حيدر حيدر... عناد الأمل

«يوميات الضوء والمنفى» ولدت من مخاض نصف قرن

حيدر حيدر
حيدر حيدر
TT

حيدر حيدر... عناد الأمل

حيدر حيدر
حيدر حيدر

في كتابه «يوميات الضوء والمنفى»، الصادر حديثاً عن دار «ورد»، يبدو حيدر حيدر «جلجامش» حديثاً، ناضل، سافر، كتب. وفي كل ما يعمل يبحث عن المستحيل، رأى الكثير ولم يفقد عناده. في رحلته تآكل الوطن من تحت قدميه ولم يبق له سوى حصين البحر وطناً مؤكَّداً؛ تلك القرية الصغيرة التي أنجبته وأنجبت سعد الله ونوس، هي حصنه الأخير المؤكَّد حيث كان يعود إليها كل مرة، وحيث يعيش الآن منذ عودته النهائية إلى سوريا عام 1986.
بالمولد (1936) يبدو حيدر طليعة مَن سيُعرَفون بعد ذلك بـ«جيل الستينيات» الأدبي العربي؛ ذلك الجيل الذي تعانقت في حياته السياسة والكتابة بشكل كبير. ولعلَّها مصادفة أن يولَد صنع الله إبراهيم بعده بعام، وأن يكونا أكثر الأدباء العرب تمسكاً بالسياسة ممارسة ونصاً إلى اليوم.
يُلخص حيدر رؤيته ورؤية الكثيرين من كُتّاب جيله في الستينيات والسبعينيات: «ما كان الأدب يوماً إلا مَعبراً وجسراً للعمل الثوري»، يعود في موضع آخر ليقرر: «مياه كثيرة مرت تحت الجسر. وفي السماء عبَرت غيوم، وأنا الآن أعبر حالة مراجعة»، ثم يقرر: «الآن أنتمي إلى الأدب بكُلّيتي. هناك أشياء أرغب في قولها في هذه الآونة. رغم أن وطن العرب محكوم بالفاشية العسكرية. وزمن الكتابة والأدب مطوَّق بأنشوطات الإعدام».
هذا الاقتباس الذي سُقته للتو يتعلق بوضعه ورؤيته عام 1977، وفي الجملة نفسها نتبيّن أنه ليس منقطعاً بكُلّيته للأدب، بالإضافة إلى أنه كان منخرطًا في العمل بإدارة الإعلام الفلسطيني في بيروت، لكننا يمكن أن نفهم «الانقطاع» هنا بمعنى الممارسة لا الرؤية. الانقطاع عن العمل الثوري السري وقول ما يريده عبر الأدب، وليس الانصراف التام عن السياسة. في النص نفسه نقرأ: «لست وحيداً. المستقبل والقادمون والمقاومة تضيء. أرى الضوء رغم الظلام الحالك».
عناد الأمل، سمة طبعت حياة حيدر حيدر. بسبب العناد وبفضله لا نكاد نلمح تخلياً سياسياً أو تغييراً في الموقع الذي اختاره حيدر حيدر لنفسه من البداية. وأما الضوء في عنوان الكتاب فنرى انعكاساته هنا وهناك داخل المسيرة. ومض سريع يبرق للمحاصَرين تحت ظلام كثيف ثم يختفي.
في تقديمه يؤكد الكاتب أن هذه (اليوميات/ الاعترافات) وُلدت من مخاض نصف قرن: «ما كنت لأفكر بنشرها في هذه المرحلة الصعبة والوحشية جراء الرقابة وحساسية السلطة السياسية إزاء النقد وكشف المستور». في جملته هذه مفارقة ساخرة؛ فالدول تفرج حتى عن وثائقها بعد مرور عقدين أو أكثر قليلاً، بينما لا يجد الكاتب العربي ما يكفي من حرية لرواية ذكريات عمرها خمسون سنة، في ظل سلطة تراخت قبضتها عن كثير من الأشياء باستثناء الثقافة!
