أقلمة المرويات التراثية العربية

«علم السرد ما بعد الكلاسيكي» لنادية هناوي

أقلمة المرويات التراثية العربية
TT

أقلمة المرويات التراثية العربية

أقلمة المرويات التراثية العربية

للسرد العربي القديم خصائص موضوعية وفنية يعدها الباحثون تأسيسية أنتجت تقاليد قارة ومتحولة. ورغم ذلك، فإن أغلب الدارسين الغربيين المعنيين بالسرديات ما بعد الكلاسيكية والمهتمين بالتنظير لها يهملون التمثيل بهذا السرد. هذا ما تراه الباحثة نادية هناوي، من خلال دراساتها لعلم ما زال جديداً على نقدنا العربي، هو «علم السرد ما بعد الكلاسيكي»، قائلة إنهم «إذا أرادوا أن يمثّلوا على السرد ما بعد الكلاسيكي فلا يمثلون سوى بسرديات العصور الوسطى، مثل (الديكاميرون) لبوكاشيو، و(دون كيشوت) لسرفانتس التي أخذت تقاليدها أصلاً من سردنا القديم. وكثيراً ما يمثلون بروايات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقد يمثلون بمرويات من الأدبين الإغريقي والروماني».
ولقد أنجزت هناوي من مشروعها هذا كتابين مستقلين؛ الأول تخصص في دراسة علم السرد غير الطبيعي، والثاني تخصص في نظرية السرد غير الواقعي. ثم جاء الجزء الثالث من كتابها الموسوم «علم السرد ما بعد الكلاسيكي»، الصادر مؤخراً عن «مؤسسة أبجد للترجمة والنشر». وفيه وضعت المؤلفة تصوراتها النظرية لمفاهيم «الأقلمة السردية»، وتطبيقاتها التي خصصتها للمرويات التراثية العربية، مستعيدة دراسة السرد القديم وفق مستجدات علم السرد ما بعد الكلاسيكي، وبأطر ومفاهيم علم السرد الطبيعي، كالمحاكاة واللامحاكاة، والخيالية والتلقي والتمثيل وغيرها.
ومما سعت إليه المؤلفة في هذا الصدد هو التفسير النظري لدور العقل في ابتداع السرد، والتمثيل على هذا الدور العقلي بمرويات عربية أدبية وتاريخية وجغرافية وشعبية، مع رصد ما في هذه المرويات من تقاليد سردية.
وبدأت هناوي دراستها هذه للمرويات التراثية من القص الخرافي الذي ناله (كما تقول المؤلفة) إهمال من لدن الباحثين الذين رأوه بدائياً، بينما هو يحوي طاقات تخييلية امتلكها إنسان العصور الغابرة، ومنها نشأ الفهم الميتافيزيقي للحياة. وهي ترى أن الحكاية الخرافية استحوذت على جانب كبير من السرد العربي القديم، وشكلت لوحدها عالماً له خصائصه وانعكاساته، واستطاعت أن تسمو بالسرد؛ سواء في نطاقه الشعبي الضيق أو في نطاقه الرسمي العام. وتقول الباحثة إنه بتقدم العصور تشذبت الطاقة الحكائية، وصارت للحكاء حدود في التخييل، ثم زادت عملية تدوين السرد في تلك الحدود، حتى غدت قواعد هي بمثابة تقاليد قولية، وصار للتخييل بمرور الزمان تقاليد؛ فتحول من صورته الحكائية إلى صورة نثرية قصصية فيها الكتابة السردية ذات أعراف وقوانين. وصار الحكاء سارداً يروي ما يفترضه فكره التخييلي؛ من احتمالات يوازن فيها بين محاكاة المرئي الواقعي وغير المرئي التخييلي، من خلال لغة الإبداع الأدبي التي صارت لها هي الأخرى محددات تقليدية، بها يتميز النص السردي عن الشعري، ويفترق الأدبي عن الديني.
ومما درسته المؤلفة في هذا الجزء نماذج سردية كثيرة، بدءاً من الحكاية الخرافية السومرية، مروراً بملحمة جلجامش والمقامات وأخبار الجاحظ وحكاياته والمنامات والكرامات والرحلة والرسالة ونصوص تاريخية. واهتمت بتقعيد مفاهيم الأقلمة السردية عبر دراسة مرويات تراثية، منها كتاب «التيجان في ملوك حمير»، مبينة أن عملية جمع الشعر وتدوينه في القرن الأول هي التي رسخت تقاليده، بينما ترسخت لا واقعية السرد بالشفاهية بوصفها وسيلة أساسية لتلقي المرويات القصصية، ولزمن ليس بالقليل. وترى المؤلفة أن المفارقة كبيرة في ألا تكون لهذه المرويات - التي هي حافلة باللاواقعية - أهميتها عند منظّري علم السرد غير الطبيعي، فقصروا بحوثهم على كلاسيكيات السرد الغربي من العصور الوسطى وعصر النهضة حتى العصر الحديث، كما أن دارسي الأدب العربي استبعدوها أيضاً؛ فلم يهتموا باستعاراتها ومجازاتها، وأهملوا ما تحمله حكايات وقصص من تشارك تخييلي بين الحكاء والسارد، بل راحوا يعللون ويشرحون من أجل إثبات صدق الحكاء من عدمه، بوصفه يحاكي حياة الأشخاص والأزمنة والأمكنة محاكاة واقعية. وعن ذلك تقول المؤلفة إن «اللاواقعية هي التأسيس الجمالي الذي عليه قامت تقاليد السرد العربي وثبتت ثبوتاً فيه كثير من الثراء والتنوع والتغاير». وهكذا، كما تضيف، غدا الحكاء معلماً وحكيماً، و«أداته في ذلك كله الكلام». ومن وجهة نظرها، أهمل النقد الحداثي أو قلل من إبداعية توظيف اللاواقعية في السرد؛ فعدَّها طفولية، وأن العنصر غير الواقعي فيها بدائي انتهى زمانه وعفت عليه موضوعات السرد الواقعية. وترى المؤلفة أن د. نبيلة إبراهيم هي أكثر النقاد العرب تنبّهاً إلى قيمة ما في سردنا القديم من موضوعات غير معقولة جمع فيها الحكاء القديم بين البعدين الشعبي والرسمي، وتلاقت عنده الناحيتان الشكلية والمضمونية. ومن ثم توصلت إلى أن «الخرافية في السرد القديم نمط شعبي يتصل اتصالاً مباشراً بحياة الشعب وعقيدته في التعرف على الموضوعات غير المألوفة في السرد القديم غير الواقعي».
وغاية المؤلفة من استعادة التراث السردي القديم هي علمنته وتأطيره نظرياً؛ أولاً بدراسة التحولات التي مرّ بها السرد القديم وما بقي من موضوعاته وما زال منها. وثانياً بالوقوف على جذور هذا السرد الذي صنعت له تقاليده السردية الخاصة التي انتقلت إلى آداب الأمم الأخرى في العصور الوسطى وأثَّرت فيها، ومنها الأدب الأوروبي الذي اتخذ في عصر النهضة من هذه التقاليد قاعدة بنى عليها فن الرواية، وعدها جنساً سردياً جديداً.
جاء الكتاب في أربعمائة وأربع وعشرين صفحة متضمناً ثلاثة فصول، ومقدمة بعنوان «أصول السرد الفكرية».


