للمرة الأولى منذ 12 عاماً، تتحد النقابات الرئيسية واليسار بفرنسا في الدعوة إلى إطلاق يوم الخميس المقبل، تعبئة عامة لإجهاض خطة الحكومة لتعديل قانون التقاعد وإنزال ما لا يقل عن مليون متظاهر إلى الساحات والشوارع ومباشرة إضرابات في قطاعات اقتصادية أساسية. وبالمقابل، تسعى الحكومة، بطلب من الرئيس إيمانويل ماكرون إلى تكثيف التواصل مع النقابات والاقتصاديين لشرح المشروع وتوضيح منافعه وإبراز التعديلات التي قبلت بإدخالها لجعله أكثر ليونة. ويمثل رفع سن التقاعد من 62 عاماً في الوقت الحاضر إلى 64 عاماً بحلول عام 2030 المحور الرئيسي للمشروع الحكومي، وحجته المركزية أن الإجراء المذكور هو العلاج الوحيد للإبقاء على الركائز الأساسية لنظام التقاعد، علماً بأن سن التقاعد في فرنسا هو الأدنى بأوروبا. ففي ألمانيا مثلاً، يتعين على المواطنين العمل حتى سن 67 عاماً و9 أشهر، بينما هو 67 عاماً في البرتغال واليونان.
وبالنظر للصعوبات الكبيرة التي واجهها مشروعان مماثلان في عام 1995، زمن الرئيس جاك شيراك، وفي عام 2010 زمن الرئيس نيكولا ساركوزي، فإن كثيراً من المراقبين يرون أن ماكرون يخوض رهاناً غير مضمون النتائج بالنظر للتململ الذي يعتور المجتمع الفرنسي في الوقت الحاضر بسبب الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية المتمثلة بارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية والخدمات على أنواعها، مقروناً بتضخم غير مسبوق لم تعرفه فرنسا منذ 40 عاماً. من هنا، فإن السلطات تنظر بكثير من القلق لما سيحصل يوم الخميس، ولدرجة التعبئة النقابية والشعبية وللدعوة الى إضرابات قابلة للتمدد. وحتى اليوم، فإن القطاعات التي سوف تتضرر أكثر من غيرها، تتناول قطاع النقل على أنواعه والقطاعين المدرسي والصحي والطاقة والوظيفة العمومية. وفيما دعا فابيان روسيل، أمين عام الحزب الشيوعي إلى إنزال مليون متظاهر إلى الشوارع، أكد فيليب مارتينيز، أمين عام الكونفدرالية العامة للشغل، القريبة من الحزب الشيوعي، أن نقابته «تفعل ما في وسعها» لرؤية هذا العدد الكبير في الشوارع الخميس المقبل. وطالب مارتينيز النقابات بالإضراب في القطاعين العام والخاص.
وكما فابيان روسيل، فإن كل قادة الأحزاب اليسارية والخضر دعوا إلى التظاهر والإضراب متغلبين بذلك على خلافاتهم الداخلية. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأحزاب خاضت معاً الانتخابات التشريعية في يونيو (حزيران) الماضي، وحصلت على 150 مقعداً في البرلمان الذي لا يتمتع فيه الرئيس ماكرون والحكومة بالأكثرية المطلقة. بيد أن اليمين التقليدي ممثلاً بحزب «الجمهوريون» أعلن تأييده لخطة إصلاح قانون التقاعد، معتبراً أن الحكومة «تجاوبت» مع مطالبه، وبالتالي فإنه سيصوت لصالح مشروع القانون عندما سيطرح في البرلمان. وإذا فعل، فإنه سيوفر للحكومة الأصوات اللازمة لتمرير المشروع. من هنا، فإن الحكومة تراهن على البرلمان، فيما المعارضة والنقابات تراهن على الشارع. واللافت أن اليمين المتطرف، ممثلاً برئيسة مجموعته البرلمانية مارين لوبن، لم يدعُ إلى التظاهر رغم رفضه لمشروع القانون. إلا أن لوبن التي وصفت الخطة الحكومية بأنها «غير عادلة»، أكدت أنها ستحاربه «تحت قبة البرلمان».
