فقدان الذاكرة الشامل والمؤقت... حالة عصبية عابرة

لا تتجاوز 24 ساعة ويصعُب تشخيصها

فقدان الذاكرة الشامل والمؤقت... حالة عصبية عابرة
TT

فقدان الذاكرة الشامل والمؤقت... حالة عصبية عابرة

فقدان الذاكرة الشامل والمؤقت... حالة عصبية عابرة

ما السبب في إصابة البعض بـ«فقدان شامل ومؤقت للذاكرة (Transient Global Amnesia)»، وما العوامل المؤدية إلى هذه الحالة العابرة، وما المظاهر المرضية لها، وهل من تفسيرات طبية لآليات حدوث هذه المشكلة المؤقتة؟
هذه الأسئلة المحيرة وغيرها هي التي حاول البروفسور ألان هـ. روبر، نائب الرئيس التنفيذي لطب المخ والأعصاب بكلية الطب في جامعة هارفارد، الإجابة عنها وفق أحدث ما نعلمه طبياً عن هذه الحالة حتى اليوم. وكان ذلك ضمن مراجعته العلمية التي نشرت في عدد 16 فبراير (شباط) الحالي من مجلة «نيو إنغلاند جورنال أو ميديسن (NEJM)» الطبية.
وأفاد روبر بأن أول ظهور لمصطلح «الفقد الشامل والمؤقت للذاكرة» كان في عام 1958 عندما وصف كل من الدكتورَين سي. إم. فيشر، وآر. دي. آدم تفاصيل هذه الحالة العصبية. وفي وصف مظاهرها الإكلينيكية، قال البروفسور روبر: «تتميز الحالة بعدم القدرة المفاجئ والكامل على الاحتفاظ بمعلومات جديدة. وتستمر لساعات عدة، وذلك لدى الأشخاص في منتصف العمر أو كبار السن، ولكن مع احتفاظهم باليقظة والوعي الذهني وجميع الوظائف المعرفية (Cognitive Functions) الأخرى».

ذاكرتان«متقدمة» و«رجعية»

وأضاف الباحث في وصفه جوانب تبعث على الحيرة في فهم هذه الحالة: «أثناء النوبة، يحدث فقدان للذاكرة المتقدمة (Anterograde Amnesia)، مع عدم القدرة على الاحتفاظ بالمعلومات الجديدة لأكثر من بضع ثوانٍ، بينما يمتد فقدان الذاكرة الرجعية (Retrograde Amnesia) إلى الوراء لساعات عدة أو أيام أو أكثر، والتي تتقلص تدريجياً إلى ساعات أو دقائق مع انتهاء نوبة فقدان الذاكرة».
وللتوضيح؛ فإن ثمة «ذاكرة جديدة متقدمة» يكونها المرء، وأخرى «رجعية سابقة» تكونت من قبل. ويُعرف أطباء الأعصاب «فقدان الذاكرة المتقدمة» بأنه عدم قدرة المريض على تكوين ذكريات جديدة بعد وقوع الشيء الذي تسبب في فقدان الذاكرة، مما يؤدي إلى عدم القدرة على تذكر الماضي القريب، بينما تظل الذكريات طويلة المدى (الموجودة من قبل الإصابة بالحادث) سليمة لديه.
وفي المقابل؛ ثمة أمر معاكس يحدث لدى مرضى آخرين، وهو «فقدان الذاكرة الرجعي»، حيث تُفقد الذكريات التي تم تكوينها قبل وقوع الشيء الذي تسبب في فقدان الذاكرة، ولكن لا يزال من الممكن للمُصاب تكوين ذكريات جديدة. ولدى بعض المرضى، يمكن أن يحدث الأمران كلاهما معاً.
وآليات حدوث هذه الجوانب المعقدة داخل مناطق الدماغ المعنية بالذاكرة، لا تزال غير واضحة. وذلك لسبب بسيط؛ هو أن الآلية الدقيقة لتخزين الذكريات واسترجاعها، ليست مفهومة جيداً لدى الأطباء حتى اليوم، رغم تحديد الباحثين المناطق الدماغية المعنية بالذاكرة.
وأوضح البروفسور روبر جانباً آخر مهماً، وذلك مقارنة بما تقدمه القصص والأفلام بشكل شائع لحالات «فقدان الذاكرة نفسي المنشأ (Psychogenic Amnesia)»، بأن المُصاب بـ«فقدان الذاكرة الشامل والمؤقت» لا يفقد معرفة هويته الشخصية؛ بل يمكنه تقديم اسمه وتاريخ ميلاده ومقدار عمره وأسماء زوجته وأولاده، وكذلك يمكنه التعرف على هؤلاء الأشخاص. ولكن في حالات «فقدان الذاكرة نفسي المنشأ»، يحدث بشكل مفاجئ فقدانٌ للذاكرة السابقة (لفترة زمنية تتراوح بين ساعات وسنوات وعقود)، وهو ما يتضمن أيضاً عدم القدرة على تذكر المعلومات الشخصية. ولا يكون في الوقت نفسه ثمة أي سبب مرضي عضوي يؤدي إلى هذه الحالة، بل هي نتيجة إجهاد نفسي.

مظاهر إكلينيكية

وقال البروفسور روبر: «وغالباً ما يتم الكشف عن هذا المأزق الصحي الذي يعاني منه المريض من خلال تكرار إلقاء المريض الأسئلة النمطية المتكررة، التي قد يطرحها أحياناً مئات المرات، وعلى فترات غير منتظمة تبلغ نحو 30 ثانية، مثل تكرار طرحه أسئلة من نوعية: كيف وصلت إلى هنا؟ أين نحن؟ ما حدث؟ ما الوقت؟ وهذه الأسئلة تُنطق بالإيقاع والنغمة نفسيهما في كل مرة وبعد الإجابة عن السؤال مباشرة». ولكنه أوضح مباشرة: «جميع الوظائف الأخرى طبيعية. ويتمكن الأشخاص المتأثرون من إكمال تقديمهم العروض الموسيقية المعقدة أو أداء مباريات الشطرنج».
وأضاف: «تستمر النوبات لمدة 6 ساعات في المتوسط، وتتراوح الفترة بين ساعتين و12 ساعة في الغالب. ولدى الرجال أكثر من النساء. وترتفع احتمالات الإصابة بـ(فقدان الذاكرة الشامل العابر) بين المرضى الذين يعانون من الصداع النصفي، مقارنة بمن لا يعانون من الصداع النصفي».
وأضاف أن ثمة ميزة ملحوظة؛ هي أن هذه النوبة من فقدان الذاكرة، قد تسبقها صدمة جسدية أو عقلية، أو مجهود شديد؛ مثل الغطس والاستحمام في الماء البارد، أو تلقي أخبار وفاة، أو ممارسة العملية الجنسية، أو الخضوع لإجراءات طبية (مثل عملية جراحية أو إجراء منظار داخلي للجهاز الهضمي)، أو المعاناة من الألم الشديد. ولكن معظم الحالات ليس له سبب واضح. ونسب بعض الدراسات «فقدان الذاكرة الشامل العابر» إلى الأدوية المستخدمة للتخدير العام أو العقاقير المخدرة التي يجري تناولها أو تدخينها. وأشار البروفسور روبر إلى دراسة باحثين من «مايو كلينك»؛ أفادوا فيها بأن حالات كانت ضمن الدراسة سبقها قيام المُصاب بأعمال بستنة زراعية شاقة، وذلك لدى نحو 20 في المائة من المرضى. وأن احتمالات تكرر المعاناة من هذه الحالة لـ«فقدان الذاكرة الشامل والمؤقت» لاحقاً، قد تتكرر لدى 15 في المائة ممن أصيبوا بتلك النوبات المؤقتة لفقدان الذاكرة.

صعوبات التشخيص

ووفق ما أشار إلية البروفسور روبر؛ «تظهر الصعوبة (في التشخيص) عندما يُرى المريض لأول مرة بعد بدء النوبة لديه بفترة؛ لأن هناك صعوبة في تحديد ما إذا كانت المشكلة عبارة عن نوبة ارتباك ذهني عابر، أم إنها نوبة نتيجة النقص الشديد للسكر في الدم أو التسمم بالكحول أو المخدرات أو العقاقير المنومة أو اضطراب مشابه، بدلاً من (فقدان الذاكرة الشامل العابر). ويشير وجود علامات الارتباك الذهني لدى المصاب، مثل عدم الانتباه وعدم الاتساق، إلى أن الحالة لديه نتيجة اضطراب مختلف عن حالة (فقدان الذاكرة الشامل العابر)».
ثم عرض البروفسور روبر معايير التشخيص المقترحة لحالات فقدان الذاكرة الشامل والمؤقت، وأفاد: «يجري تحديد الحالة بسهولة؛ ويكون التشخيص التفريقي (عن الأنواع الأخرى لفقدان الذاكرة) محدوداً، عندما لا تختلف الأعراض والميزات عن الوصف النموذجي (لحالة فقدان الذاكرة الشامل والمؤقت). ولكن تزداد الأمور تعقيداً عندما تكون هناك سمات أخرى غير نمطية (لحالات فقدان الذاكرة الشامل العابر)، مثل الارتباك الذهني الشامل (Global Confusion)، أو نوبات الصرع (Seizures)، أو الترنح في المشي (Ataxia)، أو الدوار (الإحساس بأن الأشياء المحيطة بالشخص تتحرك Vertigo)، أو العجز في الإدراك الذهني لجوانب غير الذاكرة».
ويوضح أطباء الأعصاب في «مايو كلينك» هذا الجانب بقولهم: «لتشخيص مرض (فقدان الذاكرة الشامل العابر)، يبدأ الطبيب باستبعاد الحالات الأكثر خطورة، مثل السكتة الدماغية، ونوبة الصرع، وإصابة الرأس؛ إذ يمكن أن تسبب هذه الحالات النوع نفسه من فقدان الذاكرة. ولذا يُجرى فحص جسدي للجهاز العصبي، وقوة العضلات، وردود الفعل اللاإرادية، ووظائف الحواس، وطريقة المشي، والوقفة، والتناسق، والتوازن. كما قد يطرح الطبيب أيضاً أسئلة لتقييم التفكير والتمييز بين الأمور والتذكر. وستكون الخطوة التالية إجراء فحوصات للكشف عن اضطرابات النشاط الكهربائي في الدماغ والدورة الدموية. وقد يطلب الطبيب إجراء اختبار واحد أو أكثر من هذه الاختبارات: التصوير المقطعي المحوسب (CT Scan) للدماغ والجمجمة، والتصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) للدماغ، ومخطط النشاط الكهربائي في الدماغ (EEG)».

6 أنواع مختلفة من «أمنيسيا»... فقدان الذاكرة
يعدّ كل من «فقدان الذاكرة» (Amnesia) و«الخَرَف» (Dementia)، من حالات اضطرابات وظائف الدماغ، لكنهما في واقع الحال الطبي حالتان مختلفتان؛ حيث إن «فقدان الذاكرة» هو «فقط فقدان الذاكرة». بينما يتميز «الخرف» بفقدان شامل وتدريجي للقدرات الذهنية في وظائف الدماغ. ومنها الذاكرة، وتقييم الأشياء، والحساب، والتعلم، والوعي الذهني بالوقت والمكان والأشخاص... وغيرها.
ويقول أطباء في «كليفلاند كلينك»: «هناك أنواع عدة مختلفة لحالات فقدان الذاكرة؛ منها:
> فقدان الذاكرة الرجعية: هو فقدان تذكر الذكريات التي تشكلت قبل الحدث الذي تسبب في فقدان الذاكرة، وعادة ما يؤثر على الذكريات الماضية المخزنة مؤخراً، وليست الذكريات منذ سنوات.
> فقدان الذاكرة المتقدمة: هو عدم القدرة على تكوين ذكريات جديدة بعد الحدث الذي تسبب في فقدان الذاكرة، ويعدّ فقدان الذاكرة المتقدمة أكثر شيوعاً من فقدان الذاكرة الرجعية.
> فقدان الذاكرة ما بعد الإصابة: هو فقدان الذاكرة الذي يحدث مباشرة بعد إصابة كبيرة في الرأس، وقد يشمل «فقدان الذاكرة الرجعية» أو «فقدان الذاكرة المتقدمة» أو كليهما.
> فقدان الذاكرة الشامل العابر: هو متلازمة مؤقتة؛ حيث يعاني المريض من فقدان الذاكرتين الرجعية والمتقدمة. ويكون فقدان الذاكرة مفاجئاً ويستمر لمدة تصل إلى 24 ساعة فقط.
> فقدان الذاكرة الطفولي: يستخدم هذا المصطلح لوصف حقيقة أن الناس لا يستطيعون تذكر ذكريات الأحداث من الطفولة المبكرة. وقلة من الناس لديهم ذكريات قبل سن الثالثة إلى الخامسة من العمر؛ لأن مناطق الدماغ التي تدعم الذاكرة لا تزال آنذاك قيد التطور.
> فقدان الذاكرة الانفصالي - فقدان الذاكرة النفسي: هو اضطراب في الصحة العقلية، حيث يعاني المُصاب من فقدان الذاكرة بعد التعرض لصدمة عاطفية أو صدمة نفسية شديدة».

