أن تقرأ إسماعيل كاداريه في زمن السوق

آخر الكلاسيكيين الكبار لم يزل قادراً على إثارة الدهشة

إسماعيل كاداريه
إسماعيل كاداريه
TT

أن تقرأ إسماعيل كاداريه في زمن السوق

إسماعيل كاداريه
إسماعيل كاداريه

أقرأ خلال العام روايات أحبها بهذه الدرجة أو تلك، لكنني أختتم السنة باستعادة أحد الكلاسيكيين العظام، كنوع من مكافأة الختام لنفسي؛ لأنني أكملت عاماً من الركض بين نصوص متفاوتة القيمة. وقد كانت العودة هذه المرة إلى الألباني إسماعيل كاداريه.
أعتبر هذه الاستعادة لكاتب كلاسيكي مراجعة للتقاليد الأساسية لهذا الفن المراوغ؛ فالرواية تقبل التجديد إلى ما لا نهاية، وهذا بالضبط هو موطن قوتها، لكنه مقتلها في الوقت ذاته، حيث يمكن أن تضيع المعايير بين الجيد والزائف بسبب تسامح هذا الفن مع التجريب.
والتحدي الأكبر الذي تواجهه الرواية هو هجمة التسليع التي تميِّز حقبة العولمة. ونأمل ألا تطول هذه الحقبة أكثر مما تحتمل الفنون والآداب؛ إنجاز البشرية الأعظم والأجمل.
منذ ما يقرب من ثلاثة عقود صارت خطط التسويق والدعاية للمنتج أهم من المنتج ذاته، وأمست جودتها أهم من جودته. يصدق ذلك على المنتجات المادية من مأكل ومشرب وملبس، كما يصدق على أعمال التفكير والتخييل وبينها الكُتب.