يبين آخر استطلاع للرأي نشرت نتائجه صحيفة «جورنال دو ديمانش» الأسبوعية، أن 68 في المائة من الفرنسيين يرفضون الخطة الحكومية، وأن 51 منهم يؤيدون الحراك في الشارع والإضرابات من أجل لي ذراع الحكومة. وكانت الحكومة تراهن على شق الصف النقابي وأيضاً صفوف اليسار والخضر من خلال استمالة لوران بيرجيه، أمين عام الكونفدرالية الديمقراطية للعمل القريبة من الحزب الاشتراكي والمعروفة باعتدالها. بيد أن بيرجيه كان بالغ التشدد في رفضه للخطة الحكومية، وبذلك تماهى مع النقابات التي تنهج عادة خطاً متشدداً في التعاطي مع السلطات.
إزاء التطورات الأخيرة، وثبات المواقف، لم يعد أمام الحكومة سوى الانتظار وتسويق خطتها بالإشارة خصوصاً إلى أنها مفيدة للرواتب التقاعدية الدنيا، حيث تنص الخطة على أن كل المتقاعدين سابقاً ولاحقاً سيحصلون على 1200 يورو شهرياً إذا أنجزوا سنوات الخدمة المطلوبة. لكن هذه اللفتة لا تبدو مقنعة كفاية. وقال أوليفه دوسو، وزير العمل، إنه يتوقع نزول أعداد غفيرة إلى الشارع يوم الخميس المقبل، مضيفاً أن النقابات لها الحق المشروع في الدعوة إلى التظاهر والإضراب، وهو حق يكفله الدستور. إلا أنه أضاف أنه «يأمل» ألا يفضي ذلك إلى «حصار (البلد)، لأن كثيراً من الناس يودون الاستمرار في مزاولة أعمالهم». وفي السياق عينه، حثت رئيسة الحكومة، إليزابيث بورن، النقابات والأحزاب والمتظاهرين والمضربين على التحلي بـ«روح المسؤولية»، مؤكدة أنه «من الضروري عدم الإساءة إلى الفرنسيين»، فيما يقومون به. ونبه رئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه إلى «شل الحركة» في فرنسا، معتبراً أن عملاً كهذا سيكون تصرفاً «غير مسؤول». وينتمي لارشيه إلى حزب «الجمهوريون» اليمين التقليدي. وليس سراً أن السلطات عادة ما تلعب هذه الورقة للضغط على النقابات ولتأليب السكان ضد المتظاهرين، خصوصاً المضربين.
بيد أن دعوة بورن ودوسو لا يبدو أنها ستلقى آذاناً صاغية، إذ إن نقابة الكونفدرالية العامة للشغل أعلنت أن فرعها العامل في قطاع النفط سيلتزم بالإضراب يومي 19 و26 يناير (كانون الثاني)، إضافة إلى 6 فبراير (شباط)، ولم تستبعد إيقاف العمل في مصافي تكرير النفط. ومنذ اليوم، أخذ المواطنون في التأهب بالمسارعة إلى محطات مشتقات النفط. وكانت فرنسا عاشت أياماً صعبة في شهري نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول)، بسبب إضراب عمال المصافي. كذلك، فإن الأنظار سوف تتجه نحو قطاع النقل العام (المترو والقطارات والحافلات)، التي يشل الإضراب الحركة فيها، ويتسبب بموجات اختناق للسيارات وبتدافع في المحطات للأشخاص الراغبين في الوصول إلى مراكز أعمالهم.
النقابات الفرنسية تراهن على «المظاهرة المليونية»
لإلزام الحكومة بالتراجع عن خطتها لقانون التقاعد
النقابات الفرنسية تراهن على «المظاهرة المليونية»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة