متعة فعل اللاشيء في الأوقات الحرجة

ترجمة جديدة لـ«فن الكسل» لهرمان هسه

متعة فعل اللاشيء في الأوقات الحرجة
TT

متعة فعل اللاشيء في الأوقات الحرجة

متعة فعل اللاشيء في الأوقات الحرجة

لا يستغرق هيرمان هسّه في تأمل «ألف ليلة وليلة» من منظور الأحكام الجمالية بقدر ما ينشغل بتأمل تلك الحالة التي توقع قارئها في حبائل سردها، والتي يُرجعها الكاتب السويسري من أصل ألماني إلى «روح الخمول» التي تسود تلك «الليالي»، وهو ما يتتبعه من خلال تحليل تلك الروح في كتابه «فن الكسل» الصادر أخيراً عن دار «منشورات حياة» بترجمة عن المصري أحمد الزناتي عن الألمانية.
ينطلق هيرمان هسّه (1877 - 1962) من اعتبار «فن الكسل» أحد الفنون القديمة التي استلبتها ماكينة التفكير الحر التقليدية خالية الروح، ومعها النظام التعليمي السارق لحرية الفرد وشخصيته المستقلة، ويسعى لتأمل توظيف الأدب الشرقي لهذا الفن في صوته القصصي والسردي: «السحر الذي يوقعنا في حبائل الآداب الشرقية راجع بالأساس إلى روح الخمول المحببة لديهم، بمعنى روح الكسل التي تطوّرت وتحوّلت إلى فن قائم بذاته له طعم وذوق».
ويربط صاحب «سدهارتا» بين التفاصيل الوصفية في الأدب الشرقي وبين تصوراته حول «فن الكسل»، فيقول إن الحكّاء العربي في ذروة لحظات التشويق في القصة يمنح نفسه فسحة من الوقت ليستغرق في وصف تفاصيل سردية دقيقة، قد تكون «تفاصيل بالغة الدقة لخيمة ملكية أرجوانية، أو بطانة سرج موشّاة بالأحجار الكريمة، أو سرد فضائل درويش من الدراويش أو مآثر حكيم من الحكماء سرداً مسهباً لا يغادر شيئاً من أكثر التفاصيل دقّة».
أما القارئ أو المستمع للحكاية هنا فهو بدوره متواطئ في الاستسلام لإيقاع الحكّاء الشرقي هنا: «نحن أيضاً بينما نقرأ تلك الحكايات الخرافية والقصص العجيبة المتشابكة الممتدة بلا نهاية، نكتشف أننا رُزقنا صبراً عجيباً ورغبة عارمة في استمرار الحكاية بلا انتهاء، لأن هذا السحر العظيم قد خلب ألبابنا ولأن ربّة الكسل قد مستنا بعصاها السحرية».
وينتقل صاحب الكتاب إلى الفنان نفسه، صاحب الحكاية، وأزمة فترات «الحُبسة الإبداعية» لديه، وما تتطلبه من شيء من الكسل وإعطاء فرصة للأفكار التي أفرزها اللاوعي لكي تنضج. ويستفيض الكتاب في الاستبصار بتلك الفترة، وعلاقة الفنان بصوت الطفل الداخلي الذي يسكنه، حيث تكون تلك الفترات هي المُثلى للعودة إليه واستدعائه، أو حسب تعبيره «تكريس أنفسهم تكريساً لا وعياً لفكرة أن يعودوا أطفالاً مرة أخرى، أن يكونوا أصدقاء وأشقاء الأرض والنباتات والصخور والسحب».
يُفسر هسّه فترات الحبسة لدى المبدع أو الفنان بتلك الفترة التي تموج فيها نفس المبدع بشيء نشط، يرغب في أن يصنع منه عملاً فنيّاً مرئياً جميلاً، إلا أن «البذرة نفسها تأبى على التفتح، لأن وقت نضوجها لم يحن بعد، ولأن البذرة لا تزال تحمل حلّ معضلة الحبسة الوحيد باعتبارها سرّاً لم يأن وقت الكشف عنه، وهكذا لا يكون أمام المبدع سوى الانتظار».
ويسعى المؤلف، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، لتقديم تصوّرات عما يمكن أن يقوم به الفنان الذي يواجه تلك «الحالة الهلامية» أو «حالة فعل اللاشئ» حسب تعبيره، ويفحص تلك المشكلة باعتبارها مشكلة الفن نفسه، يقول: «تعلّمت عن كثب كيفية ممارسة فعل اللاشئ في الأوقات الحرجة ممارسة منهجية ممتعة»، معتبراً أن فن الكسل قد يكون تعلماً منهجياً في حد ذاته. وهو يطرح أمام القارئ عدداً من التمارين التي اختبرها بنفسه في «معبد هذا الفن» بحسب تعبيره، منها ممارسة الانشغال الواعي بأشياء تبدو ظاهرياً تافهة، كمراقبة ذرات الغبار في ضوء الشمس على سبيل المثال. إن من يجرب ذلك، كما يرى، تتعاظم دهشته من كثرة ما يكتشفه من حوله ومن النسيان التام لذاته، و«هو فعل شاف وإن كان يحتاج إلى تدريب، تدريب على متعة فعل اللاشئ في الأوقات الحرجة خروجاً من خيبة الأمل التي تحفزّها فترات الحبسة الإبداعية».
كما يسجل الكاتب تأملاته حول فلسفته في الكتابة فيعتبر أن اللغة الناصعة ليست هدفاً في حد ذاتها إذا لم تُعبّر عن تجارب الإنسان الحقيقية، وكذلك يتحدث عن فن القراءة الحقيقية مقابل «القراءة الطائشة»، معتبراً أن أعداء الكتب الحقيقيين ليسوا هم محتقرو الكتب، بل «المتبحرون في القراءة دون وعي، فرب زوجة بسيطة لا تعرف سوى الكتاب المقدس، استطاعت أن تستمد منه معرفة وسلواناً وفرحة أكثر مما يستطيع ثري مدلل أن يستمدها من مكتبته الضخمة».
ويربط الكاتب بين القارئ ورحلته مع الكاتب التي قد تتغيّر بتغيّر وجهته في الحياة، فقد نتأثر اليوم بنص أو قصيدة سبق وأن أعرضنا عنها بالأمس. ويُطبق هسّه هذا المقياس على نفسه قائلاً: «رأيت بعض الشباب الذين دأبوا في الكتابة إلى بمشاعر حب جارفة، ينصرفون عني دون سابق إنذار بمجرد انتقالهم إلى طوّر جديد من أطوار الحياة، لأنهم يكتشفون بغتة ألواناً جديدة من الحكمة، بل ينظرون بعين الشفقة إلى الأديب الذي كان حتى وقت قريب رفيق درب وناصح أمين ومرآة نفس القارئ، بل إن بعضهم يحس بحاجة إلى أن يخبرني برأيه، مبرراً لنفسه سبب إعراضه عني، ورغم ذلك يحدث في أحوال نادرة أن يعيد القارئ نفسه - الذي سبق وأعرض عني بعد مرور سنوات طويلة - اكتشافي، وأن يعاود الكتابة إليّ، وأن يستأنف التواصل معي مجدداً».
ويعتبر هسه أن هذا الابتعاد والاقتراب هما دليل وعي، بعيداً عن تسليم القارئ لنفسه تسليماً أعمى لكاتب ما دون تدبّر: «ليست وظيفة الكُتب مساعدة البائسين على توفير حياة بديلة، بل العكس تماماً، فلا قيمة للكتب إن لم تأخذ بيد قارئها نحو الحياة».


