هل يقتل الذكاء الصناعي إبداع الباحثين؟

«تشات جي بي تي» يشارك في كتابة الأبحاث العلمية

مخاوف من «الفبركة» العلمية بمساعدة برنامج «تشات جي بي تي»
مخاوف من «الفبركة» العلمية بمساعدة برنامج «تشات جي بي تي»
TT

هل يقتل الذكاء الصناعي إبداع الباحثين؟

مخاوف من «الفبركة» العلمية بمساعدة برنامج «تشات جي بي تي»
مخاوف من «الفبركة» العلمية بمساعدة برنامج «تشات جي بي تي»

من المعتاد أن يجد المهتمون بمتابعة الأبحاث العلمية قائمة بأسماء الباحثين المشاركين في الأبحاث، ووسائل تواصل خاصة بهم، لكن كانت المفاجأة التي أحدثت دوياً في الأوساط البحثية، أن إحدى الباحثات كتبت مقالة افتتاحية في إحدى الدوريات العلمية المتخصصة، وكان الباحث المشارك معها، هو برنامج الذكاء الصناعي «تشات جي بي تي».
نصوص ذكية
ويُنشئ «تشات جي بي تي» chatGPT نصاً واقعياً وذكياً استجابة لطلب المستخدم، وذلك عن طريق الشبكات العصبية التي تتعلم أداء مهمة عن طريق هضم كميات هائلة من النصوص الموجودة التي تم إنشاؤها بواسطة الإنسان، وأصدرت شركة البرمجيات «أوبن إيه آي»، ومقرها سان فرنسيسكو بأميركا، الأداة في 30 نوفمبر (تشرين الثاني)، وهي مجانية الاستخدام.
ومنذ صدور تلك الأداة، كان الباحثون يتصارعون حول القضايا الأخلاقية المحيطة باستخدامها؛ لأنه قد يكون من الصعب تمييز الكثير من مخرجاتها عن النص المكتوب من قِبل الإنسان، حتى جاءت الباحثة سيوبان أوكونور، من قسم التمريض والقبالة والخدمة الاجتماعية بكلية العلوم الصحية بجامعة مانشستر البريطانية، لتفاجئ الجميع بتحويل تلك الأداة إلى باحث مشارك في مقالتها البحثية المنشورة في عدد يناير (كانون الثاني) من دورية «نيرس إيدوكيشن إن براكتس»، تحت عنوان «فتح منصات ذكاء صناعي في تعليم التمريض: أدوات للتقدم الأكاديمي أم إساءة؟».
وبينما يرفض كثيرون تلك الخطوة من منطلق «مسؤولية المؤلف»؛ لأن تلك الأداة لا تستطيع تحمّل المسؤولية عن محتوى الأوراق العلمية وسلامتها، يرى آخرون أنها أصبحت واقعاً، ومن الأفضل تقنينها بدلاً من منعها.
وتميل الباحثة سيوبان أوكونور، صاحبة أول مقال بحثي مشترك مع تلك الأداة، إلى خيار التقنين، معتبرة في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن «الخطوة التي أقدمت عليها، أفضل بكثير من أن يحمل المقال اسمها بمفردها، بينما يكون لتلك الأداة دور كبير في كتابته».
وتقول: «على حد علمي كانت مقالتي هي أول مقالة منشورة في مجلة علمية لاستخدام (تشات جي بي تي) كمؤلف مشارك، ولكن هناك البعض الآخر على مواقع ما قبل طباعة الأبحاث تخضع لمراجعة الأقران في المجلات».
كان تعليق أوكونور لـ«الشرق الأوسط»، قبل صدور تصريحات مؤخراً لروجر واتسون، رئيس تحرير المجلة التي نشرت هذا المقال، والذي اعتذر فيه عن كتابة اسم «تشات جي بي تي» ضمن المؤلفين المشاركين بالدراسة. وقال في تصريحات لموقع «نيتشر»، إن كتابة اسم البرنامج ضمن قائمة المؤلفين مرّ عن طريق الخطأ وسيتم تصحيحه قريباً، وكان ذلك سهواً من جانبه؛ لأن المقالات الافتتاحية تمر بنظام إدارة مختلف عن الأوراق البحثية، ولكن لم يحدث حتى الآن ما وصفه واتسون بـ«الخطأ».
