المنتج الفكري الضخم والعميق الذي تركته الباحثة والمفكرة الألمانية حنة أرنت (1906 - 1975)، والذي أحاط بقضايا عديدة منها ما يتصل باليهود بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو لا يتصل بهم لكنه يمس مواقفها وآراءها العامة من حيث هي منتمية للجماعة اليهودية في ألمانيا، كل ذلك يجعل الإحاطة بمنجزها أمراً في غاية الصعوبة. لا شك أن انتماءها اليهودي وما يتصل بذلك الانتماء احتلا مكانة واسعة في أعمالها، لكنها عنيت بمسائل فكرية وثقافية أكثر عمومية من أن تحصر بالمسائل التي تهم اليهود بصورة مباشرة، ولا شك أن هذا يصدق على باحثين آخرين من اليهود ممن جرى تناولهم ضمن ما أسميته النموذج السبينوزي، لكن أرنت اختلفت في تعدد اهتماماتها ومنجزاتها ضمن السياق اليهودي، وربما حجم وتأثير تلك الاهتمامات والمنجزات. ومما لا شك فيه أنها الأكثر بروزاً وحضوراً بين جيل المفكرين اليهود في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لم يكتب أحد من أولئك المفكرين عملاً ترك من الأثر ما تركه، مثلاً، كتابا أرنت «أسس التوتاليتارية» و«الحالة الإنسانية». هذان العملان يعدان بين الأبرز والأكثر شهرة وتأثيراً في الفكر الغربي الحديث. تضاف إلى ذلك تجربتها مع النازية واعتقالها وهروبها من معسكرات الاعتقال ونشاطها السياسي المباشر، سواء مع النشطاء الصهيونيين أو المنظمات اليهودية الأخرى، إلى غير ذلك من أوجه التفاعل والتأثير الواسعة.
النموذج السبينوزي يصدق على أرنت من الناحية الأساسية، أي الانتماء لليهود ونقد بعض أوجه حياتهم أو القضايا التي تهم بعضهم أو الكثير منهم. وصفها لبعض قادة الحركة الصهيونية في ألمانيا بأنهم كانوا متواطئين مع النازية في المحرقة أو في تصفية الملايين من اليهود هو ربما أكثر مواقفها حدة، فضلاً عن نقدها لإسرائيل ورفضها الانسياق مع ما اتخذه بعض زعمائها من مواقف. غير أن علاقتها بمهادها اليهودي في ألمانيا تتجاوز ذلك إلى مسائل أعمق وأكثر شمولية واتصالاً بالإنسان بصفة عامة، مثل الحرية والسلطة والتعليم والتاريخ، إلى غير ذلك. وبوجه عام، ظلت أرنت تؤكد انتماءها اليهودي من ناحية، وتتخلى عنه أو تقلل من شأنه، من ناحية أخرى. لكن تأكيدها له يبدو أوضح وأقوى.
بدايات الانشغال بالانتماء اليهودي
انشغلت أرنت منذ فترة مبكرة بانتمائها إلى الجماعة اليهودية، وكان من الطبيعي والمتوقع لفتاة على قدر عالٍ من الذكاء ولدت في بيت مثقف تتوفر فيه الكتب أن تعي مبكراً موقعها الاجتماعي بين فئة من اليهود الألمان حققت قدراً عالياً من الرخاء الاقتصادي والتمكن السياسي والقبول الاجتماعي. كما كان متوقعاً من شابة مثقفة مثلها أن تتعرف على التاريخ الاجتماعي والثقافي للجماعات اليهودية في أوروبا مثلما تتعرف على تاريخ الفكر والثقافة الغربية عامة. أكدت ذلك التعرف مقالة نشرتها عام 1932 بعنوان «التنوير والمسألة اليهودية»، المسألة التي ستشغلها بقية حياتها. دراستها لحياة راحيل فارنهاغن، المثقفة الألمانية اليهودية التي اشتهرت بصالونها الأدبي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، أكدت ذلك الانشغال الذي تركز في تلك الدراسة على سعي الجماعات اليهودية للاندماج في المجتمعات الأوروبية المحيطة، وتفرد فارنهاغن بحفاظها على هويتها اليهودية رغم سعي الكثير من المحيطين بها إلى التماهي مع المجتمعات المسيحية بالتخلي عن انتمائهم اليهودي.
شهد مطلع الثلاثينات أيضاً اكتشاف أرنت أن الحزب النازي الصاعد بدأ يمارس تأثيره في المشهد السياسي الألماني على النحو الذي اتضح من فرض القيود على بعض الناشطين اليهود من أمثال أرنت، في الوقت الذي بدأ نشاط الحزب يفرز الوضع السياسي بتحديد أنصاره من المعارضين له. وبينما كانت أرنت وغيرها من المثقفين اليهود يكتشفون أنهم غير مرحب بهم في البلاد التي كانوا يعدونها بلادهم، كان بعض أصدقائهم من الألمان ينضمون إلى القوة السياسية الصاعدة بما تحمل من آيديولوجيا ومواقف سياسية وثقافية واجتماعية مقيدة لنشاط الأقليات، لا سيما اليهود منها.