يوجه الكاتب شكره لزوجته أسمى التي أخرجت له خمسة دفاتر عمرها أكثر من خمسين عاماً عمل عليها مراجعة وتحريراً من جانبه، وعملت عليها تنضيداً لمدة شهرين، وجرى حذف لأسباب سياسية، وجرت إضافة.
من يتجاوز هذا التقديم يصعب عليه التسليم باستقرار الكتاب في جنس اليوميات الوارد في العنوان؛ ذلك النوع الذي يُدوَّن عبر الزمن حاملاً وعي المراحل المختلفة تاركًا للقارئ رؤية تطور تلك المسيرة. لكن السرد في «يوميات الضوء والمنفى» أقرب إلى السيرة المتناغمة أسلوبياً بما يتميز به سرد حيدر حيدر من لغة شاعرية في تجلّيها المتقدم، كما نستشعر، في القسم الأكبر من الكتاب، روح النظرة إلى الماضي من اللحظة الحاضرة.
هناك محطات من السرد تحمل تواريخ محددة، باليوم، لكنها قليلة تُخلي موقعها لجنس المذكرات بما تحمل من طعم الذكرى والتفكير في المصائر.
الكتاب، الذي يقع في 310 صفحات، مقسم إلى أربعة أقسام متفاوتة الطول تصنع مساراً دائرياً، من الطفولة في حصين البحر والمراهقة، ثم العودة إلى القرية نفسها، وبين الرحيل والعودة دوران متكرر بين بيروت، والجزائر، وفرنسا، وقبرص.
حظي حيدر بطفولة عادية لكنها قاسية، ليس بها شيء خارق، مقتضَبة طولًا في الكتاب، كما في الحياة. أب محبوب مثقف بمعايير زمانه ومكانه يختطفه الموت، ويترك طفله الشرس مع أم قاسية، ثم نُزوح إلى المدينة للدراسة من بعد المرحلة الابتدائية مباشرة، فلا يعود يعرف من بيت الطفولة سوى فصل الصيف، ولا يتذكر منه سوى حب الطفولة الذي كان مزيجاً من الحب والأخوّة والصداقة.
بصفته كاتباً، حقق حيدر حيدر معجزة الانتشار من قريته منذ العودة والاستقرار فيها، دون أن يضطر للنزوح إلى مدينة كبيرة، ولا يبدو الأمر مصادفة بقدر ما هو عقيدة فكرية وروحية. يكتب: «على أبواب المدن تنتهي حدود البراري، ينتهي عالم الحرية الطلق ليبدأ عالم السجن والخوف وفقدان الأمن والتدجين»، هذه الكلمات كتبها ضد مدينة صغيرة هادئة، لا مدينة مليونية، فما رآه الصبي لم يكن سوى طرطوس. ومن طرطوس إلى معهد المعلمين في حلب وبداية الاهتمام بالسياسة والعمل الثوري، ثم ولع الكتابة الذي سيتضافر فيما يلي من مراحل مع الاهتمام السياسي. وفي الستينيات سيعرف دمشق. كتابة وقراءة وعيش كثيف، بين المسرح والحانات الرخيصة. وتهتز الأرض على وقع الهزيمة العربية المروِّعة في يونيو (حزيران) 1967.
المسؤولون المباشرون سوَّغوا الهزيمة، أما الشعب فلا. تطوَّع الشاب وانخرط في التدريب الفدائي، سبتمبر (أيلول) 1968، ضمن عناصر حزبية، وكانت رؤيته أن الإفساح لحرب العصابات مع إسرائيل هو الحل، لكن الأنظمة العربية في طوق المواجهة فضّلت حروب الجيوش النظامية، وانتصرت في الحزب شراهة السلطة لا التضحية.
هذا الإحباط هو الذي سيحمله إلى الجزائر معلمًا في مدرسة لأبناء الشهداء وسط غابة على مشارف عنَّابة، هنا يسطع النور مجدداً، نور من السماء يستمده المسافر من حالة السفر حيث «خفقة القلب بنشوة السفر كخفقان القلب بوردة الحب. ثمة رائحة تنتشر وتعبق. اهتزازات لا مرئية تهز شغاف الروح». مستبشراً يرى السفر والهجرة حرية وكسراً للقضبان، لكن الوافد فقَد أجنحته عندما نزل إلى الأرض. في الجزائر لا ينظرون للغرباء بارتياح؛ لأنه يذكّرهم بالوجه الكبير للمستعمر الذي خرج مطروداً.
لم تمرَّ الثورة الجزائرية العظيمة على النفوس دون أثر: «كل شيء في الجزائر منوَّر عدا البشر» المجتمع كتيم، والمدرسة حريصة على التعريب بأي ثمن؛ نكاية في المستعمر، فكان الارتماء في الجانب المحافظ من الفكر الإسلامي، ولهذا كانت إقامة حيدر هشة ومهدَّدة دائماً. يستدعيه مدير المدرسة لينبهه إلى الالتزام بحدود المنهج وعدم الخوض في السياسة مع التلاميذ بعد وشاية من أحدهم.
ولم تكن عين الوافد على الجزائر تحديداً، بل على الدول التي تحررت من الاستعمار وتسلَّمها الضباط. عينه في الأساس على مصر وسوريا، وإحباطه من برجوازية عسكرية لا تتمسك بشيء سوى بالسلطة، ولبيروت مكانة خاصة؛ فهي الحلقة الضعيفة المختارة للفوضى دوماً، والتي ظلّت جرحاً شخصياً، يشعر بأنه خانها كلما اضطر لمغادرتها.
كان الانتقال من دولة إلى أخرى ومن مدينة إلى مدينة مرتبطاً بمهمة سرّية، حيث يضيق الوقت على الكتابة دائماً ويتقلص، في فترات طويلة، إلى تسجيل اليوميات.
لا يبدو حيدر غاضباً إلا في مواجهة السلطة العسكرية المعنية بالبقاء أكثر من عنايتها بتقدم أو نصر، وفي مواجهة الإحساس بالعجز أمام اجتياح بيروت. في رسالة إلى ابنه مجد (أكتوبر 1982) يصف قسوة الاجتياح وإحباطه الكبير: «هناك أشياء كثيرة سقطت. أكاذيب وخدائع وانفعالات وديكورات ثورية، وليس هذا السقوط محزناً بقدر ما هو موقظ». هكذا لا يغيب عناد الأمل في أكثر اللحظات قسوة.
في مقابل الغضب السياسي، لا نلمح حيدر الرجل أو الكاتب غاضباً. في الحب يتفهم الطرف الآخر تماماً، يصف الأخطاء المشتركة التي أودت بعلاقة. وفيما يخص رفاق القلم، لا نعثر على صورة سلبية لكاتب من مجايليه إلا مرة واحدة مع كاتب بصفته ناشر أعماله، وغير ذلك لا نرى سوى المودّة الشديدة لأدونيس، والصحبة الحسنة لهاني الراهب وسعد الله ونوس الذي خاطر بنفسه وشارك في تهريبه إلى بيروت، بينما كان مطلوباً من السلطات.
ويأتي يوم تنتهي فيه حياة الهروب، يعود إلى مطار دمشق من لارناكا بجواز سفر يمني في مايو (أيار) 1986، غير مطمئن تماماً، لكنه قال لنفسه: «بعد خسارة بيروت، لا خسارة أخرى تهمّ». والتقى المواطن اليمني المزيف بأسرته الحقيقية ولم يصدِّق نفسه حين عانقهم في مطار دمشق.
لكنه سيصدّق نفسه حين عودته إلى حصين البحر مباشرة بعد حفلٍ أقامه الأصدقاء في دمشق يوم وصوله. وإلى اليوم يعيش كاتباً كسولاً خلفه خيبات الجماعة، يكتب كل عام أو عامين، وإنساناً يحيا، يقرأ، يصطاد، ويتأمل. ولا ينهي «يوميات الضوء والمنفى» إلا بغضبة ضد ما طرأ على ساحة الأدب من تسليع وسباقات.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