ربما يعكس هذا التصحيح الذي يعتزم رئيس التحرير تنفيذه، اتجاهاً يفضله البعض، وهو الاعتراف بمساهمة الذكاء الصناعي في كتابة الأوراق، على أن تتم كتابة ذلك في قائمة المراجع، وليس في قائمة المؤلفين، لكن ذلك -كما يرى طارق قابيل، الأستاذ في كلية العلوم بجامعة القاهرة- نوع من «التقنين الشرعي للفبركة».
يقول لـ«الشرق الأوسط»: «أثناء كتابة البحث العلمي غير مسموح لك باقتباسات كاملة من المراجع، وهناك نسبة مسموح بها للاقتباس، وتوجد برامج تكتشف ذلك، لكننا أمام أداة لا تقتبس، بل تكتب كما يكتب البشر».
برنامج «أصيل»
وتؤكد تجربة قام بها عدد من الباحثين من جامعة نورثوستيرن الأميركية، ما ذهب إليه قابيل، حيث طلبوا من البرنامج كتابة 50 ملخصاً بحثياً في مجال الطب، وكانت جميعها خالية من الاقتباس ومُقنعة جداً لدرجة أن 32 في المائة منها تم تصنيفها من قِبل المُراجعين على أنها أبحاث أصلية.
وفي تجربة أخرى، أجراها جوناثان تشوي، الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة مينيسوتا الأميركية، خاض البرنامج الاختبار نفسه الذي أعدّه لطلابه، والذي يتكون من 95 سؤالاً متعدد الخيارات و12 سؤالاً مقالياً، وكانت الإجابات نموذجية.
والبرنامج بهذه الكيفية، يصفه قابيل، بأنه مثير للقلق؛ لأنه قد يكون أداة لإصدار أبحاث لا أساس لها من الصحة، والخطوة الأكبر عندما تكون هذه الأبحاث عن أدوية أو أمراض تصيب البشر.
وفي رأي قابيل، لا يوجد حل يبدو في الأفق لتجنب «الفبركة» بواسطة هذه الأداة؛ ذلك لأن الأدوات القائمة على الذكاء الصناعي تتطور يوماً بعد الآخر وتتعلم من أخطائها، والحل الوحيد هو أن يتم إنتاج برنامج أذكى منها، قادر على اكتشاف الأبحاث التي اعتمدت بشكل «غير علمي» على البرنامج.
وإلى أن يحدث ما يتمناه قابيل، يخشى رمزي عبد العزيز، الباحث في علوم وتكنولوجيا النانو بجامعة «آلتو» الفنلندية، من إسراف الباحثين في استخدام هذا البرنامج، قائلاً في تعليق كتبه على صفحته بموقع «فيسبوك»: «نصيحتي لكل الباحثين أن يكون استخدامكم للبرنامج قاصراً فقط على جمع المعلومات في وقت قياسي، لكن من الخطورة الاعتماد على لغته؛ لأنكم بذلك ستقتلون ملكات الإبداع والتعبير والتأليف تدريجياً».
واقترح عبد العزيز وسيلة لكشف فبركة الأبحاث باستخدامه، قائلاً: «البرنامج من المؤكد أنه يفتقد إلى التمييز والتنوع، بمعنى أنه لو افترضنا أن 50 شخصاً سألوا السؤال نفسه، فسوف يحصلون على الإجابة نفسها، وبالتالي يمكن أن تكون تلك الطريقة مناسبة لكشف الأبحاث التي اعتمدت عليه في الكتابة».
ولكن محمد جمعة -وهو أستاذ مساعد في علم العقاقير بجامعة لينكولن ميموريال الأميركية- علّق على اقتراح عبد العزيز، موضحاً أن ما ذهب إليه يجتنبه الصواب؛ لأن البرنامج لا يعطي الإجابة نفسها في كل مرة.
وإزاء هذا التوضيح، لا يوجد حل سوى انتظار أداة أذكى من «شات جي بي تي»، أو الاعتراف به كمؤلف مشارك في الدراسة، فقد «يكون ذلك أفضل بكثير من أن يحمل المقال اسم الباحث بمفرده، بينما يكون لتلك الأداة دور كبير في كتابته»، كما قالت سيوبان أوكونور في تصريحاتها لـ«الشرق الأوسط».


مقالات ذات صلة

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

علوم النموذج تم تطويره باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

أنتجت مجموعة من العلماء هيكلاً يشبه إلى حد كبير الجنين البشري، وذلك في المختبر، دون استخدام حيوانات منوية أو بويضات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الهياكل الشبيهة بالأجنة البشرية تم إنشاؤها في المختبر باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء يطورون «نماذج أجنة بشرية» في المختبر

قال فريق من الباحثين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم ابتكروا أول هياكل صناعية في العالم شبيهة بالأجنة البشرية باستخدام الخلايا الجذعية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل الحمض النووي البشري من الهواء في غرفة مزدحمة ومن آثار الأقدام على رمال الشواطئ ومياه المحيطات والأنهار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم صورة لنموذج يمثل إنسان «نياندرتال» معروضاً في «المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ» بفرنسا (أ.ف.ب)

دراسة: شكل أنف البشر حالياً تأثر بجينات إنسان «نياندرتال»

أظهرت دراسة جديدة أن شكل أنف الإنسان الحديث قد يكون تأثر جزئياً بالجينات الموروثة من إنسان «نياندرتال».

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

توصلت دراسة جديدة إلى نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات على كوكب الأرض مشيرة إلى أن نظرية «تبلور العقيق المعدني» الشهيرة تعتبر تفسيراً بعيد الاحتمال للغاية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

كيف يُسرّع الذكاء الاصطناعي مسار الاكتشافات العلمية؟

باحثون بجامعة نورث كارولينا يعتمدون على روبوت لتنفيذ مهام بالمختبر (جامعة نورث كارولينا)
باحثون بجامعة نورث كارولينا يعتمدون على روبوت لتنفيذ مهام بالمختبر (جامعة نورث كارولينا)
TT

كيف يُسرّع الذكاء الاصطناعي مسار الاكتشافات العلمية؟

باحثون بجامعة نورث كارولينا يعتمدون على روبوت لتنفيذ مهام بالمختبر (جامعة نورث كارولينا)
باحثون بجامعة نورث كارولينا يعتمدون على روبوت لتنفيذ مهام بالمختبر (جامعة نورث كارولينا)

في عصر تزداد فيه الحاجة إلى حلول مبتكرة لمواجهة التحديات العالمية في مجالات الصحة والطاقة، لا يزال كثير من المختبرات الحديثة تعتمد بشكل كبير على العمل اليدوي، ما يحد من سرعة ودقة التجارب العلمية.

لكن تحولاً جذرياً قد تشهده مختبرات العلوم في مجالات الكيمياء، والكيمياء الحيوية، وعلوم المواد؛ بفضل التقدم في التشغيل الآلي للروبوتات والذكاء الاصطناعي لأتمتة المهام المتكررة في المختبرات.

وتُمكّن الأتمتة، الروبوتات من إجراء التجارب بدقة وتناسق عالٍ دون تعب؛ ما يسرع من وتيرة البحث بشكل كبير ويقلل من المخاطر المرتبطة بالتعامل مع المواد الخطرة.

يمكن الاعتماد على الروبوتات في تنفيذ المهام المتكررة بالمختبرات (جامعة نورث كارولينا)

ويحرر هذا التحول العلماء من الأعمال الروتينية؛ ما يسمح لهم بالتركيز على أسئلة بحثية أكثر تعقيداً، ويعزّز من سرعة وفاعلية الاكتشافات العلمية في مجالات مثل الطب والطاقة والاستدامة.

5 مراحل

يعمل باحثون في قسمي علوم الكومبيوتر والكيمياء بجامعة نورث كارولاينا الأميركية على دراسة كيفية دمج الروبوتات وتقنيات الذكاء الاصطناعي لأتمتة المهام الروتينية في المختبرات، باستخدام روبوت متحرك لأتمتة مهام مختبر الكيمياء.

ويشير الباحثون، في الدراسة المنشورة بدورية «ساينس» في 23 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أن هذه الخطوة لا تعزز الكفاءة فحسب، بل تمثل أيضاً تحولاً جذرياً في طريقة إجراء الأبحاث العلمية، ما يتيح تحقيق نتائج مذهلة بشكل أكثر أماناً وموثوقية.

أوضح الباحثون أن أتمتة المختبرات تمر بـ5 مراحل تبدأ بالمساعدة في المهام البسيطة وتنتهي بالتشغيل الآلي الكامل. في المرحلة الأولى، يتم تنفيذ مهام فردية كالتعامل مع السوائل لتخفيف العبء الروتيني، ثم في المرحلة الثانية، ينفّذ الروبوت خطوات متتالية مع بقاء العاملين من البشر للإعداد والإشراف.

