يُخطَّط في الاقتصاد دائماً للسيناريو الممتاز. والعكس، يعني توقّف العجلة الاقتصاديّة. فالربح يبدأ في عقل الإنسان، حتى قبل بدء المشروع. أما في الحرب، فيُخطّط عادة للسيناريو السيّئ، ويؤمل أن يتجسّد السيناريو الممتاز. لكن السؤال يبقى: هل من سيناريو ممتاز في الحرب؟ وهل هناك منتصر ومهزوم، أم أن هناك قتيلاً وجريحاً نتيجة للحرب؟ ويُقال في هذا الإطار، إن النصر هو ممحاة للأخطاء. أما الهزيمة فهي «المُكبّر للأخطاء».
لا توجد فترة سماح في الحرب، لأن ديناميكيّة الحرب لا تسمح بالتعويض. في الاقتصاد، قد يتمّ تعويض الخسارة عبر الاستدانة.
تأكل الحرب وتستنزف من خطّط لها وبدأها. في الحرب يزهو المنتصر في نصره، ويُحضّر الخاسر نفسه للجولة المقبلة.
يقول المفكر الكبير الراحل صمويل هنتنغتون، إننا وبفعل الاحتكاك المستمرّ مع الآخر، نتّجه إلى التماهي (Sameness) غير المقصود معه، ليصبح هو أنا، وأصبح أنا هو. هكذا هي الحرب. تبدأ بين قوّي وضعيف في بعض الحالات. وإذا استمرّت إلى فترة طويلة دون حسم. فإن التماهي بين المتحاربين يصبح أمراً واقعاً، وأكثر ظهوراً، ليصبح فارق القوّة الكبير عند بداية الحرب، بالكاد جليّاً بعد فترة.
* الحرب الأوكرانيّة
لم يعد شكل الحرب الأوكرانية اليوم كما كان في البدايات. في ذلك الوقت، اعتقدت أميركا أن أوكرانيا سوف تسقط بسرعة، ولا بد من التحضير لحرب العصابات. في الوقت نفسه، قلل الرئيس الأوكراني من التحذير الأميركيّ، حول قرب ودنو الغزو الروسيّ على بلده.
وقعت الحرب، وانكسفت الخطط، وبدأت عملية التماهي (Sameness) بين الفريقين على غرار ما قاله هنتنغتون. لم يعد فارق القوّة بين الدولتين كبيراً كما كان عند بدء الحرب. فالخطط الروسيّة تعثّرت. وتراكمت الأخطاء في كلّ المستويات، من الاستراتيجيّ إلى العملانيّ، ومروراً بالتكتيكيّ. في المقابل، تمكّن الجيش الأوكراني من الصمود، عند بدء الحرب، وحتى من القيام بهجومات عكسية على الجيش الروسي واسترداد ما يقارب 40 في المائة من الأراضي التي سيطر عليها الجيش الروسي منذ 24 فبراير (شباط) 2022.
تميّز أداء الجيش الأوكراني بالأمور التالية:
• القدرة على استيعاب السلاح الغربي الحديث، والقتال به عبر ابتكارات تكتيكيّة على أرض المعركة (Innovative Tactics).
• القدرة على خوض الحرب بشبكة عنكبوتيّة (Networking)، تربط المقاتل، بالسلاح، والمسيّرة معاً وفي الوقت نفسه. بكلام آخر، المسيّرة ترصد الهدف وترسل إحداثياته إلى المسؤول العسكري الأوكرانيّ، الذي بدوره يقرر ضرب الهدف بإعطاء الأمر مباشرة إلى السلاح المناسب. أعطى هذا الأمر ليونة كبيرة للجيش الأوكراني، كان قد افتقدها ولا يزال الجيش الروسيّ.
• أثبت الجيش الأوكراني فاعليتّه، الأمر الذي أعطاه مصداقيّة كبيرة لدى داعميه، خصوصاً أميركا. فاعتُبر هذا الجيش على أنه جيش غربيّ، يقاتل عن الغرب الديمقراطي، ولا بد من استمرار دعمه. من هنا بدأت أميركا بإعطاء الجيش الأوكراني صواريخ الجافلين في بداية الحرب. انتقلت بعدها إلى راجمات الهايمرس، وحالياً إلى صواريخ الباتريوت، مع عربات مدرّعة. إنه القضم الأميركي المتدرّج لخطوط بوتين الحمراء في أوكرانيا.
* الأخطاء التراكميّة الاستراتيجيّة - التكتيكيّة للجيش الروسيّ
إذا تجاوزنا المرحلة الأولى. فقد يمكن القول إن الأخطاء الروسيّة التكتيكيّة تمثّلت بعدّة أمور منها:
• عدم تحضير العسكر قبل بدء الحرب. كما الاستمرار بتسمية الحرب على أنها «عملية عسكريّة خاصة»، بينما يُخصّص لها وسائل الحرب الشاملة.
• مركزيّة إدارة الحرب، وتدخّل المستوى السياسي الأعلى في إدارة الحرب حتى المستوى التكتيكي. هذا عدا الصراع الداخلي للسلطة، بين مؤيّد لوزارة الدفاع، ومن يتهمها بالتقصير. هذا عدا تعدّدية القوى التي تحارب، دون توفّر وحدة القيادة - هناك الجيش الروسي، وقوات الشيشان، وقوات فاغنر.
• عدم تحضير القاعدة العسكرية للإنتاج العسكريّ، الأمر الذي اضطّر روسيا إلى الاستيراد من إيران ومن كوريا الشماليّة.
• بعض الأخطاء التكتيكيّة القاتلة.
• حادثتان تعكسان جليّاً قصور الجهوزيّة العسكريّة الروسيّة؛ وهما:
- حادثة عبور نهر سيفرسكي دونتس خلال الحرب على مدينة سيفيريدونتسك، حيث خسر الجيش الروسي كتيبة كاملة من الدبابات (100 دبابة 1000 جندي).
- مؤخراً، حادثة المدرسة في مكاييفكا (Makiyivka)، حيت قتل فيها أكثر من مائة جندي روسي بعد قصفها بصواريخ الهايمرس. عزت القوات الروسيّة السبب إلى استعمال الجنود الروس الهواتف الجوالة. لكن لا بد من الأسئلة التالية:
- كيف يوضع 400 جندي، في مكان معلوم ومعروف (مدرسة)، ولا يبعد عن خطوط التماس أكثر من 15 كلم؟ لماذا تجميع هذا العدد من العسكر الأغرار، في محيط ملتهب، خصوصاً مدينة بخموت؟ أين الأمن العملاني للوحدات؟ لماذا يستعمل الجنود هواتفهم الجوالة وهي ممنوعة؟ وإذا كانت مسموحة، لماذا استعمال شبكة الهاتف الأوكرانيّة؟
الحرب التي تُعاقب أوكرانيا (تحليل)

رجل يسير أمام محلات مدمرة بفعل غارة روسية في بلدة بإقليم خاركيف الاثنين (أ.ف.ب)
الحرب التي تُعاقب أوكرانيا (تحليل)

رجل يسير أمام محلات مدمرة بفعل غارة روسية في بلدة بإقليم خاركيف الاثنين (أ.ف.ب)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة