ملامح التجربة المعرفية عند العميد... صراع محموم بين الإبداع والسكون الآمن

أيمن بكر يرى أنها البديل الأهم لفقده البصر ودفاعه الأقوى ضد انتهاكات العالم

ملامح التجربة المعرفية عند العميد... صراع محموم بين الإبداع والسكون الآمن
TT

ملامح التجربة المعرفية عند العميد... صراع محموم بين الإبداع والسكون الآمن

ملامح التجربة المعرفية عند العميد... صراع محموم بين الإبداع والسكون الآمن

صدر حديثاً عن هيئة الكتاب المصرية كتاب «هوامش العميد... ملامح التجربة المعرفية عند طه حسين» للناقد الدكتور أيمن بكر، مركزاً على الهوامش المتمثلة في مقدمات كتبه وخواتيمها، والمقالات الصحافية القصيرة التي كتبها، والمقابلات، وإهداءات الكتب، وما كتبه بالفرنسية، وقد لاحظ المؤلف أن ملامح التجربة المعرفية للعميد تنتثر في تلك الكتابات التي يسميها الهوامش، بأكثر مما تظهر في متون كتبه، وتنطوي على القواعد التي تحكم توجهه نحو المعرفة، وأسس تعامله معها، وطرائق تكونها لديه وإنتاجها، ومدى تفاعلها داخل عقله، والشغف الذي يتصف به توجهه نحو اكتسابها، وانعكاس ذلك على مواقفه وآرائه واختياراته المنهجية، فضلاً عن مدى وعيه بتلك التجربة.
يتكون الكتاب من 4 فصول؛ يستجلي أولها مفهوم التجربة المعرفية عند العميد، ويحاول بسط ملامحها عبر تحليل مقدمة كتاب «مع المتنبي» وخاتمته، وقد لاحظ بكر أن مفهوم «النفس» عند طه حسين يتمثل في ثنائية مصرية قديمة بين مفهومي «الكا» و«البا»، أو بين طاقة الحياة الساعية للخلق والإبداع والحركة، وبين طاقة الحياة الراغبة في الاستمتاع والهدوء والاسترخاء، وأن الصراع بين هذين المكونين يمثل جزءاً مُعرفاً لتجربته المعرفية التي كان على وعي ساطع بهما وبالصراع بينهما.
ويبدو، أن ما كان «طه حسين» يود الإشارة إليه في مقدمة كتابه «مع المتنبي»، حسب رأي المؤلف، هو انقسام نفسه إلى نوعين من النزوع، يسعى الأول نحو الخلق والإبداع وارتياد المجهول، ويرتكن الثاني إلى الدعة والعودة لحالة السكون الآمن، وهكذا يمكن فهم السأم الذي يشعر به تجاه نفسه، التي يفر منها إلى كتاب ما أو بحث جديد، أو الخلود للراحة والسكون للتفكر والتساؤل، وتأمل صراع تَشَكُّل الأفكار الذي تزداد لذته كلما ازداد اشتعاله بها.
من ثم، تتشكل تجربة طه حسين المعرفية من صراع ممض بين «الكا» و«البا» ينحاز فيه إلى «الكا» على حساب «البا»، وهذه هي المفاجأة التي بدأ كتابه بها، لافتاً أنه لا يريد الكتابة عن المتنبي، ليتضح أن السر من وراء كلامه هو إفساح الطريق لـ«البا» كي تتحدث أولا؛ مؤكدة شعورها بالملل والسأم الداعي لترك المتنبي، بل الهرب منه، والفرار هنا، كما يقول بكر، ليس من المتنبي وحده، وإنما من النفس التواقة دوماً وبلا كلالة للبحث والدرس والتحصيل، وهو فرار الجانب الساكن المؤثر للراحة، من وجه الطاقة الخلاقة التي لا يهدأ أوارها حتى بعد سكون الجسد.
ويفترض بكر أن مقدمة «مع المتنبي» - ككثير من مقدمات كتبه - تخبر عن تجربة طه حسين المعرفية بأكثر مما تقدم للكتاب، ويذكر فيها أنه قضى عاماً كاملاً يدرس المتنبي مع طلابه، سابحاً بين الشروح والأبحاث التي تتناول حياته وشعره، وحين انتهى منها، بقيت مرحلة التأمل المباشر بينه وبين مادة بحثه، والتساؤلات الناتجة عن طول المداومة والدرس، وقد أراد للمرحلة التالية من تجربته المعرفية أن تأخذ موضعها، بعد أن تخمرت المعرفة بالمتنبي إلى الحد الذي يدعو للتأمل الحر، وإطلاق العنان للأفكار الخاصة التي ينصرف إليها ذهنٌ ممتلئ بمعرفة معمقة عن موضوعه. المعرفة هنا بالنسبة لطه حسين كانت البديل الأهم للإبصار، والدفاع الأقوى ضد انتهاكات العالم وعنصريته، والطريق الأوضح للإعلان عن توق الذات وقدراتها، وهي الاختيار الوجودي الأهم الذي أكسب الذات تعريفها. ولذلك لا يمكن فهم الإرهاق الذي يعلنه طه حسين من كثرة النظر في موضوع بعينه، والبحث حوله، ومراجعته، إلا بوصفه مرحلة من مراحل التجربة المعرفية، حيث تبدو النفس التي كساها الإرهاق من مداومة البحث والنظر في موضوع بعينه، موعودة بلذة عميقة تفوق التعب، ومصدر هذه اللذة هو التجربة المعرفية التي خبرتها النفس بعمق لكثرة تكرارها، وتحولت إلى الجزء المعرف الأهم للشخصية، والتي تمنح الوعي ثقة كبيرة في أثرها النهائي، حيث لا تستطيع النفس المبدعة فكاكاً من شغف الآني الراهن ولذته في التجربة المعرفية.
