مذكرات كافكا بنسختها الأصلية غير المحررة

بعد قرن من وفاة صاحبها

فرانز كافكا
فرانز كافكا
TT

مذكرات كافكا بنسختها الأصلية غير المحررة

فرانز كافكا
فرانز كافكا

لا يوجد في تاريخ القرن العشرين كاتبٌ أصبح رمزاً للسوداويّة والعبث والكوابيس أكثر من فرانز كافكا (1883 – 1924)، حتى قيل إن الكافكاويّة «كل أدب يتقمّص نظرة كئيبة إلى العالم». فهذا الروائي والقاص؛ الذي وضع معظم نصوصه المذهلة بالألمانيّة، تخيّل عوالم يعمّها الظّلام تداخل فيها الواقعي بالعجائبيّ، وتقاطعت أحداثها بالكوابيس، ولا تكاد شخصياتها غريبة الأطوار تنجو من اغترابها الاجتماعي وقلقها الوجودي وشعورها المقيم بالذنب؛ حتى تسقط في جب مآزق سورياليّة تثير الذّعر واليأس والقنوط.
ومما نعرفه عن كافكا اليوم؛ فإن سيرة حياته القصيرة كانت قاتمة ومحبطة كما نصوصه، وخاض صراعات هوياتية ثقافيّة وجندريّة زعزعت من إحساسه بالحياة، وفشل دائماً في تأسيس علاقات إنسانيّة سويّة على تعدد معارفه وعشيقاته، وتجرّع حتى الثمالة كل السواد وخيبات الأمل التي جلبتها كارثة الحرب العالميّة الأولى على جيل الشبان الأوروبيين؛ الذي عاش لحظة الانتقال بين القرنين التاسع عشر والعشرين. وفي الحقيقة، فإنّ كافكا، مع هوسه بالقراءة والكتابة، بنى سمعته العالميّة على نصوص لم يوافق عليها ولم يصححها مطلقاً؛ إذ لم يُنْهِ أيّاً من رواياته الثلاث الأهم، والقليل الذي نشره في حياته لم يحظ حينها بأي اهتمام يذكر من القرّاء، وفي وقت ما أطعم النار أغلب مخطوطاته؛ إذ لم تعنه – وفق ما نعلم - الشهرة قط، ولاحقاً - بينما كان يقضي عليه مرض السلّ وهو لمّا يكمل العقد الرابع من العمر - أوصى رفيقه المقرّب ماكس برود بالتخلّص من كل ما تبقى من أوراقه. ولولا أن برود خان صديقه ولم ينفّذ رغبته لضاعت أعمال هذا الأديب العبقري إلى الأبد.
ولكن أَمَا من لحظات مبهجة في حياة هذا اليهودي الكئيب على الإطلاق؟ لعل أفضل فرصة لنا للإطلال من كوّة ضيقة على عالم كافكا الإنسان بحثاً عمّا يغاير أدبه بعد مائة عام على غيابه، قد تكون مفكرته الشخصيّة. فمن المعروف أنّه احتفظ بنوع من مذكرات ثريّة بداية من عام 1909 إلى عام 1923؛ أي ما قبل وفاته المبكرّة بأشهر، جمع فيها من كل الأشياء: الرسائل، ومسودات القصص، ومراجعات المسرح، والملاحظات، والاقتباسات من الصحف والمجلات، والتأملات الذاتيّة، وحتى الأحلام.
لم تكن تلك مادة للنشر بأي حال، وإنما كانت نوعاً من طاولة عمل يعود إليها كافكا بين الحين والآخر، ويلتقط على صفحاتها ما يعبر برأسه من أفكار، ويودعها نظراته فيما يمر بحياته اليوميّة من أحداث وشخصيّات تأتي عفو الخاطر. وهي كانت ضمن الأوراق التي طلب كافكا من صديقه حرقها، وما أنقذها إلا إيمان برود الحاسم بعبقريّة صديقه، وقراره عصيان وصيته.
فضل برود على الأدب العالمي لم يأت خالصاً؛ إذ نصّب نفسه حارساً لصورة كافكا في المخيال الجمعي، فقام بتحرير مكثّف للمذكرات قبل أن يدفع بها إلى المطبعة، فظهرت متماسكة، جادّة، خالية من الظلال السوداء والشوارد السائبة والهفوات البشريّة. وبشكل خاص استبعد كل المقاطع التي يمكن أن تقرأ في سياق ميول مثليّة جنسيّة، واختفت أو تقلّصت حكايات زياراته المتكررة لدور البغاء. لقد تحوّل كافكا بفضل مقص برود إنساناً مترفعاً يرتقي به نقاؤه إلى مكانة مرتفعة فوق أوحال هذا العالم.
نُشرت هذه النسخة المشذبة من المذكرات بالألمانيّة، واطلع عليها العالم الأنجلوساكسوني لأوّل مرّة في أواخر الأربعينات، وبقيت دهراً مصدراً لصورة وحيدة؛ لكن مضللة، عن شخص الكاتب وراء الكتابة، ساهم في تكريسها دون تحدّ الصراع السياسي على ضمّ تراث كافكا بين هوياته الكثيرة: يهوديته وألمانيته وتشيكيّته ونمساويته وأوروبيته، وأيضاً أمميته بوصفه كاتباً عالمياً عابراً للهويات المحليّة.