خيرية نظمي لـ«الشرق الأوسط»: حياتي الفنّية بدأت بعد الخمسين

خيرية نظمي في مشهد من فيلم «هجرة» (الشرق الأوسط)
خيرية نظمي في مشهد من فيلم «هجرة» (الشرق الأوسط)
TT

خيرية نظمي لـ«الشرق الأوسط»: حياتي الفنّية بدأت بعد الخمسين

خيرية نظمي في مشهد من فيلم «هجرة» (الشرق الأوسط)
خيرية نظمي في مشهد من فيلم «هجرة» (الشرق الأوسط)

في مسيرة بعض الممثلين، تأتي الأدوار المهمّة في وقت متأخر، وهو ما حصل مع الممثلة السعودية خيرية نظمي، بطلة فيلم «هجرة»، التي تحدَّثت بشفافية لـ«الشرق الأوسط»، قائلةً: «حياتي الفنّية بدأت بعد الخمسين»، مُعبّرةً عن سعادتها الغامرة بهذه التجربة التي نقلتها إلى منطقة مختلفة، بوصفها ثمرة رحلة طويلة من التراكم الفنّي والتجربة الإنسانية.

بطولة «هجرة» جاءت في مرحلة شعرت فيها خيرية بأنّ علاقتها بالتمثيل أصبحت أوضح وأكثر هدوءاً. وتتحدَّث عن هذه التجربة بثقة، مؤكدةً أن مرحلة ما بعد الخمسين حوَّلت العمر من مجرّد رقم إلى رصيد من المشاعر والمواقف والقدرة على قراءة الشخصيات بعمق، ممّا غيّر زاوية نظرها للأمور، وجعل اختياراتها أكثر وعياً ومسؤولية.

وللمرة الأولى، سارت خيرية نظمي على السجادة الحمراء في مهرجانات عالمية بصفتها نجمة سينمائية عبر بطولتها فيلم المخرجة شهد أمين «هجرة»، الذي كان عرضه العالمي الأول في مهرجان البندقية، وهناك حصد جائزة «نيتباك» لأفضل فيلم آسيوي، ثم واصل حضوره في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» بجدة، ليفوز بجائزتين هما «جائزة اليسر من لجنة التحكيم» وجائزة «فيلم العلا لأفضل فيلم سعودي».

خيرية، التي التقتها «الشرق الأوسط» في «البحر الأحمر»، تُشير إلى أن الفرق بين الأدوار الرئيسية وتحمُّل بطولة كاملة يكمُن في الإيقاع اليومي للتصوير، وفي الالتزام الجسدي والنفسي المستمرّ، قائلةً: «التصوير في (هجرة) امتد ساعات يومياً، وعلى مدى شهرين ونصف الشهر تقريباً، وهو ما تطلَّب جهداً مضاعفاً، وانغماساً كاملاً في الشخصية». هذا التعب، كما تصفه، أثمر لاحقاً مع خروج الفيلم إلى الجمهور، وظهور ردود الفعل في العروض الأولى، والإشادات التي ركّزت على الأداء والنظرة والتعبير الصامت.

خيرية نظمي على السجادة الحمراء (مهرجان البحر الأحمر)

سنوات من الكوميديا

قبل «هجرة»، رسَّخت خيرية حضورها في الأعمال الكوميدية، وتتوقَّف عند هذه المرحلة بكونها مدرسة أساسية في مسيرتها، تعلَّمت خلالها الإيقاع، والتوقيت، والقدرة على التقاط التفاصيل الصغيرة. وتستذكر تجربتها في مسلسل «سكة سفر» من خلال شخصية «بركة»، التي تقول إنها كانت قريبة من روحها، وتفاعلت معها بعفوية عالية. تبتسم وهي تتحدَّث عن «بركة»، مضيفةً: «هذه الشخصية خرجت مني بشكل تلقائي»، موضحةً أنها تعاملت مع النص بطاقة مفتوحة، وسمحت للارتجال بقيادة كثير من اللحظات. هذا التفاعل العفوي، كما ترى، وصل إلى الجمهور السعودي والعربي، وصنع حالة قبول واسعة، وأكد قدرتها على حمل الدور الكوميدي وصناعة شخصية تعيش خارج إطار الحلقة.

وتشير إلى أنّ «سكة سفر» شكّل إحدى أبرز تجاربها، ضمن مسار متنوّع سبقها، مؤكدةً أنّ انغماسها في الكوميديا أثبت نجاحه، وساعدها على بناء علاقة مباشرة مع الجمهور، وهي مرحلة منحتها ثقة إضافية، ووسَّعت أدواتها، إذ ترى أنّ الكوميديا فنّ يحتاج إلى حسّ داخلي عالٍ وصدق في الأداء.

خيرية نظمي وحفيدتها في الفيلم لمار فادن في مشهد من «هجرة» (الشرق الأوسط)

«هجرة»... اختبار العمق

في تلك المرحلة، كانت خيرية تتطلَّع إلى تنويع أدوارها، وتؤمن بأن التنقّل بين الأنواع يكشف عن جوانب مختلفة من الموهبة، ويمنح الممثل فرصة أوسع للتجريب. هذا التطلُّع قادها إلى أدوار تحمل ثقلاً مختلفاً، وتضعها أمام تحدّيات جديدة، خصوصاً في الدراما، وهو ما وجدته في فيلم «هجرة»، إذ انتقلت إلى منطقة أكثر كثافة، ودور يعتمد على الحضور الداخلي أكثر من الحوار المباشر.

في «هجرة»، قدَّمت شخصية «ستي»، الجدّة التي تعتزم الذهاب إلى الحج برفقة اثنتين من حفيداتها، وفي أثناء الرحلة تضيع إحداهن، فتتحمّل مسؤولية البحث عنها. وهي شخصية مركّبة، حازمة في ظاهرها، قوية في مواقفها، وتحمل في داخلها ضعفاً إنسانياً واضحاً. وتصف خيرية هذا التركيب بأنه «تحدٍّ حقيقي، لأنّ التوازن بين الصلابة والانكسار يحتاج إلى وعي نفسي دقيق، وقدرة على الإمساك بالتفاصيل الصغيرة».

وتضيف: «كثير من المَشاهد اعتمد على النظرة أكثر من الكلمة، وعلى الصمت أكثر من الحوار»، مؤكدةً أنّ ذلك جاء نتيجة مباشرة للتدريب والتحضير المُسبَق. وتولي خيرية أهمية كبيرة لمرحلة التحضير، مشيرةً إلى أنّ وجود المُخرجة شهد أمين، وحرصها على بناء الشخصية من الداخل إلى الخارج، صنعا فارقاً واضحاً في الفيلم الذي اختارته المملكة لتمثيلها في سباق «الأوسكار» لعام 2026.

ترى خيرية أنّ فيلم «هجرة» يشكّل مرحلة تحوّل في مسيرتها الفنّية (مهرجان البحر الأحمر)

رَمش العين... التحدّي الأكبر

تتوقف خيرية عند تفصيل صغير، وتبتسم وهي ترويه، موضحةً أنّ المخرجة طلبت منها تخفيف الرَّمش، لأن الكاميرا الكبيرة تلتقط كل حركة. في البداية، شعرت بالغرابة، ثم عادت إلى البيت وهي تفكر في وجهها، وفي عادات ملامحها، وفي تفاصيل تؤدّيها تلقائياً. وتضحك وهي تقول إنّ عضلات وجهها اعتادت الابتسامة حتى في لحظات السكون، كأنّ الوجه تعلَّم هذا التعبير مع الزمن.

وتؤكد أن شخصية «ستي» احتاجت إلى وجه جامد، ونظرة ثابتة، وحضور صامت يخلو من أي ليونة. التحكُّم في رمشة العين، كما تقول، تحوّل إلى تمرين يومي ومحاولة واعية للسيطرة على فعل طبيعي، مضيفةً: «هذه التجربة جعلتني أدرك أنّ التحكُّم في النظرة يكشف عن جوهر الممثل أكثر من التحكُّم في الكلام أو الحركة، لأنّ العين تفضح الإحساس قبل أن يُقال».