10 أسباب محتملة لفقدان الذاكرة العصبي
> وفق ما يشير إليه أطباء في «مايو كلينك»؛ «تعتمد وظيفة الذاكرة الطبيعية على أجزاء عدة من المخ. ومن ثم؛ فإن أي مرض أو إصابة عضوية تحدث في الدماغ يمكن أن تؤثر على الذاكرة. ومن الأسباب العضوية المحتملة لفقدان الذاكرة العصبي ما يلي:
- السكتة الدماغية.
- التهاب الدماغ، مثل عدوى فيروسية.
- عدم وصول كمية كافية من الأكسجين إلى الدماغ، على سبيل المثال، إثر نوبة قلبية، أو ضيق تنفسي، أو التسمم بأول أكسيد الكربون (إشعال الحطب في أماكن مغلقة).
- نقص فيتامين بي - 1B - 1.أو ما يُعرف بالثيامين، في الجسم.
- وجود أورام في أجزاء المخ التي تتحكم في الذاكرة.
- الإصابة بداء ألزهايمر والأمراض الأخرى التي تُسبب تلف الأنسجة العصبية.
- نوبات الصرع.
- بعض الأدوية؛ كالمهدئات.
- إصابات الدماغ التي تسبب ارتجاجاً، كحوادث السيارات أو إصابات الملاعب.
- «ما بعد جراحة في الدماغ».


مقالات ذات صلة

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

صحتك استهلاك الأطعمة التي تحتوي على «أوميغا 3» و«أوميغا 6» مثل الأسماك الزيتية يقلل معدل خطر الإصابة بالسرطان (جمعية الصيادين الاسكوتلنديين)

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

وجدت دراسة أن استهلاك «أوميغا 3» و«أوميغا 6»، وهي الأحماض الدهنية التي توجد في الأطعمة النباتية والأسماك الزيتية، قد يؤثر على معدل خطر الإصابة بالسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق الغضب لا يزال يشكل حافزاً مهماً للنجاح في العالم الحديث (رويترز)

الأشخاص الغاضبون «أكثر ميلاً للنجاح»... كيف؟

كشف أحد علماء الأعصاب أن الأشخاص الغاضبين أكثر ميلاً للنجاح، وقال الدكتور جاي ليشزينر إن الشعور بالغضب قد يكون «محركاً مهماً» للنجاح في العالم الحديث.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم صورة تحت المجهر الإلكتروني والتي قدمها المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في عام 2024 لجزيئات فيروس جدري القردة باللون البرتقالي الموجودة داخل الخلايا المصابة باللون الأخضر (أ.ب)

كندا ترصد أول إصابة بسلالة فرعية من جدري القردة

أكدت وكالة الصحة العامة الكندية أمس (الجمعة) رصد أول حالة إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة في كندا لدى شخص في مانيتوبا.

