هل اللغة العربية في طور احتضار؟ لا أظن. اللغة ترجمان تشبه تلك المرآة السحرية التي تُري الإنسان ما هو أمامها، كما لو أنها كاميرا فوتوغرافية. هذا لا يعني أننا لا نرى الترهل اللغوي. ولكن هل ما نعانيه فقط هو الترهل اللغوي، أو ترهل على كل الصعد؟
قرأت عن علاقة الشعوب مع لغاتها، خاصة الشعوب التي كانت تعاني من عدم ثقة بنفسها في بداية خروجها من نفق التخلف كاليابان والصين. لغتنا مريضة؛ لأننا اليوم شعب مريض فكرياً وحضارياً. لغة لا نثق بها؛ لأننا نمر في لحظة تاريخية مضعضعة، فقدنا فيها الثقة بأنفسنا، وهي مرحلة، مهما طالت فهي مؤقتة.
ما السبب وراء الضعف اللغوي لدى الطلاب، مثلاً؟ يصادفنا طلاب في المرحلة الجامعية لا يعرفون القراءة ولا الكتابة العربية.
اللغة لا يمكن لها أن تتحسن إلا بالممارسة والقراءة. ونسبة القراءة قليلة. والسبب متعدد: منه ما هو اقتصادي، ومنه ما هو اجتماعي.
اللغة اقتصاد أيضاً. نحن لا ننتبه إلى ذلك. من الطبيعي أن تكون اليوم الغلبة للإنجليزية. اللغات تتصارع، ولكل لغة فترة تكون الغلبة فيها لها. نحن في زمن الإنجليزية، وفي كل يوم تقضم من قوة الفرنسية. ولكن السبب ليس فقط اقتصادياً، هناك سبب ثقافي أيضاً، فخيرات اللغات كلها تصب في اللغة الإنجليزية. ومن يستعرض الكتب الإنجليزية يجد أن مؤلفيها من كل أعراق العالم، وللعربي قرص في عرس اللغة الإنجليزية. أعطي مثالين فقط، إدوارد سعيد، وصاحب «البجعة السوداء» نسيم طالب.
الهجمة الإلكترونية، ذات حدّين، ولا يمكن نكران فضلها على اللغة العربية وغيرها من اللغات. هل زاد عدد من يقرأ؟ هل زاد عدد من يكتب؟ كل حامل لغويّ يغيّر علاقة الناس مع المقروء. حين وُلدت المطبعة أنتجت الجريدة. وأنتجت أيضاً بشكل غير مباشر الرواية. فالرواية في بداية أمرها وُلدت لتلبية حاجات الجريدة التي أنجبتها المطبعة. واليوم كم شخص عاد إلى الكتابة بفضل أزرار الهاتف الذكي! أنا هنا لا أتكلم عن المحتوى، وإنما عن الكمّ. ولكن هل يبقى الكمّ على حاله؟ هل كان بالإمكان للأدب التفاعلي أن يولد لولا وجود الكمبيوتر، ومن ثمّ الهاتف الذكي بتطبيقاته التي لا تحصر؟ لننظر إلى «تويتر» الذي لا يحب الإطناب، عدد حروف نصه قليل. هذا يعني ببساطة أنه يدرّب المرء على الإيجاز، ما يذكر بالتوقيعات في الأدب العربي، أو شعر «الهايكو». التكنولوجيا فرصة ذهبية للتسريع في عملية اكتساب اللغة وتعلمها. ولكن هل نستثمرها كما يجب؟ لا أظنّ. نتكلم عن لغة «النت»؛ أي كتابة اللغة العربية بالحرف اللاتيني، وهذه حالة ليست جديدة، في فترة من الفترات كُتبت العربية بالحرف السرياني وسُميت «الكرشوني». أظن أنها موجة عابرة، هي بنت بدايات دخول الكمبيوتر إلى بلادنا؛ إذ لم تكن لوحة المفاتيح مزودة بالحرف العربي. كانت عملية ذكية إيجاد الكتابة بلغة النت. جاءت تعويضاً عن نقص، وتعويضاً عن السياسة اللغوية العربية الخرقاء. كان يكفي أن ترفض الدول العربية إدخال حواسيب وهواتف ليست مزودة بلوحات مفاتيح ثنائية اللغة.
لكل مشكلة حلّ. وهي حلول ليست فقط لغوية. علينا أن نستعين بالتكنولوجيا لإغراء الصغار ببناء علاقة جميلة مع اللغة. اللغة لعبة، والطفل يحب اللعب، وإذا استطعنا تحويل اللغة إلى لعبة، سيقبل عليها الطفل من تلقاء نفسه. ما هو عدد الألعاب اللغوية؟ كما لا بد من استثمار حتى الفنانين في عملية بناء علاقة مع اللغة. ماذا فعل كاظم الساهر مثلاً بكلمات نزار قباني؟
- كاتب وأستاذ الألسنية في الجامعة اللبنانية
الكتابة بالنت تعويض عن السياسة اللغوية الخرقاء
الكتابة بالنت تعويض عن السياسة اللغوية الخرقاء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة