كشفت مصادر رسمية أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أسقطت تهديداتها السابقة بالانتقام من السعودية في أعقاب قرار «أوبك بلس» بخفض إنتاج النفط العام الماضي، وتتحرك في الوقت ذاته لتكثيف التنسيق الأمني مع الرياض لمواجهة إيران في العام الجديد 2023، بعد ثلاثة أشهر من توتر واضح في العلاقات بين البلدين.
بوادر تحسّن العلاقات بعد انتخابات التجديد النصفي
ونقلت «وول ستريت جورنال» عن تلك المصادر، وجود بوادر على تحسّن التعاون بين الولايات المتحدة والسعودية في الأسابيع الأخيرة، مع انخفاض أسعار البنزين في الولايات المتحدة، ونتائج انتخابات التجديد النصفي لمجلس النواب الأميركي التي أفرزت نتائج أفضل من المتوقع للديموقراطيين، فضلاً عن تزايد مخاوف الإدارة الأميركية بشأن إيران.
وتبرز تلك البوادر خلال هذه المرحلة، بعد مرور وقت على الخلاف الذي طفا على السطح في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بين الولايات المتحدة والسعودية، نتيجة قرار مجموعة «أوبك بلس» خفض الإنتاج النفطي، ورفض السعودية وبعض الدول الأعضاء في المجموعة الرضوخ لمطالبات أميركية عالية المستوى لتأجيل خفض الإنتاج، وصولاً إلى اتهام البيت الأبيض للرياض بوقوفها في صف روسيا خلال العملية العسكرية الدائرة على الأراضي الأوكرانية، وهو الأمر الذي نفته الرياض واستنكرته على أعلى مستوى في حينه.
من التهديد إلى التنسيق
وأسهم قرار خفض الإنتاج في انسياق مسؤولين في الإدارة الأميركية على رأسهم الرئيس جو بايدن، إلى توجيه الاتهامات بشكل مباشر إلى السعودية، والتهديدات في أحيان أخرى، ما أسهم بالضرورة في تعميق الخلافات بين البلدين، رغم العلاقة الاستراتيجية التي تربط الجانبين منذ ما يزيد على ثمانية عقود.
وطبقاً للمسؤولين الأميركان الذين تحدثوا لـ«وول ستريت جورنال»، فإنه «لا توجد خطط الآن لمتابعة التهديد بفرض عواقب على السعودية»، وعوضاً عن ذلك، يقول مسؤولون من كلا البلدين إنهم يمضون قدماً في مشاريع عسكرية واستخباراتية جديدة وجهود حثيثة لـ«احتواء إيران»، لكنهم حذّروا في الوقت ذاته من أن العلاقات «لا تزال هشة»، حيث رسم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، سياسة خارجية أكثر استقلالية لبلاده، تشكّل فيها العلاقات النوعية مع الصين وروسيا أهمية استراتيجية للرياض.
تنسيق عسكري واستخباراتي
وتتمتّع العلاقات التاريخية بين الرياض وواشنطن بمتانة على الصعيدين الأمني والدفاعي على وجه الخصوص، ورغم «المطبّات» التي واجهت نمو العلاقات بمرور الزمن، فإن البلدين احتفظا بتنسيق عالي المستوى، كان آخره وفقاً لتقارير صحافية، تبادل البلدان المعلومات الاستخباراتية مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حول نيّة إيران تنفيذ هجوم إرهابي وشيك على السعودية، ونسّق البلدان ردّاً مشتركاً على ذلك.
وشدّد في حينه المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، على أن «الولايات المتحدة تشعر بالقلق إزاء هذه التهديدات الإيرانية، ولا نزال على اتصال بالسعوديين من خلال القنوات العسكرية والاستخباراتية، ولن نتردد في العمل للدفاع عن مصالحنا وشركائنا في المنطقة».
كما نفّذت قوات من البلدين عدداً من التمارين والطلعات الجوية المشتركة خلال الأشهر الماضية، في إشارة لحجم الشراكة الاستراتيجية بين البلدين والتنسيق الأمني والدفاعي.