تحدَّثت خيرية نظمي عن أصعب اللحظات التي واجهتها خلال التصوير (إنستغرام)

طبقات الحزن والفرح

عند الحديث عن التوحُّد مع الشخصية، تتحدَّث خيرية عن علاقتها بالألم الشخصي، وتقول: «كلّ إنسان يحمل في داخله تجارب موجعة». وتستدعي هذه التجارب خلال الأداء، بما يمنح المشهد صدقاً داخلياً ويجعل التعبير أقرب إلى الواقع. كما توضح أنّ هذا الإحساس رافقها بعد انتهاء التصوير، مع استمرار جولات الفيلم في المهرجانات، وردود الفعل التي تلقتها من الجمهور.

وعن المرحلة المقبلة، تتحدَّث بنبرة هادئة وحاسمة، مؤكدةً أنّ خياراتها تتّجه نحو أدوار تحمل عمقاً حقيقياً، وتمنحها فرصة لاكتشاف مساحات جديدة في أدائها، قائلة: «كلّما كان الدور أقوى، ازدادت حماستي له، لأني أرى في التحدّي جوهر التجربة الفنية».

وتتوقّف عند تقييمات المخرجين والمنتجين، التي تعدّها مرآة مهمّة لتطورها، مشيرةً إلى أنّ أحدهم قال لها إنّ من أبرز نقاط قوتها قدرتها على خلق طبقات متعدّدة من الحزن والفرح، بما يمنح المخرج مرونة كبيرة في بناء المشهد، سواء احتاج إلى إحساس هادئ، أو دمعة واحدة، أو انفعال كامل.

وفي ختام حديثها، تعود خيرية إلى فكرة السلام الداخلي، مؤكدةً أنها تعيش حالة رضا وتصالح مع الذات، وترى أنّ هذا الشعور انعكس على أدائها، ومنحها حضوراً أكثر هدوءاً وثباتاً أمام الكاميرا. هذا السلام، في رأيها، يرتبط بمرحلة نضج إنساني يصل إليها الإنسان بعد رحلة طويلة من التجربة، وفي هذه المرحلة يصبح التعبير أكثر صدقاً، ويصبح الصمت أبلغ، وتصل الأدوار في توقيتها الصحيح.


مهندسة ألمانية تصبح أول مستخدم لكرسي متحرك يقوم برحلة إلى الفضاء

ميشيلا بنتهاوس تغادر كبسولة صاروخ «نيو شيبرد» إلى كرسيها المتحرك (رويترز)
ميشيلا بنتهاوس تغادر كبسولة صاروخ «نيو شيبرد» إلى كرسيها المتحرك (رويترز)
TT

مهندسة ألمانية تصبح أول مستخدم لكرسي متحرك يقوم برحلة إلى الفضاء

ميشيلا بنتهاوس تغادر كبسولة صاروخ «نيو شيبرد» إلى كرسيها المتحرك (رويترز)
ميشيلا بنتهاوس تغادر كبسولة صاروخ «نيو شيبرد» إلى كرسيها المتحرك (رويترز)

أصبحت مهندسة ألمانية، أول مستخدم لكرسي متحرك يخرج إلى الفضاء، بعد قيامها برحلة قصيرة على متن مركبة تابعة لشركة «بلو أوريجين».

وأطلقت الشركة المملوكة للملياردير الأميركي جيف بيزوس، صاروخها «نيو شيبرد» في مهمة جديدة شبه مدارية في تمام الساعة 8,15 صباحاً (14,15 بتوقيت غرينتش) من قاعدتها في تكساس.

بنتهاوس تتحدث إلى هانز كونيغسمان المدير التنفيذي المتقاعد من شركة «سبيس إكس» الذي ساعد في تنظيم رحلتها ورعايتها (ا.ب)

واجتازت ميشيلا بنتهاوس، مهندسة الطيران والفضاء والميكاترونيكس في وكالة الفضاء الأوروبية، مع خمسة سياح فضائيين آخرين خط كارمان الذي يشكل الحد الفاصل بين الغلاف الجوي والفضاء في الرحلة التي استغرقت نحو 10 دقائق.

