ألمانيا... حرب أوكرانيا والخيارات الاستراتيجية الصعبة

بين هواجس الماضي وإرث «الأوستبوليتيك»

دبابة «ليوبارد» الألمانية (إ.ب.أ)
دبابة «ليوبارد» الألمانية (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... حرب أوكرانيا والخيارات الاستراتيجية الصعبة

دبابة «ليوبارد» الألمانية (إ.ب.أ)
دبابة «ليوبارد» الألمانية (إ.ب.أ)

منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا قبل عام تقريبا، جلبت ألمانيا لنفسها لقب «المترددة» بالنسبة لحلفائها الغربيين، وذلك بسبب عرقلتها مرة بعد أخرى إرسال مساعدات عسكرية لكييف أو حتى فرض عقوبات على موسكو. ومع أن ألمانيا تعتبر نفسها «متمهلة» لا «مترددة»، فإن تباطؤها في اتخاذ قرارات تتعلق بدعم أوكرانيا، كان آخرها حول دبابات «ليوبارد»، فاقم قلة الثقة فيها بوصفها شريكا يمكن الاعتماد عليه بالنسبة لواشنطن. حتى قبل بداية الحرب في 24 فبراير (شباط) من العام الماضي، كان صبر الولايات المتحدة قد بدأ ينفد مع ألمانيا. وفي نهاية يناير (كانون الثاني) من العام نفسه، - أي قبل شهر تقريبا من بدء الحرب - وجهت السفيرة الأميركية في برلين إيميلي هابر رسالة شديدة اللهجة إلى الخارجية الألمانية، كشفت عنها مجلة «دير شبيغل»، استهلتها - حسب المجلة – بالتالي: «برلين، لدينا مشكلة». ثم أكملت هابر شرح كيف أن «تردّد» برلين في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية جعلها «شريكاً لم يعد يمكن الاعتماد عليه» في واشنطن. كانت هابر تتحدث عن نقطتين: الأولى معارضة ألمانيا فرض عقوبات على روسيا بسبب حشودها العسكرية على حدود أوكرانيا. والثانية رفضها السماح للدول التي تملك أسلحة سوفياتية اشترتها من ألمانيا الشرقية آنذاك، بإرسالها إلى كييف. واستخلصت السفيرة في رسالتها أن مواقف برلين نابعة من رغبتها بالاستمرار في شراء غاز بأسعار رخيصة من روسيا. وأبلغت هابر من ثم الخارجية الألمانية، بأن مواقف برلين تدفع بالبعض في واشنطن، خاصة من الجمهوريين، لوصفها بأنها باتت «حليفة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين»... وبالتالي، تقول إن هذا التردد قد تكون له آثار «ضخمة».

مرّت سنة على رسالة إيميلي هابر، السفيرة الأميركية لدى ألمانيا، إلى وزارة الخارجية الألمانية في برلين. لكن الخلافات الثنائية حول دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، لم تتقلص، بل يمكن – وفق عدد من المراقبين – القول إنها تتزايد. وعلى الرغم من الخطاب الشهير الذي ألقاه المستشار الألماني أولاف شولتز يوم 27 فبراير (شباط) 2022، أي بعد 3 أيام فقط من اندلاع الحرب الأوكرانية، والذي تحدث فيه عن «نقطة تحوّل»، فإن البعض يقول إن التغيير في برلين بطيء ولا يذهب بعيدا.
في ذلك الخطاب التاريخي، قلب المستشار شولتز سياسات ألمانية «مهادنة» اعتمدتها الحكومات المتعاقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وجوهرها الإحجام عن تزويد مناطق الصراع بأسلحة، والامتناع عن بناء جيش ألماني قوي. إذ أعلن الزعيم الاشتراكي عن أن بلاده ستزوّد أوكرانيا بأسلحة للدفاع عن نفسها، وأنها ستستثمر في إعادة تأهيل جيشها ليكون قادرا على الدفاع عن ألمانيا.
مع ذلك، فإن الخلافات حول الأسلحة التي يمكن تزويد أوكرانيا بها بدأت تظهر منذ البداية. إذ ظلّت برلين ترفض تزويد الجيش الأوكراني بـ«أسلحة ثقيلة» لأشهر بعد هذا الخطاب. واكتفت برلين، في البداية، بتزويد الأوكرانيين بذخائر وأسلحة خفيفة، متحجّجة بأن الأسلحة الثقيلة قد تطيل أمد الحرب. ولم يكن الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) الحاكم الذي ينتمي إليه شولتز وحده المقتنع بهذه المقاربة، بل كان مدعوماً في هذا الموقف من حزب «الخضر» البيئي الشريك الأساسي في الحكومة، والذي تنتمي إليه وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك.