وقاد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ورئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد، جهود وساطة مشتركة بين الولايات المتحدة وروسيا، لصالح عملية تبادل مسجونين بارزين بين البلدين، أفضت في نهاية المطاف إلى نجاح الوساطة.
وفي مؤتمر صحافي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، قال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إن بلاده ستحافظ على جسور تواصل لا تنقطع مع الولايات المتحدة في جميع المجالات، بما في ذلك الشؤون الأمنية والسياسية.
الملف اليمني يتقدّم التعاون الثنائي
ويواصل البلدان التنسيق والتعاون عالي المستوى في عدة ملفات محورية في المنطقة، من أبرزها الملف اليمني، حيث يُجري المبعوث الأميركي تيم ليندركينغ زيارات متكررة إلى الرياض لتنسيق الجهود، آخرها زيارة يقوم بها الأسبوع الجاري برفقة المبعوث الأممي إلى اليمن، «لتعزيز جهود السلام التي تقودها الأمم المتحدة ودعم الأطراف اليمنية للتوصل إلى اتفاق بشأن تمديد الهدنة وتوسيعها»، حسب بيان الخارجية الأميركية.
تنظيم المصالح أقوى بكثير من الخلافات
وشدّد أستاذ الدراسات الاستراتيجية في جامعة الدفاع الوطني بواشنطن ديفيد ديروش، على أن العلاقات المؤسسية الأميركية – السعودية «لطالما كانت قوية»، وهناك عقود تدريبات عسكرية طويلة الأجل بين القوات المسلحة للبلدين، وتم تعزيزها في السنوات الأخيرة من خلال مهام تدريب عسكرية أميركية مع وزارة الداخلية السعودية، والسعودية هي «الدولة الوحيدة في العالم التي لدى الولايات المتحدة فيها مثل هذا النوع من التعاون العسكري».
وخلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» انتقد ديروش، جنوح بعض وسائل الإعلام إلى البحث وراء الصراعات والتركيز على الشخصيات بدلاً من القضايا طويلة الأجل، فضلاً عن وجود عدد من «الظواهر الصوتية من حزب الرئيس معادية بطبيعتها للسعودية»، لكن تبقى الحقيقة أن العلاقات المؤسسية بين البلدين قوية، و«تنظيم المصالح التي تربط بين البلدين أقوى بكثير من الخلافات في العلاقات الثنائية».
وفي اتجاهٍ مقارب يذهب الكاتب والأستاذ في جامعة «جورج تاون» روب سوبحاني، بالقول إن «العلاقات بين البلدين مهيّأة لتعاون مكثّف يركّز على الأمن الإقليمي»، ويواصل سوبحاني في تعليق لـ«الشرق الأوسط» أن هذه الرؤية التفاؤلية تنبع من «القلق المتزايد في واشنطن والرياض بشأن التدخل العسكري الإيراني المتزايد في الحرب في أوكرانيا نيابةً عن روسيا». ويضيف سوبحاني أنه إلى جانب التعاون الأمني، فإن العلاقات الأميركية - السعودية ستدخل فصلاً جديداً عبر «النموذج الأخضر الجديد» الذي يتمثّل في رؤية ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، مع التركيز على «المبادرات الخضراء التي تتواءم مع توجه الولايات المتحدة للتركيز على الطاقة المتجددة».
ويبدأ الأستاذ في جامعة الكويت محمد الرميحي حديثه لـ«لشرق الأوسط» بجملة: «يُمكن أن تختلف مع أميركا ولكن لا تعاديها»، معلّلاً بأن «الولايات المتحدة بلد كبير ومتقدم وفيه الكثير من الإمكانيات التي تجعل التوافق معها ولو جزئيّاً أفضل بكثير من العداء معها» ويتابع: «والعلاقات الخليجية الأميركية وبخاصة من جانب السعودية لها تاريخ طويل وعميق من التعاون البنّاء في الكثير من الملفات وهي حجر زاوية مهم في استقرار هذه المنطقة».