«الشرق الأوسط» (مونتريال)
المشرق العربي فلسطيني يحمل طفلة صغيرة مصابة داخل مستشفى كمال عدوان في قطاع غزة (أ.ف.ب)

وزارة الصحة: كل مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل خلال 48 ساعة

حذرت وزارة الصحة في قطاع غزة من توقف جميع مستشفيات القطاع عن العمل أو تقليص خدماتها خلال 48 ساعة بسبب نقص الوقود، إذ ترفض إسرائيل دخوله للقطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
صحتك سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

تعتمد الأوساط الطبية بالعموم في تحديد «مقدار وزن الجسم» على عدد الكيلوغرامات بوصفه «رقماً»

د. حسن محمد صندقجي (الرياض)

الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال

الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال
TT

الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال

الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال

كشفت أحدث دراسة تناولت العوامل المؤثرة على ضغط الدم، عن الخطورة الكبيرة للحياة الخاملة الخالية من النشاط على الصحة بشكل عام، وعلى الضغط بشكل خاص. وأوضحت أن قضاء وقت من دون حركة كافية لفترة أكثر من 6 ساعات يومياً، يمكن أن يسبب زيادة في ضغط الدم الانقباضي (الخارج من البطين الأيسر- systolic blood pressure) بمقدار 4 ملِّيمترات زئبقية، وذلك في الفترة العمرية من الطفولة، وحتى بداية مرحلة البلوغ.

الخمول ومؤشرات الأمراض

أجريت الدراسة بالتعاون بين جامعتي «بريستول» و«إكستر» في المملكة المتحدة، وجامعة «شرق فنلندا»، ونُشرت في مطلع شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الحالي، في مجلة «الهزال وضمور العضلات» (Journal of Cachexia, Sarcopenia and Muscle). وأكدت أن النشاط والخمول يلعبان دوراً رئيسياً في تنظيم الضغط؛ حيث يساهم الخمول وعدم الحركة في رفع ضغط الدم، بينما يساهم النشاط البدني الخفيف بشكل يومي في خفض الضغط. وفي الماضي وقبل التقدم التكنولوجي المعاصر، ولأن الأطفال كانوا في نشاط مستمر، كان ارتفاع ضغط الدم من الأمور شديدة الندرة في الأطفال.

قام الباحثون بمتابعة 2513 طفلاً من دراسة خاصة بجامعة «بريستول» على أطفال التسعينات من القرن الماضي، وتمت المتابعة من سن 11 إلى 24 عاماً. وركَّز الباحثون على الأطفال الذين قضوا تقريباً 6 ساعات يومياً من دون أي نشاط يذكر، ثم 6 ساعات يومياً في ممارسة تمارين خفيفة (LPA)، وأخيراً نحو 55 دقيقة يومياً في نشاط بدني يتدرج من متوسط إلى قوي (MVPA)، وبعد ذلك في بداية مرحلة المراهقة والشباب قضوا 9 ساعات يومياً في حالة خمول، ثم 3 ساعات يومياً في التمارين الخفيفة، ونحو 50 دقيقة يومياً في تمارين متوسطة إلى قوية.

تم أخذ عينات دم بعد فترة صيام لعدة ساعات للأطفال بشكل متكرر، لتثبيت العوامل التي يمكن أن تلعب دوراً مهماً في ارتفاع ضغط الدم، مثل قياس مستويات الكوليسترول منخفض الكثافة (LDL)، والكوليسترول عالي الكثافة (HDL)، والدهون الثلاثية (TG)، وأيضاً تم قياس منحنى الغلوكوز لكل 3 شهور (hba1c) في الدم، وكذلك هرمون الإنسولين، ودلالات الالتهاب مثل البروتين التفاعلي سي (C-reactive protein)، وقاموا بقياس معدل ضربات القلب.

بعيداً عن التحاليل الطبية، قام الباحثون برصد بقية العوامل المؤثرة في ارتفاع ضغط الدم، وتم سؤال الأطفال عن التاريخ العائلي للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، بجانب الحالة الاقتصادية والاجتماعية للعائلة، وحالة الطفل النفسية، وتعامل العائلة معه، وأيضاً نوعية الغذاء، وهل تحتوي على دهون أم لا، واستخدام ملح الطعام باعتدال. وبالنسبة للمراهقين والبالغين تم سؤالهم عن حالة التدخين، بالإضافة إلى قياس كتلة الدهون في الجسم، وكذلك الكتلة العضلية.