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

فرقة «الحضرة» المصرية تدخل عامها العاشر بطموحات كبيرة

«الحضرة» تنشد على المسرح (الشرق الأوسط)
«الحضرة» تنشد على المسرح (الشرق الأوسط)
TT

فرقة «الحضرة» المصرية تدخل عامها العاشر بطموحات كبيرة

«الحضرة» تنشد على المسرح (الشرق الأوسط)
«الحضرة» تنشد على المسرح (الشرق الأوسط)

تحتفل فرقة «الحضرة» المصرية للإنشاد الديني بعيد ميلادها التاسع خلال فعاليات الموسم الصيفي للموسيقى والغناء في دار الأوبرا؛ بإحيائها حفلاً على «المسرح المكشوف» يمتدّ لساعتين، السبت 10 أغسطس (آب) المقبل.

يتضمّن البرنامج مجموعة قصائد تقدّمها للمرّة الأولى، منها «جدّدت عشقي» لعلي وفا، و«أحباب قلبي سلام» للشيخ سيدي الهادي من تونس، وقصيدة في مدح النبي، «يفديك قلبي»، لشاعرة فلسطينية، وفق نور ناجح، مؤسِّس الفرقة الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: «سيكون الحفل مختلفاً واستثنائياً على جميع المستويات، فهو محطّة لاستقبال عامنا العاشر».

الفرقة تجمع منشدين ذوي ثقافة صوفية (الشرق الأوسط)

وستقدّم الفرقة مجموعة من أشهر أعمالها السابقة، هي 11 قصيدة مجمَّعة بطريقة «الميدلي»، منها «مدد يا سيدة»، و«أول كلامي بأمدح»، و«جمال الوجود»، و«هاتوا دفوف الفرح»، و«خذني إليك». ذلك إضافة إلى مجموعة من الأناشيد والابتهالات التي يُطالب بها الجمهور، مثل «إني جعلتك في الفؤاد محدّثي»، و«المسك فاح». ومن مفاجآت الحفل، وفق ناجح، استضافة مشايخ لمشاركتهم الإنشاد، منهم المنشد وائل فشني، وعلي الهلباوي، وراقص التنورة المصري - الإسباني المقيم في أوروبا، محمد السيد، الذي سيقدّم فقرة للأداء التعبيري، مصاحبةً لبعض القصائد.