- تغيّر موقف «الخضر»
وعلى الرغم من أن حزب «الخضر»، مثل الاشتراكيين، كان متمسكاً بالإحجام عن إرسال أسلحة إلى مناطق النزاعات، فإنه في المقابل كان منقسما على ذاته، إذ ظهر أن جناحا داخل الحزب البيئي على رأسه وزير الاقتصاد روبرت هابيك، يؤيد بالفعل تسليح أوكرانيا. ولم يطل الوقت حتى اقتنع «الخضر» بمختلف أجنحتهم وتياراتهم بضرورة إرسال أسلحة ثقيلة لسلطات كييف، الأمر الذي وضع الحزب في مواجهة شريكه الأساسي في الحكومة الائتلافية، مع ملاحظة أن الاشتراكيين بقيادة شولتز احتاجوا إلى وقت للوصول للاستنتاج نفسه.
ولكن، في أي حال، وبعد أشهر من النقاش، وافق شولتز على إرسال مدرّعات «ماردر» بعدما حصل على تعهّد من واشنطن بأن ترسل هي أيضاً مدرّعات «برادلي» الأميركية الصنع. والأمر نفسه تكرر مع دبابات «ليوبارد» الألمانية الصنع، إذ لم يوافق شولتز على إرسالها إلا بعدما تعهّدت واشنطن بإرسال دبابات أميركية من نوع «أبرامز»، وهذا رغم أنها خطوة قد تكون غير مُجدية بسبب صعوبة تسيير هذه الدبابات الأميركية وصيانتها. واليوم بينما تبدي السلطات البريطانية انفتاحا تجاه تسليم الأوكرانيين طائرات مقاتلة يطالبون بها لردع القوات الروسية، ترفض السلطات الألمانية بصورة قاطعة مجرد مناقشة الفكرة، ما يوحي بأن خلافاً جديداً ربما يكون قد أخذ يطفو على السطح بين الحلفاء الغربيين بشأن رؤيتهم لدعم أوكرانيا.

- موضوع العقوبات
ولكن لم تكن مسألة تسليح أوكرانيا المشكلة الوحيدة في مقاربة ألمانيا للحرب في أوكرانيا. فلقد قاومت برلين منذ البداية فرض عقوبات قاسية على موسكو. ورفضت لأسابيع عديدة فرض عقوبات تخرج البنوك الروسية من نظام «سويفت» العالمي، كما أنها ظلت تماطل لأشهر فرض عقوبات على النفط والغاز الروسيين. واستغرقت كذلك فترة طويلة قبل أن تعلن وقف العمل بمشروع «نورد ستريم 2»، الذي انتهى العمل منه في عهد المستشارة السابقة أنجيلا ميركل وكان جاهزا لإيصال الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا.
وفي حين يتذرع المستشار الألماني بأنه لا يريد اتخاذ خطوات من شأنها تأجيج الصراع الأوكراني أكثر، وقد تنتهي بتورط حلف شمال الأطلسي «ناتو» في الحرب الدائرة، فإن كييف والحلفاء الغربيين يرون أن هذا «التروي» إنما هو «تردد»... وأنه يعود إلى علاقة ألمانيا التقاربية بروسيا. وهي العلاقة التي حددتها سياسة الاشتراكيين أيام «الحرب الباردة» مع الاتحاد السوفياتي السابق في مطلع السبعينات وقادها المستشار الأسبق فيلي براندت. وكان براندت يؤمن بأن سياسة التقارب مع الروس – التي عُرفت يومذاك بـ«الأوستبوليتيك» – ستجعل من موسكو غريما أقل عدوانية وخطراً، بل ويمكن كسبها بوصفها شريكا عبر زيادة التعاملات التجارية معها.
منذ ذلك الحين أبقت الحكومة المتعاقبة على تلك السياسة، بما فيها تلك التي قادها حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ الذي تنتمي إليه ميركل. وفي ظل حكم ميركل، تطوّرت العلاقة بروسيا بشكل كبير رغم الاستفزازات الروسية المتكررة لبرلين والغرب. وكان من بين الاستفزازات الروسية التي يرى البعض أنها كانت توجب على برلين إصدار ردات فعل أقوى، اغتيالات ومحاولات اغتيالات في العواصم الأوروبية - منها العاصمة الألمانية - لمعارضين روس، وعمليات قرصنة جماعية للنواب الألمان وحتى للمستشارة – آنذاك - ميركل، وأخيرا ضم روسيا لشبه جزيرة القرم... الذي ردت عليه أوروبا بعقوبات اعتبرها كثيرون غير كافية.