المهندسة الألمانية ميشيلا بنتهاوس داخل نموذج أولي لكبسولة فضائية يوم الاثنين 15 ديسمبر (ا.ب)

وتستخدم ميشيلا بنتهاوس الكرسي المتحرك نتيجة تعرضها لإصابة في النخاع الشوكي إثر حادث دراجة هوائية جبلية.

وقالت في مقطع فيديو نشرته شركة «بلو أوريجين»: «بعد الحادث الذي تعرضت له، أدركت بحق كم أن عالمنا لا يزال مغلقاً أمام الأشخاص من ذوي الإعاقة».

وأضافت: «إذا أردنا أن نكون مجتمعاً شاملاً، علينا أن نكون شاملين في كل جانب، وليس فقط في الجوانب التي نرغب أن نكون فيها كذلك».

وأقلع الصاروخ الذي يعمل بشكل آلي بالكامل نحو الفضاء، ثم انفصلت عنه الكبسولة التي تحمل السياح الفضائيين قبل أن تهبط برفق في صحراء تكساس.

وهذه هي الرحلة المأهولة الـ16 لشركة «بلو أوريجين» التي تقدم منذ سنوات برنامج رحلات سياحية فضائية بواسطة صاروخها «نيو شيبرد»، دون الاعلان عن كلفتها.

وبعث رئيس وكالة «ناسا» الجديد، جاريد ايزاكمان، بتهنئة إلى ميشيلا في منشور على منصة إكس، قائلاً: رلقد ألهمت الملايين للنظر إلى السماء وتخيل ما هو ممكن».

وسافر عشرات الأشخاص إلى الفضاء مع «بلو أوريجين»، بمن فيهم المغنية كايتي بيري، والممثل ويليام شاتنر الذي جسد شخصية الكابتن كيرك في مسلسل «ستار تريك».

ميشيلا بنتهاوس بعد هبوط كبسولة صاروخ «نيو شيبرد» (ا.ب)

وتسعى شركات الفضاء الخاصة التي تقدم رحلات فضائية إلى الترويج لخدماتها عبر الشخصيات المشهورة والبارزة، من أجل الحفاظ على تفوقها مع احتدام المنافسة.

وتقدم «فيرجن غالاكتيك» تجربة طيران فضائي مماثلة.

ولدى «بلو أوريجين» أيضاً طموحات لمنافسة شركة «سبايس إكس» التابعة لإيلون ماسك في سوق الرحلات الفضائية المدارية.

وهذا العام نجحت شركة بيزوس في تنفيذ رحلتين مداريتين بدون طاقم باستخدام صاروخها الضخم نيو غلين الأكثر تطوراً من «نيو شيبرد».


رحيل «الوجه الأرستقراطي» سمية الألفي

سمية الألفي (وزارة الثقافة المصرية)
سمية الألفي (وزارة الثقافة المصرية)
TT

رحيل «الوجه الأرستقراطي» سمية الألفي

سمية الألفي (وزارة الثقافة المصرية)
سمية الألفي (وزارة الثقافة المصرية)

صدم خبرُ وفاة الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاماً الوسطَ الفني. ونعى وزير الثقافة المصري أحمد فؤاد هنو، الراحلة، مؤكداً أنَّها «أسهمت بأعمالها المتنوعة في إثراء المشهد الفني المصري وترك بصمة خاصة».

بدأت سمية الألفي مسيرتها الفنية في سبعينات القرن الماضي عبر المسرح، ثم انتقلت إلى التلفزيون، لتنطلق في مسيرة قدَّمت خلالها عشرات الأعمال المتنوعة بين الدراما التلفزيونية في المسلسلات والسهرات، أو المسرحيات، بالإضافة إلى بعض المشاركات السينمائية.

وشكَّلت مشاركتها في مسلسل «ليالي الحلمية» بشخصية «البرنسيسة نورهان» نقطة تحوّل في مسيرتها الفنية. وقالت الناقدة ماجدة خير الله لـ«الشرق الأوسط» إنَّ السينما لم تكن المساحة الأوسع في مسيرتها، لكن تميُّزها الحقيقي كان في تقديم الأدوار الأرستقراطية بشكل غير مفتعل.