وكانت خيبة أمل أرنت تحديداً كبيرة حين اكتشفت أن الفيلسوف مارتن هايدغر، الذي كانت تلميذته لبعض الوقت، كان يحضر اجتماعات الحزب، ويظهر ميلاً لآيديولوجيته. ومما زاد من صعوبة الأمر وحدة مرارته أن أرنت كانت على علاقة عاطفية بهايدغر. الفيلسوف الألماني الآخر كارل ياسبرز، الذي أشرف على رسالتها للدكتوراه، حاول إقناعها بأن تنظر إلى نفسها بوصفها ألمانية أولاً، أي قبل أن تكون يهودية، فكانت إجابتها أنه بالنسبة لها ألمانيا هي اللغة الأم، هي الفلسفة والشعر. قالت لأحد محاوريها مستذكرة تلك المرحلة المبكرة: «أنا نفسي، مثلاً، لا أعتقد أنني نظرت إلى نفسي على أنني ألمانية مطلقاً - بمعنى الانتماء إلى الشعب في مقابل كوني مواطنة، إن كان لي أن أميز بين الاثنين. أتذكر أنني ناقشت ذلك مع ياسبرز في الثلاثينات»، وذلك بالفعل ما كان عليه الحال، لا سيما حين اضطرت أرنت للهرب إلى خارج ألمانيا فراراً من الاضطهاد مع أن الاضطهاد ظل يلاحقها حين احتجزت لبعض الوقت ثم تمكنت من الهرب مرة أخرى.
موقفها من الصهيونية وإسرائيل
تلك المعاناة دفعت بأرنت، قبل هروبها من ألمانيا، إلى المشاركة في دعم اليهود الراغبين في الهروب، لكنها لم تدفعها إلى الانضمام إلى الحركة الصهيونية. قالت لأحد محاوريها:
«لقد ألقي القبض علي، وكان علي أن أترك البلاد بصورة غير شرعية... منحتني المنظمات الصهيونية الفرصة (لتقديم المساعدة). كنت صديقة لبعض القياديين، بصورة رئيسية لرئيسها كيرت بلومفيلد. لكني لم أكن صهيونية، ولم يسع الصهاينة لضمي إلى صفوفهم. لكني بصورة أو بأخرى تأثرت بهم، لا سيما بالنقد، النقد الذاتي الذي أشاعه الصهاينة بين اليهود. تأثرت بذلك وأعجبت به، لكن من الناحية السياسية لم تكن لي صلة بالصهيونية».
عدم انتمائها إلى الحركة الصهيونية لم يؤثر بطبيعة الحال على شعورها بالانتماء اليهودي، على الأقل في تلك المرحلة الحاسمة (مع أن المؤرخ البريطاني اليهودي توني جُت يرى أنها انتمت للحركة الصهيونية أثناء وجودها في ألمانيا). ومما يؤكد أثر ذلك الشعور، وليس شعورها بالانتماء الذي يعد أمراً طبيعياً، أن الحدث الحاسم في حياتها بألمانيا، كما ذكرت هي، لم يكن صعود النازية، لم يكن عام 1933، وإنما كان عام 1943؛ في ذلك العام، تقول أرنت، «علمنا عن أوشفتز»، أي اكتشفنا المحرقة التي راحت ضحيتها تلك الأعداد الغفيرة من اليهود، والتي كادت هي أن تكون أحد ضحاياها أيضاً. غير أن الشواهد على مشاعرها تجاه اليهود فيما تركت من كتب ومقالات أكثر من أن تحصى. وبالطبع فإن المشاعر وحدها ليست الأمر الحاسم حين يتصل الأمر بالمنتج الفكري، سواء كان تحليلاً فلسفياً أو تأريخياً، وفي حالة أرنت يلعب البعد الفكري دوراً أساسياً لأنها مفكرة تقارب الفلسفة والتأريخ معاً.
لكن الجانب العاطفي ليس أيضاً بالأمر الذي يجوز استبعاده، لا سيما حين يتدخل البعد الشخصي أو التجربة الشخصية. فأرنت في نهاية المطاف إنسان عانى شخصياً، بل كاد يهلك جراء الأحداث التي تتناولها تحديداً. ولذا من الصعب تصور أن تنظر لما حدث لليهود أو للمواقف المعادية لهم نظرة باحث من الصين أو الهند أو أفريقيا أو أي منطقة أخرى لم تنغمر بالأحداث وتتأثر بها، ناهيك عن أن يكون خارجاً بل ناجياً منها للتو.