هذا التضليل الذي استمر لعقود انتهى في أجواء الثقافة الألمانيّة قبل ثلاثة عقود، عندما أعيد نشر المذكرات مجدداً بصيغتها المكتملة دون تدخلات برود، وقد انتظر الكوكب الأنجلوساكسوني الكاتب الأميركي روس بنجامين ليقدّمها هذا العام - بعد قرن من وفاة صاحبها - بهذه الصيغة الأصليّة غير المحررة وفي ترجمة محترفة وحساسة فاق عدد صفحاتها 700؛ رفقة مجموعة ثريّة من تعليقات المترجم وإشاراته، وستغدو دون شكّ مكملاً لا غنى عنه لأعمال كافكا الشهيرة في الرواية والقصّة القصيرة، ووثيقة لا بدّ منها لكل مؤرخ لكافكا ولأدب القرن العشرين.
تجرجر هذه الطبعة كافكا من عليائه المزورة وتعيده إلى الأرض مع بقيتنا من البشر الفانين، لكنّها مع ذلك تقوم بتلك المهمّة بطريقة حميمة لا تؤذي إحساس القراء بطول معاناته، ولا تقلل بأي حال من موهبته العميقة والحقيقية والساطعة.
قراءة هذه المذكرات ليست بالأمر السلس، فهي أشبه بقطع أفكار وبروفات نصوص لا خيط واحداً يجمعها سوى الإحباط والشعور بالعزلة، فكأنها مجموعة من القصائد والأبيات التي كتبت في مناسبات «متفاوتة» وجمعت في دفتر واحد دون نظام. ومن الجلي أن جانباً مهماً من عذابات كافكا، إلى جانب وجع الكتابة وأرقها - «إنني أحسّ بالإمكانية الوشيكة لحال عظيمة من شأنها أن تمزقني وتجعلني قادراً على أي شيء» - وعلاقته المهتزة بوالده، كان مسائل تتعلق غالباً بهويته الجنسيّة المضطربة، وفقدانه الثقة بقدرته الجسديّة التي أنهكها السلّ والأرق والإمساك والأوجاع الدائمة، وهذه مهمّة بشكل أو بآخر لفهم ذلك الاغتراب الحاد الذي كان يحس به وانعكس في النهاية على مضامين نصوصه الأدبيّة الخالدة.
ومع ذلك، تتسلل ملامح لطيفة عن تفاصيل العيش اليومي لكافكا من بين الصفحات؛ فيخبرنا مثلاً عن قضائه كثيراً من الليالي في المسرح، ويبدي آراء محكمة في الأعمال التي رآها على الخشبة حتى تكاد تعتقد أنّه كان ناقداً مسرحيّاً بارزاً، ونفهم أنّه أصبح صديقاً لأعضاء فرق مسرحيّة مغمورة، وتولّه بعدد من الممثلات فيها على نحو يثير تعاطفنا الشديد مع أولئك الممثلين الذين؛ رغم افتقادهم المال والشهرة؛ يستمرون في أداء مهمتهم النبيلة في محاكاة حزينة لمصير البشر البائس. وهناك إشارات إلى بكائه في السينما، وكذلك تفكيره في الانتحار.
ومع كل هذه الكآبة، يبدو من المذكرات أنّه كان قادراً على الضحك الهستيري أيضاً؛ إذ يخبرنا أنّه جلس في حانة بالعاصمة التشيكيّة رفقة صديقه ماكس برود بعد أن غادرا حفلاً للأوبرا، وبينما كان برود يحاول فتح عبوة مياه غازية؛ تناثرت محتوياتها كما رذاذ المطر على كل ملابس كافكا الذي ضحك بشدة حتى خرج المشروب الذي كان يشربه من أنفه.
على أنّ ما يجعل هذه النسخة من المذكرات فائقة الأهميّة للتأريخ الأدبي، احتواؤها – على خلاف النسخة التي حررها برود - على المسودات الأوليّة والبدايات التي عدل عنها لقصصه، فكأننا نقبض على نَفَسِ كافكا الأدبي الخاص وهو يتطور رويداً وريداً في الوقت الحقيقي لحياته القصيرة.
صورة كافكا بعد قراءة هذه النسخة من المذكرات أكثر اكتمالاً، وأقرب إلى الإنسانيّة والواقع؛ من التقديس والنمذجة المزيفة التي قدّمتها طبعة برود، وتوفّر انطباعاً غنياً عما سماه كافكا «ذلك الكون الهائل الذي أمتلكه في رأسي»، وهي تمكننا من استيعاب التجربة التي أنتجت تلك المجموعة المبهرة من روايات وقصص قصيرة وثّقت تضاؤل الفرد في كتل الآيديولوجيات الشمولية الهائلة التي هيمنت على بدايات القرن العشرين، والمناخات الحداثيّة التي أخذتنا تالياً إلى مأساة الحرب العالميّة الثانيّة وخروج أوروبا من مركز التاريخ. قراءة مزعجة من دون شك؛ لكنّها قيّمة ولا تقدّر بثمن.

«يوميات فرانز كافكا»
The Diaries of Franz Kafka، Translation: Ross Benjamin، (The Schocken Kafka Library)، Schocken Books،


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
TT

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)

أمَّنت الإقامة في باريس للفنانة اللبنانية تانيا صالح «راحة بال» تُحرِّض على العطاء. تُصرُّ على المزدوجَين «...» لدى وصف الحالة، فـ«اللبناني» و«راحة البال» بمعناها الكلّي، نقيضان. تحطّ على أراضي بلادها لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه إلى الأطفال. موعد التوقيع الأول؛ الجمعة 6 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. والأحد (8 منه) تخصّصه لاستضافة أولاد للغناء والرسم. تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة.

تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة (صور تانيا صالح)

وطَّد كونها أُماً علاقتها بأوجاع الطفولة تحت النار؛ من فلسطين إلى لبنان. تُخبر «الشرق الأوسط» أنها اعتادت اختراع الأغنيات من أجل أن ينام أطفالها وهم يستدعون إلى مخيّلاتهم حلاوة الحلم. لطالما تمنّت الغناء للصغار، تشبُّعاً بأمومتها وإحساسها بالرغبة في مَنْح صوتها لمَن تُركوا في البرد واشتهوا دفء الأحضان. تقول: «أصبح الأمر مُلحّاً منذ تعرُّض أطفال غزة لاستباحة العصر. لمحتُ في عيون أهاليهم عدم القدرة على فعل شيء. منذ توحُّش الحرب هناك، وتمدُّد وحشيتها إلى لبنان، شعرتُ بأنّ المسألة طارئة. عليَّ أداء دوري. لن تنفع ذرائع من نوع (غداً سأبدأ)».

غلاف الألبوم المؤلَّف من 11 أغنية (صور تانيا صالح)

وفَّر الحبُّ القديم لأغنية الطفل، عليها، الكتابةَ من الصفر. ما في الألبوم، المؤلَّف من 11 أغنية، كُتب من قبل، أو على الأقل حَضَرت فكرته. تُكمل: «لملمتُ المجموع، فشكَّل ألبوماً. وكنتُ قد أنقذتُ بعض أموالي خشية أنْ تتطاير في المهبّ، كما هي الأقدار اللبنانية، فأمّنتُ الإنتاج. عملتُ على رسومه ودخلتُ الاستوديو مع الموسيقيين. بدل الـ(CD)؛ وقد لا يصل إلى أطفال في خيامهم وآخرين في الشوارع، فضَّلتُ دفتر التلوين وفي خلفيته رمز استجابة سريعة يخوّلهم مسحه الاستماع المجاني إلى الأغنيات ومشاهدتها مرسومة، فتنتشل خيالاتهم من الأيام الصعبة».