- اتهام ميركل بـ«المهادنة»
السياسة التي اعتمدتها ميركل إزاء روسيا جعلتها غير محبوبة في أوكرانيا، حيث حملها كثيرون من الأوكرانيين مسؤولية الوضع الذي وصلت إليه بلادهم، بسبب ما يصفونه بأنه «سياسة مهادنة» اعتمدتها المستشارة السابقة طوال السنوات الـ15 التي حكمت فيها ألمانيا. وحقاً، ميركل بقيت مصرة على مشروع «نورد ستريم 2» رغم التحذيرات الأميركية المتكررة لها من أن المشروع سيزيد اعتماد ألمانيا بشكل كبير على موسكو فتصبح «رهينة لها». ولم توقف العقوبات الأميركية على المشروع ميركل عن المضي فيه، وسط الإصرار على أنه مشروع اقتصادي بحت ولا علاقة له بالسياسة.
أيضاً، يحمل كثيرون ميركل مسؤولية رفض الدفع باتجاه فرض عقوبات أقسى على روسيا بعد ضمها القرم عام 2014، ناهيك من ارتفاع أصوات ألمانية مطالبة برفع هذه العقوبات في السنوات الأخيرة من حكم ميركل، بحجة أنها تؤذي الاقتصاد الألماني. أيضاً يحمل العديد من الأوكرانيين ميركل مسؤولية دفع بلادهم إلى التوقيع على «اتفاقية مينسك» عام 2014، التي كانت تهدف إلى إنهاء القتال في منطقة الدونباس... من دون نجاح.
ولكن، بعد الحرب في أوكرانيا العام الماضي، استنتج حزب ميركل أن هذه السياسة مع روسيا كانت «ساذجة». واستنتج الأمر نفسه كثرة من الاشتراكيين، وإن بدرجة أقل. فحزب شولتز اعترف بخطأ اعتماده على روسيا في مجال الطاقة، وظنه أن التجارة تحسن العلاقات السياسية، غير أنه ظل مترددا في تقديم دعم أكبر لسلطات كييف خشية الإمعان في إغضاب موسكو. بل، حتى الآن، ثمة داخل الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) من يدعو للتفاوض مع موسكو ووقف الدعم العسكري لكييف، ما يعقّد مهمة شولتز الذي يتعين عليه إرضاء حزبه من جهة، ومن جهة ثانية إرضاء شريكيه في الائتلاف الحاكم اللذين يدعوانه - إلى جانب الحلفاء الغربيين - إلى التشدد أكثر مع الروس وتقديم دعم أكبر لأوكرانيا.

- أصوات اشتراكية ضد تسليح أوكرانيا
> بين الأصوات التي ترفض تسليح أوكرانيا، النائب الاشتراكي رالف شتاغنر الذي ظل يرفض إرسال دبابات «ليوبارد» إلى أوكرانيا حتى اللحظات الأخيرة، رغم التوتر الذي سببه ذلك مع الحلفاء الغربيين. ويعتبر شتاغنر أن «تركيز النقاش على السلاح فقط... خطأ». ويذكّر بأن ألمانيا كانت قد وافقت للتو على إرسال مدرّعات ناقلة للجنود، وفور موافقتها جاءها الطلب الثاني. وهو ما يدفعه للتساؤل «ماذا بعد ذلك؟ مقاتلات؟ جنود؟ لقد وافقنا للتو على إرسال مدرعات، والآن ليس الوقت لاتخاذ قرار ثان بهذه السرعة».
يعتبر شتاغنر أن ثمة مقاربة سياسية واقتصادية للحرب، وليست فقط عسكرية. ويدعو إلى مبادرة دبلوماسية غربية «خلف الأبواب المغلقة لكي تكون ناجحة»، مشيراً إلى أن الأمم المتحدة وتركيا نجحتا في مبادرة دبلوماسية مع روسيا أدت إلى الموافقة على إخراج الحبوب وتصديرها. ومن ثم يضيف «أتمنى أن تكون هناك مبادرات أخرى برعاية الحلف الغربي وليس تركيا فقط، وقد تكون ذات فاعلية أكثر... النقاش الوحيد الذي أراه هو حول المساعدات العسكرية، وأنا متشكك في أن يكون العسكر هم مَن سيقررون مستقبل أوروبا».
هذه الجملة تسلط الضوء على المخاوف التي تطارد المسؤولين الألمان عموماً، لا الاشتراكيين وحدهم. فتاريخ البلاد الذي دفع بالحكومات المتعاقبة إلى رفض التورط في أي نزاعات، ما زال يطارد المسؤولين الألمان اليوم. ومسألة ترك الخيارات السياسية للعسكر، خاصة، هي التي تؤرق الألمان، وتحديدا الاشتراكيين الذين ما زالوا يتناقشون في جدوى المساعدات العسكرية مقابل المخاوف من تصعيد الحرب.
وهنا يقول النائب شتاغنر، صراحةً، إنه غير واثق من أن هذه المقاربة هي الصحيحة. ويتابع موضحاً «إذا نظرنا إلى أمثلة على العمليات العسكرية الأميركية، نجد أن العملية الأخيرة الناجحة كانت عملية تحرير أوروبا. في المقابل، العمليات الأخرى بعد ذلك من فيتنام إلى العراق وأفغانستان، كلها لم تكن ناجحة... ولذا من الواجب تجنب التفكير في أن الحلول السياسية يمكن التوصل إليها بالسبل العسكرية».
كل هذا يدل على أنه رغم توصل ألمانيا إلى قناعة بضرورة عكس سياساتها مع روسيا، فإن الحزب الاشتراكي الحاكم ما زال في خضم نقاش داخلي صعب حول كيفية الانقلاب على عقود من سياسة أسس لها مع روسيا قبل 50 سنة، وبقي متمسكا بها حتى الأشهر القليلة الماضية. وبالتالي، أي خطوة مستقبلية في دعم أوكرانيا ستخضع على الأرجح للنقاش، والجدل الطويل نفسه الذي خضع له كل قرار اتخذته الحكومة الألمانية منذ بداية الحرب في أوكرانيا، مهما تسبب ذلك في استياء وتشكيك بها من حلفائها الغربيين.


مقالات ذات صلة

روسيا تتهم أوكرانيا بقصف مطار عسكري بصواريخ أميركية... وتتوعد بالرد

أوروبا أظهرت الأقمار الاصطناعية أضراراً بمطار عسكري روسي في شبه جزيرة القرم جراء استهداف أوكراني يوم 16 مايو 2024 (أرشيفية - رويترز)

روسيا تتهم أوكرانيا بقصف مطار عسكري بصواريخ أميركية... وتتوعد بالرد

اتهمت روسيا أوكرانيا باستخدام صواريخ بعيدة المدى أميركية الصنع لقصف مطار عسكري، اليوم (الأربعاء)، متوعدة كييف بأنها ستردّ على ذلك عبر «إجراءات مناسبة».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
الولايات المتحدة​ رجال إنقاذ يعملون في موقع تعرض فيه مبنى لأضرار جسيمة بسبب ضربة صاروخية روسية أمس وسط هجوم روسيا على أوكرانيا في زابوريجيا11 ديسمبر 2024 (رويترز) play-circle 02:00

أميركا تحذّر روسيا من استخدام صاروخ جديد «مدمر» ضد أوكرانيا

قال مسؤول أميركي إن تقييماً استخباراتياً أميركياً، خلص إلى أن روسيا قد تستخدم صاروخها الباليستي الجديد المتوسط ​​المدى مدمر ضد أوكرانيا مرة أخرى قريباً.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الرئيس الأوكراني زيلينسكي خلال لقائه ترمب في نيويورك الأسبوع الماضي (أ.ب)

ماسك ونجل ترمب يتفاعلان مع صورة تقارن زيلينسكي ببطل فيلم «وحدي في المنزل»

تفاعل الملياردير الأميركي إيلون ماسك ودونالد ترمب جونيور، نجل الرئيس المنتخب دونالد ترمب، مع صورة متداولة على منصة «إكس»

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا ألسنة لهب كثيفة تتصاعد من مبنى مدمر وسيارة محترقة في منطقة زابوريجيا الأوكرانية نتيجة قصف روسي (خدمة الطوارئ الأوكرانية- أ.ف.ب)

4 قتلى و19 جريحاً بضربة روسية على زابوريجيا الأوكرانية

قُتل 4 أشخاص على الأقل وأُصيب 19، الثلاثاء، في ضربة صاروخية روسية «دمَّرت» عيادة خاصة في مدينة زابوريجيا جنوب أوكرانيا، في حصيلة مرشحة للارتفاع.

أوروبا صورة مركبة تابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية تعرضت لأضرار بسبب غارة بطائرة مسيرة على طريق في منطقة زابوريجيا في أوكرانيا 10 ديسمبر 2024 (رويترز)

مسيّرة تستهدف مركبة لوكالة الطاقة الذرية قرب محطة زابوريجيا النووية في أوكرانيا

قال مدير الطاقة الذرية إن مركبة تابعة للوكالة تعرضت لأضرار جسيمة بسبب هجوم بمسيرة على الطريق المؤدي إلى محطة زابوريجيا للطاقة النووية في أوكرانيا، الثلاثاء.

«الشرق الأوسط» (كييف)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
TT

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد الخريجي، وترأس الجانب الصيني نظيره نائب الوزير دنغ لي. وبحث الجانبان تطوير العلاقات الثنائية، مع مناقشة المستجدات التي تهم الرياض وبكين. يذكر أن العلاقات السعودية الصينية شهدت تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، إذ تعززت الشراكة بين البلدين على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وتعود العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية إلى عام 1990، عندما افتتحت سفارتا البلدين رسمياً في العاصمتين بكين والرياض. مع أن علاقات التعاون والتبادل التجاري بين البلدين بدأت قبل عقود. وعام 1979، وقّع أول اتفاق تجاري بينهما، واضعاً الأساس لعلاقات قوية مستمرة حتى يومنا هذا.

 

