف قوافل الهجرة غير الشرعية براً وبحراً إلى أوروبا فيما عرف حينها بـ«أكبر أزمة لجوء» في التاريخ الحديث، لكن تركيا لم توفر جهداً في «استخدام قضية اللاجئين السوريين للضغط على الاتحاد الأوروبي، لتقديم تنازلات سياسية لتركيا، وأيضاً للحصول على مزيد من التمويل» بحسبما يقول ضاهر، مضيفاً: «كان لتركيا حصة وازنة في المساعدات الدولية بوصفها إحدى كبريات الدول المضيفة للسوريين».

وبحسب الأرقام المتوفرة على موقع المفوضية الأوروبية لشؤون اللاجئين، وصل إجمالي مساعدات الاتحاد الأوروبي المخصصة لتركيا منذ عام 2011 ما يقارب 10 مليارات يورو. بينها 6 مليارات يورو بين عامي 2016 و2019، و535 مليون يورو في تمويل الجسر الإنساني عام 2020، و3 مليارات يورو كتمويل إضافي للفترة بين 2021 و2023.

لكن الحرب الروسية ضد أوكرانيا، بحسب ضاهر، «غيّرت أولويات المانح الأوروبي، وأدت إلى ما بات يعرف بـ(تعب الممول)؛ ما تسبب بتراجع كبير في عدد المنظمات المدنية العاملة مع السوريين في تركيا والمعتمدة في تمويلها على المساعدات الأوروبية».

وعلى رغم تراجع الاهتمام الغربي بدعم اللاجئين السوريين في دول الجوار وبينهم تركيا، فإن ذلك «لا يفسر فعلياً الأجواء المشحونة بالعنصرية الموجهة ضدهم في المجتمع التركي. إذ بالأصل، نسبة كبيرة من السوريين في تركيا لا يقيمون في المخيمات، ولا يتلقون دعماً مالياً مباشراً، بل يعتمدون على أنفسهم في العمل، وبالتالي في توليد دخل يتم ضخه في الاقتصاد التركي»، كما يذهب ضاهر.

عودة طوعية وترحيل ممنهج

في السنوات القليلة الماضية تبنت أحزاب المعارضة التركية وحتى الحكومة التركية بمختلف تياراتها الشعبوية، خطاباً ولغة وسياسة أكثر تشدداً ضد اللاجئين السوريين، تبخر معها الكثير من آثار التضامن السابقة. وخلال السنة الأخيرة وحدها، أُعيد إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية شمال غربي سوريا، نحو نصف مليون لاجئ، ضمن سياسة ترحيل ممنهج تسمى «العودة الطوعية»، ولكنها تجمع بين الترغيب والإجبار، والملاحقة والتضييق، والحملات المباغتة لاعتقال وتوقيف المخالفين لقواعد الحماية المؤقتة.

سوريون ينتظرون العبور إلى سوريا من تركيا عند معبر بالقرب من مدينة أنطاكيا فبراير 2023 (أ.ب)

وإن كان كل ذلك مفهوماً في معرض التراشق السياسي، إلا أنه يعجز عن تفسير بيان صادر عن 41 منظمة غير حكومية تركية في مدينة غازي عينتاب التركية، في 17 يونيو (حزيران) الماضي، يُحذّرُ من «تحولات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية تهدد هوية المدينة ومستقبلها، وسط حياة لم تعد تُطاق تحت وطأة تدفق اللاجئين السوريين».

في هذا السياق، يقول الصطوف لـ«الشرق الأوسط»: «إن البيان شكّل صدمة للمشتغلين في العمل الإنساني. ولكن، حتى المنظمات المدنية، يمكن لها تحت ظروف شحن سياسية خانقة كما هو الوضع اليوم، أن تخضع لضغط الشارع ومزاجه، بما لا يستقيم مع أهدافها في العمل المدني. الأمر ذاته، تمكن ملاحظته معكوساً، في صمت المنظمات السورية غير الحكومية العاملة في تركيا، من تصاعد موجة العداء للاجئين السوريين، التي تخشى من سحب ترخيصها أو إيقافها عن العمل أو ملاحقة أعضائها».

احتجاجات الشمال وعقدة المعابر

وسط الأجواء المشحونة والقلق الذي يعيشه السوريون في تركيا، جاء الحديث عن محاولة تقارب جديدة بين أنقرة ودمشق، بمبادرة عراقية ورعاية روسية ليؤجج مزيداً من المخاوف والتكهنات، لا سيما في الشمال السوري الخاضع لسيطرة تركية.

فاندلعت مظاهرات حاشدة في ريف حلب الشمالي منددة بالوجود التركي، نتيجة عدم التزامه بدوره كضامن للمعارضة في اتفاق آستانة، ومتهمة إياه بالتخلي عن مناطق المعارضة في الشمال الغربي لصالح النظام.

جنود أتراك عند نقطة عسكرية داخل الحدود مع سوريا في شمال حلب (أ.ف.ب)

الجانب التركي رد بإغلاق المعابر الحدودية، وقطع الإنترنت والاتصالات عن مناطق المعارضة. المظاهرات الغاضبة، تحولت بسرعة محاولاتٍ لاقتحام بعض المعابر مع تركيا، وأحداث عنف وتكسير لشاحنات تحمل لوحات تركية في ريف حلب الشرقي، وتمزيق للأعلام التركية. تصاعد لم يتوقف إلا بعد هجوم على قاعدة عسكرية تركية في مدينة عفرين شمال غربي حلب، ردّ جنودها بإطلاق نار مباشر تسبب بمقتل 4 من المهاجمين وإصابة العشرات.

كذلك، تخشى أوساط المعارضة في شمال غربي سوريا أن يكون أي تقارب على حساب هذه المناطق التي يقطن فيها نحو 6 ملايين سوري أكثر من نصفهم من النازحين والمهجّرين قسرياً من مناطق النظام. فبالنسبة إليهم، يبقى الوضع القائم على مساوئه وعلاته، أفضل من العودة إلى سيطرة النظام العسكرية والأمنية وإمساكه بالمعابر التي تعدّ شريان الحياة هناك.

وكانت محاولة التقارب السابقة بين النظام السوري وتركيا، تسببت بموجة احتجاجات في مناطق المعارضة، قبل أن تتوقف المحاولة في 2021؛ نتيجة إصرار النظام على انسحاب تام للقوات التركية من الأراضي السورية.

وفيما فُسّر كخطوة جديدة ضمن مسار التطبيع السريع، عودة الحديث عن إمكانية افتتاح معبر أبو الزندين الذي يربط مناطق الحكومة المؤقتة (المدعومة تركياً) بمناطق النظام، أمام الحركة التجارية، علماً أن أبو الزندين هو المعبر الوحيد الذي لا يزال مغلقاً منذ مارس (آذار) 2020 نتيجة انهيار محاولة التقارب حينها بين أنقرة ودمشق.

وسرعان ما تحولت قضية المعبر أزمةَ ثقة بين مناطق المعارضة والوجود التركي فيها، تدخلت فيها أطراف متعددة لغايات متناقضة، وتطورت إلى اشتباكات مسلحة، للمرة الأولى بين الطرفين.

وتشكّل المعابر، الشرعية وغير الشرعية، بين مناطق النظام والمعارضة، عقدة مركبة، تتداخل فيها عوامل محلية تتعلق بنزاعات بين فصائل المعارضة المسلحة المنضوية تحت راية الجيش الوطني المدعوم تركياً، للسيطرة على إيرادات المعابر المالية، وما يسببه ذلك من فوضى أمنية وعدم استقرار عسكري.

كذلك، هناك عامل يتعلق برغبة روسيّة في استعادة الحركة على الطريق الدولية حلب - اللاذقية M4، وفتح المعابر بين مناطق المعارضة ومناطق النظام، كخطوة أولى لأي تطبيع محتمل. وبحسب صحيفة «الوطن» السورية شبه الرسمية، سيعود ذلك بالانتعاش الاقتصادي لمناطق النظام، وإعادة فتح طريق ترانزيت بين غازي عنتاب التركية مروراً بأعزاز في ريف حلب، إلى معبر نصيب عند الحدود الأردنية. ويتيح ذلك إمكانية تدفق البضائع التركية إلى الخليج العربي براً عبر سوريا، بعد انقطاع استمر 13 عاماً.

جهاد يازجي، باحث مختص بالاقتصاد السوري، قلل في حديثه لـ«الشرق الأوسط» من التوقعات الاقتصادية المتفائلة لفتح المعبر أمام الحركة التجارية وقال: «انتقال البضائع لم يتوقف بين الطرفين، حتى مع إغلاق المعابر الرسمية، والتبادل التجاري لم ينقطع، إما عبر المعابر غير الشرعية أو عبر طرق طويلة تمر بمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)»، موضحاً أن «أهمية افتتاح المعبر، ليست اقتصادية في هذه المرحلة، وإنما سياسية لأن المتضرر الفعلي هي شبكات التهريب التي تنشط في المنطقة، والحواجز الأمنية والعسكرية». وبالتالي، إذا صدقت الوعود التركية حول إنشاء إدارة مدنية بالكامل لإدارة المعبر، فالمستفيد بالدرجة الأولى بحسب يازجي هم «منتجو البضائع المحليون؛ لأن ذلك يسرع من حركة نقل البضائع، ويخفف من تكلفتها».