تُخطّط تانيا صالح لجولة في بعلبك وجنوب لبنان؛ «إنْ لم تحدُث مفاجآت تُبدِّل الخطط». وتشمل الجولة مناطق حيث الأغنية قد لا يطولها الأولاد، والرسوم ليست أولوية أمام جوع المعدة. تقول: «أتطلّع إلى الأطفال فأرى تلك السنّ التي تستحقّ الأفضل. لا تهمّ الجنسية ولا الانتماءات الأخرى. أريد لموسيقاي ورسومي الوصول إلى اللبناني وغيره. على هذا المستوى من العطف، لا فارق بين أصناف الألم. ليس للأطفال ذنب. ضآلة مدّهم بالعِلم والموسيقى والرسوم، تُوجِّه مساراتهم نحو احتمالات مُظلمة. الطفل اللبناني، كما السوري والفلسطيني، جدير بالحياة».

تعود إلى لبنان لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه للأطفال (صور تانيا صالح)

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال، تشعر أنها تستريح: «الآن أدّيتُ دوري». الفعل الفنّي هنا، تُحرّكه مشهديات الذاكرة. تتساءل: «كم حرباً أمضينا وكم منزلاً استعرنا لننجو؟». ترى أولاداً يعيشون ما عاشت، فيتضاعف إحساس الأسى. تذكُر أنها كانت في نحو سنتها العشرين حين توقّفت معارك الحرب الأهلية، بعد أُلفة مريرة مع أصوات الرصاص والقذائف منذ سنّ السادسة. أصابها هدوء «اليوم التالي» بوجع: «آلمني أنني لستُ أتخبَّط بالأصوات الرهيبة! لقد اعتدْتُها. أصبحتُ كمَن يُدمن مخدِّراً. تطلَّب الأمر وقتاً لاستعادة إيقاعي الطبيعي. اليوم أتساءل: ماذا عن هؤلاء الأطفال؛ في غزة وفي لبنان، القابعين تحت النار... مَن يرمِّم ما تهشَّم؟».

تريد الموسيقى والرسوم الوصول إلى الجميع (صور تانيا صالح)

سهَّلت إقامُتها الباريسية ولادةَ الألبوم المُحتفَى به في «دار المنى» بمنطقة البترون الساحلية، الجمعة والأحد، بالتعاون مع شباب «مسرح تحفة»، وهم خلف نشاطات تُبهج المكان وزواره. تقول إنّ المسافة الفاصلة عن الوطن تُعمِّق حبَّه والشعور بالمسؤولية حياله. فمَن يحترق قد يغضب ويعتب. لذا؛ تحلَّت بشيء من «راحة البال» المحرِّضة على الإبداع، فصقلت ما كتبت، ورسمت، وسجَّلت الموسيقى؛ وإنْ أمضت الليالي تُشاهد الأخبار العاجلة وهي تفِد من أرضها النازفة.

في الألبوم المُسمَّى «لعب ولاد زغار»، تغنّي لزوال «الوحش الكبير»، مُختَزِل الحروب ومآسيها. إنها حكاية طفل يشاء التخلُّص من الحرب ليكون له وطن أحلى. تقول: «أريد للأطفال أن يعلموا ماذا تعني الحروب، عوض التعتيم عليها. في طفولتي، لم يُجب أحد عن أسئلتي. لم يُخبروني شيئاً. قالوا لي أنْ أُبقي ما أراه سراً، فلا أخبره للمسلِّح إنْ طرق بابنا. هنا أفعل العكس. أُخبر الأولاد بأنّ الحروب تتطلّب شجاعة لإنهائها من دون خضوع. وأُخبرهم أنّ الأرض تستحق التمسُّك بها».

وتُعلِّم الصغار الأبجدية العربية على ألحان مألوفة، فيسهُل تقبُّل لغتهم والتغنّي بها. وفي الألبوم، حكاية عن الزراعة وأخرى عن النوم، وثالثة عن اختراع طفل فكرة الإضاءة من عمق خيمته المُظلمة. تقول إنّ الأخيرة «حقيقية؛ وقد شاهدتُ عبر (تيك توك) طفلاً من غزة يُفكّر في كيفية دحض العتمة لاستدعاء النور، فألهمني الكتابة. هذه بطولة».

من القصص، تبرُز «الشختورة» (المركب)، فتروي تانيا صالح تاريخ لبنان بسلاسة الكلمة والصورة. تشاء من هذه الحديقة أن يدوم العطر: «الألبوم ليس لتحقيق ثروة، وربما ليس لاكتساح أرقام المشاهدة. إنه شعوري بتأدية الدور. أغنياته حُرّة من زمانها. لم أعدّها لليوم فقط. أريدها على نسق (هالصيصان شو حلوين)؛ لكلّ الأيام».