مطبّات طبيعية
ويفسّر الدكتور الرميحي «المطبّات» التي تحدث بين فترة وأخرى، بأنها «طبيعية وذلك لاستقلالية الدول فالسعودية دولة مستقلّة وتراقب مصالحها بدقة وتحترم مصالح الآخرين أيضاً»، ويستطرد الرميحي بأن بعض الجهات المعادية للخليج في واشنطن تقوم بتشويه كثير من القضايا المرتبطة بدول الخليج، مستخدمةً في ذلك عدّة طرق متاحة من ضمنها تشكيل «اللّوبيات» للضغط على الإدارة الأميركية، وهو الأمر الذي «يتوجب أن نقوم به نحن في سبيل ترطيب العلاقات مع الولايات المتحدة، ومن ذلك مواجهة ازدواجية بعض الجهات غير الرسمية ووسائل إعلام أميركية في غضّ الطرف عن ظواهر قتل الناس في الشوارع وتعليق الشباب على المشانق في إيران، ومقابل ذلك يتم التركيز على قضايا هي في واقع الأمر ثانوية في دول الخليج».
من جانبه يرى الكاتب السعودي عماد المديفر، أن التصريحات والرسائل التي تصل من واشنطن، ما زالت «متضاربة، ومتناقضة، ومزدوجة، خصوصاً تجاه حلفائها التقليديين من دول الاعتدال في المنطقة، وتجاه ما يهدد أمن واستقرار المنطقة كذلك، ومن ذلك موقفها الذي يوصف بـ(الرخو) من النظام الراديكالي المتطرف في إيران، ومشروعه النووي ومشروعه للصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة الانتحارية، ودعمه للميليشيات المسلحة الإرهابية في المنطقة، وتهديده لأمن وسلامة الملاحة البحرية، ورغم ذلك ما زال السعوديون ينظرون إلى العلاقة مع الولايات المتحدة على أنها مهمة واستراتيجية، وتقوم على شراكة تمتد لأكثر من 80 عاماً، وعلى أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة».
العودة إلى الواقعيّة
وقال المديفر لـ«الشرق الأوسط» إن «التصريحات الأخيرة من جانب الإدارة الأميركية ربما تمثل حالة من العودة للواقعية بعد سلسلة من التصريحات والمواقف السابقة المتخبطة، وبالتالي يسعى المعلقون الأميركان اليوم إلى تأطير هذه العودة للواقعية من خلال القول بأن نتائج انتخابات التجديد النصفي للديمقراطيين التي فاقت التوقعات، وتزايد المخاوف بشأن إيران، هو ما خفف من حدة الخلاف المستمر منذ فترة بين السعودية والولايات المتحدة».
ويشير المديفر بأنه «ليس هناك شيء ملموس على السطح يشير إلى تحسّن في العلاقات كردّ فعل على نمو العلاقات السعودية - الصينية مؤخّراً، خصوصاً أن السعودية لم تتقارب مع الصين كورقة ضغط تستخدمها هنا وهناك، بل هو في الواقع مشروع استراتيجي متكامل».
ويستشهد المديفر بما نتج عن الزيارة الأخيرة للرئيس الأميركي إلى السعودية في يوليو (تموز) من العام المنصرم، حيث وقّع الجانبان عدداً من الاتفاقات المهمة في مجالات مختلفة مثل الطاقة النظيفة، والأمن السيبراني، واستكشاف الفضاء، والصحة العامة، والأمن البحري وتعزيز الدفاع الجوي، وهو ما يؤشر إلى استحالة حدوث قطيعة في العلاقات»، واصفاً واقع العلاقات في الأشهر الماضية بـ«التوتر المؤقت» وأن العلاقات تتخذ مسار التعاون أحياناً ومسار التوتر تارة أخرى في أحيان أخرى، ورغم ذلك يمضي البلدان قدماً في مشاريع عسكرية واستخباراتية جديدة وجهود حساسة لاحتواء إيران وسط تعثر الجهود لإحياء الاتفاق النووي، خصوصاً أن التعاون العسكري المستمر بينهما ساعد على استمرار العلاقة السياسية بعد أشهر من حالة عدم اليقين.