تُعدّ الصين اليوم الشريك التجاري الأكبر للمملكة العربية السعودية، وانعكست العلاقات المتنامية بين البلدين بشكل كبير على التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما؛ إذ أسهمت في وصول حجم التبادل التجاري إلى أكثر من 100 مليار دولار أميركي في عام 2023. تستورد الصين النفط الخام من السعودية بشكل رئيسي، وتعدّ المملكة أكبر مورد للنفط إلى الصين، إذ تصدر ما يقرب من 1.7 مليون برميل يومياً. ولقد تجاوزت الاستثمارات الصينية في المملكة حاجز الـ55 مليار دولار. وبحسب تقرير لـ«edgemiddleeast»، ضخّت الصين 16.8 مليار دولار في المملكة في 2023 مقابل 1.5 مليار دولار ضختها خلال عام 2022، استناداً إلى بيانات بنك الإمارات دبي الوطني، وهي تغطي مشاريع في البنية التحتية والطاقة والصناعات البتروكيماوية. وفي المقابل، استثمرت المملكة في عدد من المشاريع داخل الصين، منها الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا والنقل. واستضافت الرياض أيضاً في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام «مؤتمر الأعمال العربي الصيني» الذي استقطب أكثر من 3600 مشارك. وبعد أسبوعين فقط، أرسلت السعودية وفداً كبيراً بقيادة وزير الاقتصاد السعودي إلى مؤتمر «دافوس الصيفي» في الصين. وبالإضافة إلى هذا الزخم الحاصل، دعت الصين المملكة العربية السعودية كضيف شرف إلى «معرض لانتشو الصيني للاستثمار والتجارة» الذي أقيم من 7 إلى 10 يوليو (تموز) من هذا العام. وكانت وزارة الاستثمار السعودية حثّت الشركات على المشاركة بفاعلية في المعرض، والجناح السعودي المعنون «استثمر في السعودية». كذلك وقّعت السعودية والصين اتفاقيات متعددة لتعزيز التعاون في قطاع الطاقة، بما في ذلك مشاريع الطاقة المتجددة. وتسعى المملكة لتحقيق «رؤية 2030» التي تهدف إلى تقليص الاعتماد على النفط وتعزيز استخدام الطاقة المتجددة، في حين تسعى الصين إلى تأمين إمدادات الطاقة اللازمة لتنميتها الاقتصادية. وبالفعل، جرى أخيراً توقيع اتفاقية بين شركة «تي سي إل تشونغ هوان» لتكنولوجيا الطاقة المتجددة الصينية، وشركة توطين للطاقة المتجددة، وشركة «رؤية للصناعة» السعوديتين، لتأسيس شركة باستثمار مشترك، من شأنها دفع توطين إنتاج الرقائق الكهروضوئية في المملكة العربية السعودية. ووفقاً للاتفاقية، يبلغ إجمالي حجم الاستثمار في المشروع المشترك نحو 2.08 مليار دولار. التعاون السياسي والدبلوماسي تتعاون المملكة والصين على مستوى عالٍ في القضايا الدولية والإقليمية. وتستند العلاقات السياسية بين البلدين إلى احترام السيادة الوطنية والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية. كذلك تتبادل الدولتان الدعم في المحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، ولقد لعبت الصين دوراً محوَرياً في الوساطة بين السعودية وإيران، ما أدى إلى تحقيق نوع من التوافق بين البلدين، أسهم في توطيد الاستقرار، وقلّل من حدة التوترات، وعزّز من الأمن الإقليمي. الزيارات الرسمية والقمم المعروف أنه في مارس (آذار) 2017، قام الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة رسمية للصين حيث التقى الرئيس الصيني شي جينبينغ. وخلال الزيارة، وُقّعت 14 اتفاقية ومذكرة تفاهم، تضمنت التعاون في مجالات الطاقة والاستثمارات والعلوم والتكنولوجيا. وفي وقت سابق، كان خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز قد زار الصين رسمياً عام 2006، كانت تلك الزيارة بمثابة نقطة تحوّل في تعزيز العلاقات الثنائية، وشملت مباحثات مع القيادة الصينية وشهدت توقيع اتفاقيات عدة في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار. كما زار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الصين في فبراير (شباط) 2019 كجزء من جولته الآسيوية. خلال هذه الزيارة، وقّعت 35 اتفاقية تعاون بين البلدين بقيمة تجاوزت 28 مليار دولار، وشملت مجالات النفط والطاقة المتجددة والبتروكيماويات والنقل. بعدها، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، قام الرئيس الصيني شي جينبينغ بزيارة تاريخية إلى الرياض، حيث شارك في «قمة الرياض»، التي جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي والصين. وتركّزت هذه القمة على تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية بين الجانبين، وخلالها وقّع العديد من الاتفاقيات في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا. من الزيارات البارزة الأخرى، زيارة وزير الخارجية الصيني إلى السعودية في مارس (آذار) 2021، حيث نوقش التعاون في مكافحة جائحة «كوفيد 19» وتعزيز العلاقات الاقتصادية،