ويرى بكر أن السبب في دراسة طه حسين للمتنبي نابع من قلب تلك التجربة، والشغف الذي نتج عن طول المداومة والنظر في شعره وحياته، بل يتجاوز ذلك لممارسة نوع من التأمل الذاتي الذي لا يجلي تجربته المعرفية لقرائه وحسب، بل يؤكدها ويجليها في الوقت نفسه أمام أعين عقله هو.
ويذكر الكتاب أن طه حسين يدخل عنصراً جديداً إلى محددات التجربة لديه، وهو «اللعب»، وإطلاق العنان لأهواء الذات في علاقتها بالمتنبي، وهو جزء مؤسس لعملية إنتاج المعرفة، والهذيان الذي يصفه في المقدمة على أنه منتهى اللعب، وقمة الاستمتاع به والانخراط فيه.
فترك النفس، كقول بكر، على سجيتها، عبر التجربة المعرفية تحديداً، هو بحث عن حريتها التي يطمع المفكر والمبدع في الوصول إليها والتمتع بها، بوصف هذه الحرية هي من صميم طاقتها وقدرتها على الإبداع، وهذا الأمر ليس خافياً عن طه حسين نفسه. فهو مدرك لتلك المراحل في تجربته المعرفية، وينصح الأدباء ببعضها، والتحلل من قيود المنطق والمعقول والمقبول والمشروع، ولكن بعد أن يمروا بالمرحلة التأسيسية لهذا التحرر أولاً، كي لا تتحول تجاربهم إلا حالة من العشوائية المريرة.
وانتقد طه حسين بوضوح ما يمكن تسميته النفاق المعرفي، إرضاءً للمجتمع أو بعض مؤسساته، أو للنقاد، لأن هذا الإرضاء وإن بدأ رغبة من المبدع في التصالح مع مجتمعه والسلطة التي تحكم على إبداعه، فسوف ينتهي به إلى حالة من المساومة تتغلب فيها المصالح الشخصية على الإخلاص للتجربة المعرفية.
ويتناول بعد ذلك في خاتمة «مع المتنبي» علاقة المفكر والمبدع بما ينتج، فهو، كرأي بكر، لم يكن ينفي عن نفسه تهمة التواضع فحسب، بل لعله أراد أن يعطي مثلاً «أن الكاتب والفنان يجب أن يصطنع مسافة بين ذاته وبين ما يقوم بإبداعه، فلا يتوحد معه ولا ينحاز إليه لمجرد أن هذا الفكر أو ذاك الفن قد صدر عنه، لأن المنتج النهائي سيلتحق بعائلة جديدة ينتسب إليها هي تراثه النوعي، الذي ينتسب إلى تاريخ الفكر - الإبداع الإنساني على اتساعه».
وفي الفصل الثاني يتناول بكر الجانب الشفوي الذي ميَّز عقلية طه حسين بأثر من فقده البصر وتعليمه الأزهري، وجعله يحتفظ بشخصية شيخ العمود في أدائه العقلي وأسلوب كتابته جميعاً، ويعد ذلك من أهم جوانب تجربته المعرفية، وقد سعى المؤلف خلال سطوره إلى إعادة النظر مرة أخرى في قضية الانتحال المشهورة؛ بوصفها تعبيراً عن صراع العقليتين الكتابية والشفاهية عند صاحب «الأيام».
يناقش بكر في الفصل الثالث مقدمة كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» في محاولة منه لتوسيع أفق الرؤية، فكانت مناقشة دور الثقافة ككل في لحظة تاريخية حرجة، للكشف عن جوهر مفترض للخطاب المعرفي، والاستخدام السياسي لتلك المشاريع المعرفية.
ويركز الفصل الرابع على ما سماه بكر «شذرات العميد»، وهي الأفكار والمواقف التي تناثرت في كتاباته ولم تلقَ تحليلاً وافياً، من مثل موقفه من تعلم اللغات الأجنبية والترجمة عنها، كما تعرض بالتحليل لمنطق الخصومة بينه وبين العقاد، الذي يكشف عن جانب مهم في تجربة العميد المعرفية. ويلقي الضوء على ما تشهده الساحة من صراعات مريرة لا تستحق صفة «الثقافية» منذ ثمانينات القرن العشرين.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

الشمبانزي يُحسِّن أداءه عندما يراقبه البشر!

الجمهور يُحفّز الشمبانزي على أداء أفضل في المهمّات الصعبة (جامعة كيوتو)
الجمهور يُحفّز الشمبانزي على أداء أفضل في المهمّات الصعبة (جامعة كيوتو)
TT

الشمبانزي يُحسِّن أداءه عندما يراقبه البشر!

الجمهور يُحفّز الشمبانزي على أداء أفضل في المهمّات الصعبة (جامعة كيوتو)
الجمهور يُحفّز الشمبانزي على أداء أفضل في المهمّات الصعبة (جامعة كيوتو)

كشفت دراسة يابانية أن أداء الشمبانزي في المهمّات الصعبة يتحسّن عندما يراقبه عدد من البشر، وهو ما يُعرف بـ«تأثير الجمهور».

وتُشير دراسة أجراها باحثون من جامعة «كيوتو»، إلى أن «تأثير الجمهور» ليس سِمة بشرية فحسب؛ بل قد يكون متجذّراً بعمق في التطور الاجتماعي لأنواع الرئيسيات الكبرى؛ ونُشرت النتائج، الخميس، في دورية «آي ساينس».

وعندما يتحلّى شخص ما بجمهور يشاهده خلال أدائه مهمّة معيّنة، قد يتأثر هذا الأداء سواء بالإيجاب أو السلب، وفق عوامل مثل صعوبة المهمّة ومستوى الخبرة.

ويُعرف هذا التغيير بـ«تأثير الجمهور»، ويشير إلى كيفية تأثير وجود الآخرين على أداء الشخص، إذ يمكن أن يشعر الشخص بمزيد من الدافع لتحسين أدائه، أو قد يتشتّت أو يتوتّر؛ ما يؤدّي إلى انخفاض مستوى هذا الأداء.

وفي بعض الحالات، يكون «تأثير الجمهور» إيجابياً، ويحفّز الشخص على الأداء بشكل أفضل، خصوصاً في المهمّات التي يتقنها، لكن في حالات أخرى، قد يؤدّي وجود الجمهور إلى زيادة الضغط أو التوتّر؛ ما يضعف الأداء، خصوصاً في المهمّات الجديدة أو المعقَّدة.

وسعى الباحثون إلى معرفة ما إذا كان «تأثير الجمهور»، الذي يُعرف لدى البشر، يمكن أن يظهر أيضاً لدى القردة. فهم يدركون أنّ البشر يلاحظون مَن يراقبهم، حتى وإن كان ذلك بشكل غير واعٍ، ما يؤثّر في أدائهم، لكن لم يكن من الواضح مدى تأثر الشمبانزي بمراقبة الآخرين له.

وخلال الدراسة، راقب الفريق أداء الشمبانزي على مدى 6 سنوات، من خلال تحليل آلاف الجلسات التي شارك فيها قردة الشمبانزي في مهمّات باستخدام شاشات اللمس. وتضمّنت التجارب 3 أنواع من المهمّات العددية، ووجدوا أنّ الشمبانزي أدّى بشكل أفضل في المهّمات الأكثر صعوبة كلما زاد عدد الأشخاص الذين يشاهدونه.

ووفقاً للباحثين، تُشير نتائج الدراسة إلى أنّ اهتمام البشر بوجود جمهور قد لا يكون سمة خاصة بهم فقط؛ وإنما يمكن أن يكون جزءاً أساسياً من كيفية اعتماد المجتمعات على السمعة. وإذا كان الشمبانزي أيضاً يُظهر اهتماماً بوجود مشاهدين في أثناء أداء المهمّات، فذلك يشير إلى أنّ هذه الخصائص المرتبطة بالجمهور قد تطوّرت قبل ظهور المجتمعات القائمة على السمعة في سلالة الرئيسيات الكبرى.

ومع ذلك، أضاف الباحثون أنّ الآليات المحدّدة التي تؤدّي إلى هذا التأثير المرتبط بالجمهور غير واضحة حتى لدى البشر. ويعتقدون أنّ دراسة هذه الظاهرة لدى القردة العليا الأخرى قد تساعد في فهم كيفية تطور هذه السمة، ولماذا نشأت.