إسماعيل كاداريه

وقد انزوى الشعر دون استجابة كبيرة للإفساد، وانزوى التفكير الفلسفي، وكانت الرواية ـ فيما بدا حتى الآن ـ الفن الأقل تصادماً مع اللحظة التجارية والأكثر طواعية لها. صار هناك فيض من الروايات الخفيفة التي تلبي فلسفة الحقبة التسويقية؛ فهي «منتج» قصير العمر يفسح المجال لغيره بعد فترة قصيرة.
وتبدو المشكلة أكثر استفحالا في البلاد التي تتمتع صناعة النشر فيها برأسمال كثيف. بات من المقبول أن تُصنع الروايات في الورش أو تُكتب من محترفين بطلب من دار النشر التي تحدد للكاتب موضوع روايته سلفاً بناء على تقدير خبرائها للموضوعات الأكثر رواجاً.
لا يستطيع أحد أن يتهمنا نحن العرب بأننا تخلفنا عن الدخول إلى خفة العولمة التسويقية. لدينا رواياتنا الخفيفة اللطيفة، لكننا في الآن ذاته، وبالتبجيل الواجب للمركزية الغربية صرنا نسرف في ترجمة الروايات الغربية الخفيفة، وأصبحت لدينا نهضة في الترجمة إلى العربية ينقصها التنوع للأسف.
فإذن، بالنسبة لي كان ختام 2022 من نصيب إسماعيل كاداريه شوقاً إلى متعة سبق وأن تلقيتها من رواياته، وتثبيتاً لإيماني بجدوى الفن الروائي. وحسب اطلاعي ـ الناقص بالضرورة ـ على الأدب العالمي ربما يكون الأخير من الكلاسيكيين العظام الذي لم يزل على قيد الحياة.
والأدب الكلاسيكي العظيم برأيي، هو ما يصمد لقراءات متتالية بفضل المخفي بداخله، ويجعل القارئ يشعر بأن مسرات عقله وروحه تعود مع كل إعادة قراءة، وأن تمثيلاته وموضوعاته لا تتقادم، بفضل الحقيقة الأدبية الثاوية بداخله.
وأحب أن أُعرِّف الحقيقة الأدبية بأنها النار التي تجعل كذب الأدب واقعاً، وترفع واقعة محدودة بزمانها، فتجعل منها حقيقة تعلو فوق الزمن وتتخطاه.
بفضل تلك النار التي يتشكل بها السرد الجيد، كما الشعر الجيد، تنعتق الواقعة من زمانها ومن مكانها وتحط في زمان ومكان جديدين؛ فتثير خيال قراء ولدوا بعد كتابتها بأزمان طويلة، وتبدو مألوفة في بلاد بعيدة ذات ثقافات مختلفة.
هذه الخصلة تكفي الأدب شرفاً. وكاداريه الذي أرى أنه من الزمرة التي ستعبر الأزمان يكفيه هذا الشرف بالطبع، من دون حاجة إلى نوبل المستعصية عليه، والتي ننسى أنها محض جائزة يحكمها عدد محدود من الناس.
فرط احترامنا لتلك الجائزة، ورسوخ صورتها في أذهان جموع الكتَّاب والقراء بوصفها «جائزة عالمية» يجعل استعصاءها على هذا الكاتب المجيد سؤالاً مشروعاً. لكن نوبل ليست موضوعنا، بل كاداريه الذي جعلته معبري إلى عام أدبي جديد، ومنحتني كتابته فيضاً من الإيمان بضرورة الأدب، في وقت عصيب على كل المستويات.
ويبدو لي أن مهارة الكاتب ونار قلبه التي تجعل إبداعه يخترق الزمان والمكان ليست هبة شخصية بالمطلق يتلقاها المبدع من آلهة الإبداع، بل هبة زمان ومكان محددين يُحسن ذلك المبدع تلقيها. وقد أحسن إسماعيل كاداريه تلقي هبة بلده الصغير ألبانيا. وبعض الهبات تكون من الألم!
طوال تاريخها الممتد كانت ألبانيا طريقاً للغزاة، وأرضاً لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى، مر عليها الرومان والبيزنطيون والفرنسيون والإيطاليون، والعثمانيون بالطبع، وقد استعصت عليهم نحو أربعة وعشرين عاماً، وعندما استسلمت لم تكن إقامتهم هنية، إذ اتخذت منها أوروبا رمزاً للصمود في وجه «الغزو الإسلامي» لكن في النهاية تحقق فيها التعايش المرير بين المسيحية والإسلام. وفي منتصف القرن العشرين وجدت الذات الألبانية المشروخة نفسها في مواجهة شرخ جديد كان متمثلاً في الشيوعية. ولم تزل هذه الشروخ تفعل فعلها في الذات الألبانية وفي روح الكاتب كاداريه الذي يحتضن إبداعه هذه الشروخ ويمثلها أفضل تمثيل.
يكتب كاداريه خيالاً ينهل من أساطير وقيم مختلف الثقافات التي لم تعبر ألبانيا دون تأثير ولم تستقر بها دون مرارة. لا يمكن العثور في رواياته على هجائية للشخصية التركية كما لدى اليوناني نيكوس كازانتزاكس مثلاً، بل نرى أمثولة القمع التي يمكن أن ترتكبها السلطة العثمانية مثلها مثل أي سلطة غاشمة.
روايته «قصر الأحلام» تطاول أية كتابة عظيمة عن القمع والرعب في أي مكان بالعالم دون أن تتخلى عن الخيالي الأسطوري والمبتكر في الآن ذاته، إذ ابتدعت الرواية أرشيفاً ضخماً أنشأته الإمبراطورية العثمانية لرصد أحلام رعاياها في كل مكان وتحليلها، ورصد درجة خطورة كل منها، وتحرك السلطات للعصف بحيوات أصحاب الأحلام الخطرة.
وأما روايته «مدينة الحجر» فلا تُذكر عادة بين الروايات الشهيرة التي جسَّدت الحرب العالمية الثانية. ولنلاحظ أن معظم تلك الروايات ذات الصيت تتضمن في العادة شيئاً ضد النازية وجرائمها. ودون مقارنات ليست ضرورية دائماً في عالم الأدب، فإن رواية إسماعيل كاداريه التي لا تظهر فيها وحشية النازيين أو مأساة اليهود تمتلك من الشفافية ما يجعلها قادرة على تجاوز زمن الحرب العالمية الثانية واستعادته في الوقت ذاته.
رواية عن الإنسان الخائف، ليس فيها صخب الأحداث الكبيرة، لكنها مع ذلك ملحمة ترصد الحرب في انعكاسها على مدينة ألبانية صغيرة. مدينة سحرية نتعرف عليها في البداية بوصفها مدينة فوق الجبال هشة مائلة بشكل هائل «لو قدر لامرئ أن ينزلق على جانب أحد الشوارع فيها لأوشك أن يجد نفسه فوق أحد سطوح منازلها، ولو مدَّ ذراعه بقبعته لتمكَّن من تعليقها على رأس إحدى المآذن».
كانت تلك المدينة العجائبية منسية تعاني الشظف، تشرب من الأمطار التي تتجمع على أسقفها وتحملها الميازيب إلى صهاريج أسفل البيوت. تعيش حياتها الوادعة، لا تهزها إلا جريمة شرف، بين وقت وآخر أو طغيان الأمطار في بعض الأوقات، وتجري ثرثراتها بين العجائز حول أعمال السحر والشعوذة.
هذا الهدوء ينقلب رأساً على عقب، بدخان متطاير من حرب تفجرت في البعيد. لا نرى فظاعات القتل الجماعي على الجبهات، بل أثر ذلك على المدينة الخاملة. بعين ووعي صبي نرى تغير العلم والعملة مع تغير المحتلين، فهي يوم إيطالية ويوم يونانية، بالتناوب دون أن ترحمها غارات الإنجليز. كل هذا يبدو وكأنه يحدث للمدينة بفعل سحر كامن في رقعة قماش صغيرة ملونة تتغير فوق مبنى البلدية.
يستمع الطفل إلى آراء الكبار بشأن الغزاة المختلفين فتخلق في وعيه أسئلة محيرة. عندما سمع أحدهم يقول إن الإيطاليين طيبون، سأل الطفل نفسه: هل يمكن أن يكون الشعب طيباً وتكون طائراته شريرة؟! ويروح يصف آلات الحرب الفظيعة تلك كما لو كانت بشراً، فيصف طائرة بالكسول، وأخرى رحيمة تتعمد إفراغ حمولتها من القنابل في الغابات والمساحات الخالية، يعجبه جمال طائرة وقبح أخرى. كل هذه الرقة لم تفلح في إخفاء حقيقة تحول العالم إلى مسلخ كبير في تلك الحرب.
لم تمر دورات الاحتلال دون وقوع العداء بين سكان المدينة. كان كل تغيير يفرز موجة من الإعدامات لرجال ونساء صاروا جواسيس من وجهة نظر المنتصرين، لكنهم أبطال في سردية أخرى. وينتهي الأمر بخروج الشباب الألبان إلى الجبال للمقاومة وعودتهم شيوعيين تتقدمهم رقعة العلم الحمراء ليستقر السحر أخيراً في اللون الأحمر، وتتغير معايير الجاسوسية والخيانة من المقياس الوطني إلى المقياس الآيديولوجي، ويصبح الإسلام والمسيحية المتعايشان على مضض عدواً واحداً للعصر الجديد.
لا يمنع سحر الأسطوري من اعتبار «مدينة الحجر» وثيقة واقعية مريرة عن لحظة تاريخية محددة في الآن ذاته. بتشابكات شخصياتها وأحداثها يمكننا اعتبارها رحلة بحث الإنسان الألباني ورحلة بحث كاتبها نفسه عن ذاته. وبما انطوت عليه من رهافة تجعلها في صلب «الحقيقة الأدبية» يمكننا اعتبارها رحلة بحث الإنسان في أي مكان عن حقيقته وحقيقة وجوده المستعصية.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
TT

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ نجمتين عالميتين تقديراً لمسيرتيهما، هما الأميركية فيولا ديفيس، والهندية بريانكا شوبرا.

واختتم المهرجان عروضه بفيلم «مودي... 3 أيام على حافة الجنون» الذي أخرجه النجم الأميركي جوني ديب، ويروي حكاية الرسام والنحات الإيطالي أميديو موديلياني، خلال خوضه 72 ساعة من الصراع في الحرب العالمية الأولى.

واختير فيلم «الذراري الحمر» للمخرج التونسي لطفي عاشور لجائزة «اليُسر الذهبية» كأفضل فيلم روائي، أما «اليُسر الفضية» لأفضل فيلم طويل، فنالها فيلم «إلى عالم مجهول» للفلسطيني مهدي فليفل، بالإضافة إلى جائزة خاصة من لجنة التحكيم نالها فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» لخالد منصور.