ليس مستغرباً أبداً أن تخرج الصين من «قوقعتها» السياسية وتؤدي دوراً لم تتصدَّ له في تاريخها الحديث، فمن يملك ثاني أكبر اقتصاد في العالم ويتجه بسرعة إلى احتلال المرتبة الأولى، لا يمكن أن يجلس على مقاعد الاحتياط والمباراة جارية، خصوصاً أن الاقتصاد والسياسة مترابطان عضوياً...
التحوّل الصيني في هذا السياق، بدأ يتظهّر مع مبادرة «الحزام والطريق» التي اعتبر منافسو الصين أنها ستقود إلى نفوذ سياسي حتمي لبكين في الدول التي تنضم إلى المبادرة. وكذلك لا تخفى طموحات العملاق الأصفر في أفريقيا التي تعيش مرحلة تحولات بعد ضمور نفوذ القوى الاستعمارية السابقة لمصلحة لاعبين ثلاثة كبار، هم الولايات المتحدة وروسيا والصين.
في هذا الجو، أطلقت بكين مقترحاً للسلام في أوكرانيا، وذلك بعد التزامها طوال سنة الحرب موقفاً يؤيّد روسيا بحذر، ولا ينخرط في عداوة مع أوكرانيا. ويقوم المقترح الصيني على عدد من النقاط، أهمها احترام سيادة كل الدول، ووقف الأعمال العدائية، واستئناف محادثات السلام، وحماية المنشآت النووية....
ولئن قوبلت المبادرة الصينية بالترحيب «البارد» في الغرب، خصوصاً من الرئيس الأميركي جو بايدن الذي رأى أن الخطوة الصينية لا يمكن أن تكون جيدة بما أنها أعجبت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن خطوة بكين وجدت في الواقع صدى كبيراً. وها هي الصين تتحول إلى مقصد لرؤساء دول يؤدون أدواراً فاعلة كيفما نظرنا إليها. فالرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو، الحليف الوثيق لبوتين، يزور بكين بدءاً من 28 فبراير (شباط) الجاري. والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المرحّب بالمبادرة الصينية مع ربطها بضرورة الانسحاب الكامل للقوات الروسية من أوكرانيا، أعلن أنه سيزور الصين مطلع أبريل (نيسان)، داعيًا بكين إلى «مساعدتنا في الضغط على روسيا» بهدف «وقف العدوان» و«بناء السلام». والأبرز أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يعتزم عقد اجتماع مع نظيره الصيني شي جينبينغ، و«سيكون ذلك مهما للأمن العالمي. الصين تحترم وحدة الأراضي ويجب أن تفعل كل شيء لضمان مغادرة روسيا أراضي أوكرانيا»، كما قال.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (أ.ف.ب)
الواقع الجديد
يقول البروفسور نوربرت لامّيرت، الرئيس السابق للبوندستاغ (البرلمان الألماني) والحالي لمؤسسة «كونراد أديناور»: «من الواضح أن الزمن الذي كان فيه للأفكار المستمدة من الغرب تأثير تكويني شبه تلقائي على بقية العالم قد ولّى. نجد أنفسنا الآن في وضع تنافسي يجب أن نكون واعين له وجادين بشأنه، من دون أن يكون لدينا عقدة نقص في الوقت نفسه».
لا يخفى على أحد أنه على مدى العقد الماضي، تصاعد حضور الصين كقوة عالمية في موازاة نموّها الاقتصادي الهائل. وبقيادة شي جينبينغ، أصبح تطلع الصين إلى الاضطلاع بدور قيادي في السياسة العالمية عنواناً واضحاً لا لبس فيه.
ظنّ كثر أن الهجوم الروسي على أوكرانيا، سيفتح شهية الصين للهجوم على تايوان واستعادة الجزيرة بالقوة، على اعتبار أن الفرصة سانحة لتطبيق سياسة بكين المعلنة في هذا الشأن.
وخال كثر أن الصين ستنخرط في الحرب إلى جانب روسيا باعتبار أن المعركة الدائرة بين الأخيرة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) على الأرض الأوكرانية إنما هي معركة للسيطرة على أبواب أوراسيا، يتوسلها الغرب ليتمكن من تطويق الصين الناشطة بقوة على الجانب الآخر، سواء في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، وفي المدى الأرحب على مسارات التجارة في المحيط الهادئ.