ضغط الدم في الأطفال

قال العلماء إن الدراسة الحالية تُعد أكبر وأطول دراسة متابعة في العالم، لرصد العلاقة بين حجم النشاط البدني ومستوى ضغط الدم في الأطفال والمراهقين، وصولاً لمرحلة البلوغ. وحتى تكون الدراسة معبرة عن التغيرات الطبيعية التي تحدث للضغط في المراحل العمرية المختلفة، قام الباحثون بقياس ضغط الدم بعد فترات الخمول والتمرينات الخفيفة ومتوسطة الشدة، في عمر الحادية عشرة (نهاية فترة الطفولة) وفي عمر الخامسة عشر (فترة المراهقة والتغيرات الهرمونية) وأخيراً في عمر الرابعة والعشرين (مرحلة البلوغ).

وجد الباحثون أن متوسط ضغط الدم في مرحلة الطفولة كان 106/ 56 ملِّيمتراً زئبقياً، وبعد ذلك ارتفع إلى 117/ 67 ملِّيمتراً زئبقياً في مرحلة الشباب. ويرجع ذلك جزئياً -في الأغلب- إلى النمو الفسيولوجي الطبيعي المرتبط بالسن، وأيضاً ارتبطت الزيادة المستمرة في وقت الخمول من سن 11 إلى 24 عاماً بزيادة ضغط الدم الانقباضي في المتوسط بمقدار 4 ملِّيمترات زئبقية.

لاحظ الباحثون أن المشاركة في التمرينات الخفيفة بانتظام من الطفولة وحتى البلوغ، ساهمت في خفض مستوى الضغط الانقباضي بمقدار 3 ملِّيمترات زئبقية تقريباً. وفي المقابل تبين أن ممارسة التمرينات الشاقة والقوية لم تساهم في خفض الضغط بعكس المتوقع، وذلك لأن زيادة حجم الكتلة العضلية ارتبط بزيادة الدم المتدفق إليها، مما سبب زيادة طفيفة في ضغط الدم، ما يوضح الأهمية الكبرى للنشاط البدني الخفيف بانتظام؛ لأنه يُعد بمثابة وقاية من خطر ارتفاع ضغط الدم.

النشاط البدني الخفيف المنتظم يقي من خطره

أكد الباحثون أن أي فترة صغيرة في ممارسة النشاط الحركي تنعكس بالإيجاب على الطفل. وعلى سبيل المثال عندما استُبدلت بعشر دقائق فقط من كل ساعة تم قضاؤها في حالة خمول، فترة من التمرينات الخفيفة (LPA) في جميع مراحل النمو من الطفولة إلى مرحلة الشباب، انخفض ضغط الدم الانقباضي بمقدار 3 ملِّيمترات زئبقية، وضغط الدم الانبساطي بمقدار ملِّيمترين زئبقيين، وهو الأمر الذي يُعد نوعاً من الحماية من خطر الإصابة بالنوبات القلبية والسكتة الدماغية؛ لأن خفض ضغط الدم الانقباضي بمقدار 5 ملِّيمترات زئبقية فقط يقلل بنسبة 10 في المائة من الذبحة الصدرية وجلطة المخ.

من المعروف أن منظمة الصحة العالمية (WHO) أصدرت تقارير تفيد باحتمالية حدوث 500 مليون حالة مرضية جديدة من الأمراض غير المعدية المرتبطة بالخمول البدني بحلول عام 2030، ونصف عدد هذه الحالات بسبب ارتفاع ضغط الدم. ونصحت المنظمة بضرورة ممارسة النشاط البدني الخفيف لمدة 3 ساعات على الأقل يومياً، للحماية من الإصابة بضغط الدم، وأيضاً لأن هذه التمرينات بمثابة علاج للضغط العالي للمرضى المصابين بالفعل. وأكدت أن النشاط البدني لا يشترط وقتاً أو مكاناً معيناً، مثل المشي لمسافات طويلة، وركوب الدراجات، وحتى القيام بالأعمال المنزلية البسيطة.

* استشاري طب الأطفال