سهرة ودم وروايات كثيرة

سهرة ودم وروايات كثيرة
TT

سهرة ودم وروايات كثيرة

سهرة ودم وروايات كثيرة

في ذاك المساء المشؤوم تجمّع الرجال كلّهم في الغرفة الغربيّة من منزول وجيه القرية. ذاك أنّ الغرف الشرقيّة من البيت الضخم تُركت لأفراد عائلته يتدبّرون فيها أمورهم بعيداً من أعين الزوّار. وبينما السهرة على وشك أن تُقلع، بدا الجميع، كما عادتُهم دائماً، مُتعبين ضعيفي الهمّة، بعد يوم طويل من الكدح في الحقول وفي تعمير بيوت المهاجرين. فهذا يسأل عن الساعة، وذاك يتثاءب، والثالث يقول إنّ التعب يعصره من قدميه حتّى رأسه.
وحدهما جميل وابنه ميلاد لم يظهر عليهما التعب. كانت حيويّةٌ غامضة تتدفّق منهما وتتجمّع في أعينهما كأنّها تتأهّب للوثوب إلى خارج جسديهما. فوق هذا جاء كلّ منهما إلى بيت الوجيه حاملاً عصا قصيرة غليظة ومشكوكة بالرؤوس الخشبيّة النافرة التي يقال إنّها صُنعت للقتل المحتوم. وهذا ممّا لم يكن مألوفاً في تلك السهرات التي يلتقي فيها أقارب أو أصدقاء، بحيث ظُنّ لوهلة أنّهما يتزيّنان أو يتسلّيان ويسلّيان باستعراضهما أموراً غريبة وغير متوقّعة. كذلك لم يكن مألوفاً أن يجلس الساهرون كما جلسا، مُستَنفَرين كما لو أنّهما يبحثان عن شرّ قادم لا محالة.
وبالفعل وصل الشرّ حين دخل توفيق وابنه إبراهيم من باب الغرفة الغربيّة العريض. وإذ أحسّا، لدى رؤيتهما جميل وميلاد، بشيء من الحرج الذي عبّر عنه ارتباك جسديهما، اتّجهت عصا ميلاد فوراً نحو إبراهيم الذي حاول حماية رأسه بيديه الاثنتين، لكنّ العصا كانت من القوّة بحيث طحنت أصابعه قبل أن تُحدث شرخاً صغيراً في رأسه الذي خرج منه دم كثير وسريع. وفي اللحظة ذاتها تقريباً كانت عصا جميل تنقضّ على رأس توفيق الذي كان يهمّ بمساعدة ابنه، مادّاً إحدى يديه نحو ميلاد علّه يُبعده عنه. ولم تكن عصا جميل أقلّ نشاطاً من عصا ابنه، إذ أسقطت توفيق على الأرض حيث ارتسمت بقعة دم ساخن.
في هذه الغضون لم ينجح الوجيه صاحب البيت، ولا الساهرون الآخرون، الذين استيقظوا على نحو غير معهود فيهم، في أن يردّوا الضاربين عن المضروبين، وإذ هرعت نساء العائلة القادمات من الغرف الشرقيّة، فإنّ صوت الصراخ الذي يُسمع غالباً عند تلقّي أخبار الموت، سريعاً ما حلّ محلّ لهفتهنّ وحيرتهنّ.
لكنْ في الأيّام التالية فاض الكلام الذي يُتداوَل في البيوت وفي مقهيَي القرية بالشروح والتفسيرات، وهي كلّها كانت تقود أصحابها إلى أخبار الماضي. وفجأة غدا المسنّون والمسنّات الأعلى صوتاً بين السكّان، إذ هم الذين يعرفون ما يجهله الأبناء والأحفاد من أحداث قديمة ربّما كان لها ضلع في الحادث الأليم. وراح الصغار يستفهمون ويستشيرون كبار السنّ بعدما كانوا يتجاهلونهم ويسخرون بقدر من المواربة من آرائهم، ولم يكونوا يتردّدون أحياناً في إسكاتهم بقلّة تهذيب ملحوظة.
لكنّ كبار السنّ رووا أخباراً على كثير من التضارب. فأحدهم قال إنّ توفيق زوّر وثيقة أتاحت له الاستيلاء على أرض يملكها جميل، بينما روت إحدى المسنّات أنّ جميل هو الذي زوّر الوثيقة بما أتاح له الاستيلاء على أرض تعود ملكيّتها إلى توفيق. وبدورها قالت مُسنّة أخرى إنّها رأت بعينيها الاثنتين إبراهيم، في منطقة البساتين، وهو يحاول التحرّش بمريم، ابنة جميل وأخت ميلاد، إلاّ أنّ زوجها المسنّ روى رواية تفيد بأنّه بعينيه الاثنتين رأى ميلاد، قرب النهر، وهو يحاول التحرّش بسُميّة، ابنة توفيق وأخت إبراهيم.
ولم يمض سوى يومين أو ثلاثة حتّى اندفع السكّان إلى مناقشة موضوع آخر. فثمّة من قال إنّ جميل وعائلته أعرقُ في القرية من توفيق وعائلته. ذاك أنّ أجداد الأوّلين وفدوا إليها قبل عقود عدّة، بينما جاء الأخيرون قبل عقدين على الأكثر. لكنّ المشكّكين بهذه الرواية قدّموا معلومات مفادها أنّ توفيق وعائلته تعود أصولهما البعيدة إلى القرية، وإن أقاموا لبضع سنوات مهاجرين في قرى أخرى، بينما أجداد جميل وعائلته جاءوا إلى القرية مطرودين من قريتهم الأصليّة، حيث ارتكبوا جريمة موصوفة وعاثوا فساداً هم مفطورون عليه.
وسريعاً ما تدخّل الأقارب الذين صاهروا هذه العائلة أو تلك، فجعلوا يروون قصصاً تنسب الفضائل لمن صاهروهم، وتستبعد إقدام أقاربهم على عمل شرّير. وهكذا استمرّت الحال في القرية إلى أن أشاع ابن أخت جميل أنّ خاله توفّي للتوّ من جرّاء ضربات أنزلها به توفيق وإبراهيم. وبينما كانت تنتشر الشائعة هذه، كان أقارب توفيق، الذي قضى متأثّراً بجراح تلك الليلة الدمويّة في بيت الوجيه، يدفنونه في مقبرة القرية.
وقد مضت الروايات الكثيرة في سبيلها، كما مضى أهل القرية يستأنفون عيشهم ووئامهم ويسهرون في الغرفة الغربيّة من منزول الوجيه. أمّا الأخير فراح في كلّ سهرة يروي لزوّاره القصّة نفسها. ذاك أنّه علمَ بأنّ الدولة كانت تنوي إرسال محقّق يحقّق فيما حصل ويجلو الحقيقة، لكنّه بكلّ قوّة تصدّى لهذا المسعى ونجح في إحباطه حفاظاً على كرامة القرية وعزّة أبنائها. كان الزوّار، في تلك الأثناء، يطربون لتلك القصّة ذاتها سهرةً بعد أخرى، ويزدادون اقتناعاً بأنّ الوجيه لا يتعب من الدفاع عنهم ولا يكلّ.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
TT

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)

تأتي موسوعة الفنان سعيد العدوي (1938-1973) لترصد مسيرة مؤسس جماعة التجريبيين المصريين وأحد أبرز فناني الحفر والجرافيك في النصف الثاني من القرن العشرين.

وتتضمن الموسوعة، حسب قول المشرف عليها والباحث في شؤون الحركة الفنية المصرية الدكتور حسام رشوان، المئات من أعمال العدوي ويومياته ومذكراته واسكتشاته، مدعومة بعدد كبير من الدراسات التي تم إعداد بعضها خصوصاً من أجل هذه الموسوعة، ومعها دراسات أخرى نشرها أصحابها في صحف ومجلات ومطبوعات خاصة بالفن في مصر والوطن العربي.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن مقدمة الدكتورة أمل نصر تتناول جميع المقالات، والزاوية التي نظر منها الناقد لأعمال العدوي موضع الدراسة، كما تقوم بقراءتها وتحليلها وبسط عناصرها أمام الباحثين ومحبي فنه».

موسوعة العدوي تضمنت اسكتشاته ورسوماته (الشرق الأوسط)

وتأتي موسوعة العدوي التي نشرتها مؤسسة «إيه آر جروب» التي يديرها الفنان أشرف رضا، في صورة مونوغراف جامع لكل أعماله، التي تعبق برائحة الماضي، وعالم الموشحات، وحلقات الذكر والمشعوذين، وعربات الكارو والحنطور، وتجمعات الموالد والأسواق والأضرحة، فضلاً عن لوحة «الجنازة» بعد رحيل عبد الناصر. وجمعت الموسوعة كل كراساته واسكتشاته بالكامل، ومذكراته الخاصة التي كتبها وتعتبر دراسات نفسية قام بكتابتها، وقد ساعدت هذه المذكرات النقاد والباحثين في فن العدوي على تناول أعماله بصورة مختلفة عن سابقيهم الذين تصدوا لفنه قبل ظهورها، وفق رشوان.

ولأعمال العدوي طابع خاص من الحروفيات والزخارف والرموز ابتكرها في إبداعاته وهي تخصه وحده، وتخرّج العدوي ضمن الدفعة الأولى في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1962، وأسس مع زميليه محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي جماعة التجريبيين. وتأتي الموسوعة باللغة العربية في قطع كبير بالألوان، تزيد على 600 صفحة، من تصميم وتجهيز وإنتاج طباعي «إيه آر جروب» للتصميم والطباعة والنشر.

الموسوعة ضمت العديد من الأعمال الفنية ودراسات عنها (الشرق الأوسط)

وتتضمن الموسوعة، وفق رشوان، دراستين جديدتين للدكتور مصطفى عيسى، ودراسة لكل من الدكتورة ريم حسن، وريم الرفاعي، والدكتورة أمل نصر، ودراسة للدكتورة ماري تيريز عبد المسيح باللغة الإنجليزية، وجميعها تم إعدادها خصوصاً للموسوعة، وهناك دراسات كانت موجودة بالفعل للدكتور أحمد مصطفى، وكان قد جهّزها للموسوعة لكن عندما أصدرت مجلة فنون عدداً خاصاً عن فن العدوي قام بنشرها ضمن الملف، وإلى جانب ذلك هناك بحث عن أعمال العدوي للراحلين الدكتور شاكر عبد الحميد والفنان عز الدين نجيب وأحمد فؤاد سليم ومعهم عدد كبير من النقاد والفنانين الذي اهتموا برائد التجريبيين المصري وأعماله.

والتحق سعيد العدوي بمدرسة الفنون بالإسكندرية سنة 1957، وقبلها بعام كان في كلية الفنون بالزمالك، وقضى خمس سنوات لدراسة الفن في عروس البحر المتوسط، أما الأعمال التي تتضمنها الموسوعة وتوثق لها فتغطي حتى عام 1973؛ تاريخ وفاته. وهناك عدد من رسوم الكاريكاتير كان قد رسمها وقت عمله بالصحافة، وهذه الأعمال اهتمت بها الموسوعة ولم تتجاهلها لأنها تكشف عن قدرات كبيرة للعدوي وسعيه للدخول في مجالات عديدة من الفنون التشكيلية، وفق كلام رشوان.

من أعمال العدوي (الشرق الأوسط)

ولفت إلى أن «تراث العدوي بكامله بات متاحاً من خلال الموسوعة للباحثين في فنه والمهتمين بأعماله وتاريخ الفن التشكيلي المصري، وقد توفر لدى كتّاب الموسوعة عدد مهول بالمئات من اللوحات الكراسات والاسكتشات، فأي ورقة كان يرسم عليها اعتبرناها وثيقة وعملاً فنياً تساعد في الكشف عن رؤية العدوي التشكيلية وعالمه الخَلَّاق».

ولا تعتمد الموسوعة فكرة التسلسل الزمني، لكنها توثق عبر المقالات كل الأعمال التي تناولتها، من هنا بنى رشوان رؤيته وهو يرسم الخطوط الرئيسية لفن العدوي على الدراسات البانورامية التي تشتغل بحرية كاملة على الأعمال دون التقيد بتاريخها.

وسبق أن أصدر الدكتور حسام رشوان، بالاشتراك مع الباحثة والناقدة الفرنسية فاليري هيس، موسوعة فنية عن رائد التصوير المصري محمود سعيد عن دار «سكيرا» الإيطالية عام 2017 بمناسبة مرور 120 عاماً على ميلاد محمود سعيد، وتضمنت الموسوعة في جزئها الأول أكثر من 500 لوحة و11 مقالاً ودراسة نقدية.