إحياء التراث الصوفي المصري بشكل مختلف (الشرق الأوسط)

ويعدُّ ناجح «الحضرة» أول فرقة مصرية للإنشاد الصوفي الجماعي، التي كانت سبباً لانطلاق فرق أخرى مماثلة لاحقاً: «قدّمت مصر عمالقة في مجال الإنشاد والابتهالات، مثل نصر الدين طوبار، وسيد النقشبندي، ومحمد الهلباوي ومحمد عمران»، مشدّداً على أنّ «الإنشاد خلال الحقبات الماضية كان فردياً، فلم تعرف مصر الفرق في هذا المجال، على عكس دول أخرى مثل سوريا، لكنّ (الحضرة) جاءت لتغيّر ثقافة الإنشاد في البلاد؛ فهي أول مَن قدَّم الذِكر الجماعي، وأول مَن أدّى (الحضرة) بكل تفاصيلها على المسرح».

واتّخذ ناجح عبارة «الحضرة من المساجد إلى المسارح» شعاراً لفرقته، والمقصود نقل الحضرة الصوفية من داخل الجامع أو من داخل ساحات الطرق الصوفية والمتخصّصين والسهرات الدينية والموالد في القرى والصعيد، إلى حفلات الأوبرا والمراكز الثقافية والسفارات والمهرجانات المحلّية والدولية.

جمعت قماشة الصوفية المصرية في حفلاتها (الشرق الأوسط)

تحاكي «الحضرة» مختلف فئات الجمهور بمَن فيهم الشباب، والذين لا يعرف كثيرون منهم شيئاً عن أبناء الطرق أو عن الصوفية عموماً، وفق مؤسِّس الفرقة الذي يقول: «نجحنا في جذب الشباب لأسباب منها زيادة الاهتمام بالتصوُّف في مصر منذ بداية 2012، حدَّ أنه شكَّل اتجاهاً في جميع المجالات، لا الموسيقى وحدها».

ويرى أنّ «الجمهور بدأ يشعر وسط ضغوط الحياة العصرية ومشكلاتها بافتقاد الجانب الروحي؛ ومن ثَم كان يبحث عمَن يُشبع لديه هذا الإحساس، ويُحقّق له السلام والصفاء النفسي».

وأثارت الفرقة نقاشاً حول مشروعية الذِكر الجهري على المسرح، بعيداً عن الساحات المتخصِّصة والمساجد؛ ونظَّمت ندوة حول هذا الأمر شكّلت نقطة تحوُّل في مسار الفرقة عام 2016، تحدَّث فيها أحد شيوخ دار الإفتاء عن مشروعية ذلك. وفي النتيجة، لاقت الفرقة صدى واسعاً، حدَّ أنّ الشباب أصبحوا يملأون الحفلات ويطلبون منها بعض قصائد الفصحى التي تتجاوز مدّتها 10 دقائق من دون ملل، وفق ناجح.

فرقة «الحضرة» تدخل عامها العاشر (الشرق الأوسط)

وعلى مدى 9 سنوات، قدَّمت الفرقة أكثر من 800 حفل، وتعاونت مع أشهر المنشدين في مصر والدول العربية، منهم محمود التهامي، ووائل الفشني، وعلي الهلباوي، والشيخ إيهاب يونس، ومصطفى عاطف، وفرقة «أبو شعر»، والمنشد السوري منصور زعيتر، وعدد من المنشدين من دول أخرى.

تمزج «الحضرة» في حفلاتها بين الموسيقى والإنشاد، وهو ما تتفرّد به الفرقة على المستوى الإقليمي، وفق ناجح.

وتدخل الفرقة عامها العاشر بطموحات كبيرة، ويرى مؤسِّسها أنّ أهم ما حقّقته خلال السنوات الماضية هو تقديمها لـ«قماشة الصوفية المصرية كاملة عبر أعمالها»، مضيفاً: «جمعنا الصوفية في النوبة والصعيد والريف».

كما شاركت في مهرجانات الصوفية الدولية، وأطلقت مشروعات فنية، منها التعاون مع فرقة «شارموفرز»، التي تستهدف المراهقين عبر موسيقى «الأندرغراوند»، ومشروع المزج بين الموسيقى الكلاسيكية والصوفية مع عازفي الكمان والتشيلو والفيولا. وقدَّمت «ديو» مع فرق مختلفة على غرار «وسط البلد» بهدف جذب فئات جديدة لها.

يأمل نور ناجح، مع استقبال العام العاشر، في إصدار ألبومات جديدة للفرقة، وإنشاء مركز ثقافي للإنشاد الديني، وإطلاق علامة تجارية للأزياء الصوفية باسم «الحضرة».