غير أن الحكمة الصينية لم تذهب بالعملاق الأصفر إلى أي أمر من هذا القبيل. فلا هي هاجمت تايوان، ولا هي انخرطت في الحرب الأوكرانية إلى جانب روسيا.
هكذا بقيت سياسة الصين تجاه تايوان من دون تغيير، مع القيام باستعراضات قوة بين الحين والآخر في مياه مضيق تايوان وأجوائه. أما في ما يخص الحرب في أوكرانيا، فقد صاغت بكين موقفها بما يتماشى مع نهج سياستها الخارجية العامة وإدراكها لجوهر التحالفات الدولية القائمة. وخلاصة مقاربة «التنين الأصفر» هنا أن روسيا لا تتحمل وحدها مسؤولية الحرب، بل الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، يتحمل مسؤولية كبيرة لأنه تجاهل باستمرار المخاوف الأمنية الروسية. والركيزة الثانية للموقف الصيني أنه لا بدّ من صوغ مفهوم أمني مشترك في المنطقة والعالم يأخذ في الاعتبار مصالح جميع الأطراف ولا يهيمن عليه الغرب.
أوكرانيون وتايوانيون يحييون الذكرى الأولى للحرب في ساحة الحرية بتايبه (أ.ب)
قوة الحجة
الموقف الصيني يبدو عقلانياً، وهذا ما يعطيه مصداقية لا يستطيع أحد إنكارها.
من هنا تتعزز حجّة بكين عندما تعارض، مثلاً، العقوبات الغربية على روسيا معتبرة أن واشنطن تستخدمها كوسيلة لتوسيع نفوذها الجيو - اقتصادي.
أما على من يزعم أن الصين لم تهاجم تايوان خشية تعرضها لعقوبات مماثلة لما تعرضت وتتعرض له روسيا، فترد بكين أن المقارنة بين الحالتين لا تجوز. فأوكرانيا دولة ذات سيادة تعترف بها الأمم المتحدة وكل دول العالم بما فيها روسيا، في حين أن تايوان جزيرة فقدت صفة الدولة منذ اعترفت الأمم المتحدة بجمهورية الصين الشعبية، العضو الدائم طبعاً في مجلس الأمن.
لا شك في أن الصين درست الحرب الأوكرانية وتداعياتها من كل الجوانب قبل أن تتقدم بمقترحها للسلام مع مرور السنة الأولى على الحرب الأوكرانية. وهي، وإن كانت ترغب كما الدول الأوروبية في انتهاء الحرب بأسرع وقت ممكن، وجدت فرصة للتقدم إلى صف الصدارة في المشهد السياسي العالمي. وها هي تصبح وجهة لزعماء الدول، لا بحثاً عن الاتفاقات التجارية كما كان كان في الماضي القريب فحسب، بل لتبادل الأفكار ونسج التفاهمات المحتملة...
الواضح أن الحرب الأوكرانية تصنع عالماً جديداً وتعيد تشكيل رقعة الشطرنج الجيوسياسي: الصين تتقدم، روسيا قد تجد في الصين «أخاً أكبر» يعضدها، الاتحاد الأوروبي بشقه الغربي يرى في بكين شريكاً عقلانياً محتملاً، فيما الشق الشرقي يلوذ أكثر فأكثر بحلف شمال الأطلسي... والولايات المتحدة تذهب إلى المدى الأبعد في مواجهتها الأطلسية مع روسيا ولا ترغب حكماً في فقدان حلفاء ولاعبين من صفّها. من هنا نفهم «الرفض» الأميركي السريع للمقترح الصيني...
إذا وضعنا كل شيء في الغربال، سيبقى كما يبدو لاعبان أساسيان في «النهائي»: الولايات المتحدة والصين.
لعلّ هناك في الميدان الثنائي المواجهات المريرة، أو الحلول النهائية إذا اقتنع صاحبا الاقتصادين الأول والثاني في العالم بالجلوس إلى الطاولة.
الرئيسان الأميركي جو بايدن والصيني شي جينبينغ خلال لقائهما بأندونيسيا في نوفمبر الماضي على هامش قمة العشرين (أ.ب)