أتمتة المختبرات قد تحدث تحولاً جذرياً في طريقة إجراء الأبحاث العلمية (جامعة نورث كارولينا)

وفي المرحلة الثالثة، يدير الروبوت التجارب بالكامل مع تدخل بشري عند الظروف الطارئة، بينما في الرابعة يصبح الروبوت قادراً على التعامل مع هذه الظروف بمرونة أكبر.

أما في المرحلة الخامسة، فتعمل الروبوتات وأنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل مستقل تماماً؛ ما يمكّن المختبرات من العمل المستمر دون تدخل بشري، ويعزز سرعة الاكتشافات العلمية والابتكار.

فوائد وتحديات

يقول الدكتور رون ألتيروفيتز، الباحث في الروبوتات الطبية بجامعة نورث كارولاينا، إن تطوير جزيئات ومواد كيميائية جديدة يتطلب جهوداً بشرية مكثفة، تشمل تصميم التجارب وتوليف المواد وتحليل النتائج، فيما يمكن لأتمتة المهام الروتينية أن تسرّع هذه العمليات وتزيد دقتها، عبر تنفيذ الخطوات بتناسق أعلى وتقليل الأخطاء، ما يعزز إمكانية إعادة إنتاج النتائج.

وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن الروبوتات يمكن أن تساهم في نقل العينات وإجراء القياسات وتقليل المخاطر المرتبطة بالمواد الخطرة؛ ما يعزز سلامة الباحثين. كما يمكنها تحليل كميات ضخمة من بيانات التجارب، واكتشاف الأنماط والرؤى غير الملحوظة للبشر، خصوصاً في التجارب التي تتطلب مراقبة مستمرة أو إنتاج كميات كبيرة من البيانات، مثل الفحص عالي الإنتاجية المستخدم في اكتشاف الأدوية.

ووفق شركة «يونايتد روبوتيكس غروب» المتخصصة في تطوير الروبوتات وحلول الأتمتة، فإن الروبوتات توفر فائدة مالية رئيسية تتمثل في زيادة الكفاءة والإنتاجية؛ إذ يمكن لأتمتة أنظمة المختبرات الأساسية تقليل خطوات المعالجة اليدوية بنسبة تصل إلى 86 في المائة، ما يعزز الكفاءة ويخفض تكاليف العمالة.

يمكن للروبوتات تحليل كميات ضخمة من بيانات التجارب واكتشاف الأنماط والرؤى غير الملحوظة للبشر

في السياق نفسه، كشفت مؤسسة «مايو كلينيك» الطبية الأميركية أن الأتمتة أدت إلى زيادة حجم العمل اليومي لـ10 أضعاف في بعض المختبرات، ما يرفع الإنتاجية ويتيح التعامل مع الطلب المتزايد في الأبحاث الطبية والعلمية.

وفي مجال الكيمياء المناعية، وهي تقنية مخبرية تستخدم لتحديد توزيع البروتينات والجزيئات داخل الأنسجة، ساعدت الأتمتة في معالجة المزيد من شرائح الأنسجة بزمن أقل، مما خفض زمن المعالجة بنسبة 15.22 في المائة والتكلفة لكل شريحة بنسبة 37.27 في المائة، وفق «يونايتد روبوتيكس غروب».

ولا تقتصر الفوائد على تقليل الزمن والتكلفة، بل تشمل تحسين الدقة وتقليل الأخطاء، وهو أمر حيوي في مجالات حساسة كعلم الجينوم واكتشاف الأدوية، وفق الباحثين.

وأظهرت تجربة، بمستشفى «إلبلاند كلينيكوم مايسن» في ألمانيا عام 2023، كيف تسهم الروبوتات في تحسين كفاءة المختبرات وتقليل عبء العمل، خصوصاً مع نقص الكوادر.

وفيما يتعلق بالتحديات، أشار ألتيروفيتز إلى أن الأتمتة تُنفذ حالياً في مهام محدودة بالمختبرات، ولتحقيق التنفيذ الكامل، يتطلب الأمر تطوير مهارات في الروبوتات وعلوم البيانات والذكاء الاصطناعي، إضافة إلى ضخ استثمارات في البنية التحتية وبرامج التدريب، ما قد يشكل عبئاً مالياً كبيراً. كما يتطلب تعاوناً بين الباحثين والمهندسين وعلماء الكومبيوتر لتحقيق الفائدة الكاملة من هذه التقنية.