لكن الاحتجاجات المناهضة لمسار التطبيع بين أنقرة ودمشق التي شهدتها مدينتا الباب وأعزاز بريف حلب كشفت الأطراف المشاركة.

متظاهر سوري أمام شاحنة تركية محترقة عند الحدود السورية - التركية (أ.ف.ب)

فالتشكيلات المدنية شاركت في المظاهرات لأسباب سياسية وتضامنية مع اللاجئين في تركيا، في حين أن أكثر من عارض افتتاح المعبر بشكل مباشر هي الشبكات المرتبطة بفصائل الجيش الوطني خشية خسارة مزدوجة؛ نقل إدارة المعبر لجهة مدنية، وانخفاض مردود عمليات التهريب نتيجة افتتاحه. وبالفعل، هاجمت مجموعة من القوى العسكرية المنظمة، المحسوبة على فصائل الجيش الوطني، المعبر، وعطّلت العمل به، بحسبما قال مصدر عسكري مطلع لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح المصدر أن «تلك الفصائل سواء كانت من عشائر دير الزور في المنطقة الشرقية، أو من ريف حلب، فهي متجذرة في المنطقة، ولها هرمية واضحة وعصبة تنظيمية، وقادرة على الدفاع عن مصالحها». وبالتالي، فإن «مهاجمة المعبر تدخل ضمن محاولة الضغط على الجانب التركي وفرض حصتها أو مصالحها».

وعلى أثر ذلك، تدخلت الشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني (المدعوم من تركيا)، واعتقلت بعض المشاركين في الهجوم على المعبر وتعهدت بملاحقة «من تسوّل له نفسه فعل ذلك مجدداً»، وسط أنباء بإعادة المعبر إلى رعاية مباشرة من أنقرة؛ لضمان خط التقارب مع دمشق برعاية روسية.

مسلحون من فصائل المعارضة السورية في منطقة الباب التي شهدت احتجاجات ضد الوجود التركي (أ.ف.ب)

طريق سريع إلى باب موصد

خلال أقل من عشرة أيام، اندلعت موجات متعاقبة من الفوضى والعنف في مجتمعات محلية تقطن مناطق مختلفة على طرفي الحدود السورية - التركية، وانقلبت معها حياة مئات الآلاف وتعرّضت للخطر. الاكتفاء بتوصيف الأتراك بالعنصرية، كالاكتفاء بتوصيف السوريين بالضحايا، لن يقود إلى أي إمكانية لتجاوز المحنة الراهنة، وذلك كالإغراق بإنكار الوقائع والتغني بالأخوة بين الشعوب.

تراجع الاقتصاد التركي، وإن كان اللاجئون السوريون لا يتحملون مسؤوليته، إلا أنهم ضحاياه الاجتماعيين، بوصفهم الحلقة الأضعف. كما أن تصاعد العنصرية ضدهم، ليس سمّة خاصة بشعب ما؛ إذ يكفي النظر في ما يتلقاه اللاجئون في بقية دول الجوار، لمعرفة أن الحال من بعضه.

كذلك، فإن الفساد المستشري شمال غربي سوريا، وفشل تشكيلات المعارضة في إنتاج بدائل حوكمة تداولية، ليس ذنباً تركياً خالصاً وإن كان الأتراك يتحملون مسؤولية كبيرة في تغليب المحسوبية والاستزلام في علاقاتهم مع السوريين. فشل المعارضة في إقامة نموذج للحكم العادل في مناطقها، يقطع مع إرث النظام السوري في العنف والفساد، أمر ليس ثانوياً، ويجب أن يتحمل السوريون مسؤوليتهم عما آلت إليه أحوالهم.

وإن كانت الحملة العنيفة الأخيرة ضد اللاجئين تم احتواؤها اليوم، فلا يمكن التنبؤ بموعد ومكان موجتها المقبلة، في غياب أي حل عملي على الأرض، يقي مجتمع اللاجئين والمجتمعات المضيفة، خطر الصدام مجدداً.

* صحافي وباحث سوري