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

فيلم «الحريفة 2» يراهن على نجاح الجزء الأول بشباك التذاكر

جانب من العرض الخاص للفيلم بالقاهرة (الشركة المنتجة)
جانب من العرض الخاص للفيلم بالقاهرة (الشركة المنتجة)
TT

فيلم «الحريفة 2» يراهن على نجاح الجزء الأول بشباك التذاكر

جانب من العرض الخاص للفيلم بالقاهرة (الشركة المنتجة)
جانب من العرض الخاص للفيلم بالقاهرة (الشركة المنتجة)

استقبلت دور العرض السينمائية في مصر فيلم «الحريفة 2: الريمونتادا» ليسجل الفيلم سابقة تاريخية بالسينما المصرية؛ لكونه أول فيلم مصري يعرض جزأين في الصالات السينمائية خلال عام واحد، بعدما طرح جزأه الأول مطلع العام الجاري، وحقق إيرادات كبيرة تجاوزت 78 مليون جنيه (الدولار يساوي 49.75 جنيه مصري في البنوك) بدور العرض.

واحتفل صناع الجزء الثاني من الفيلم بإقامة عرض خاص في القاهرة مساء (الثلاثاء)، قبل أن يغادروا لمشاهدة الفيلم مع الجمهور السعودي في جدة مساء (الأربعاء).

الجزء الثاني الذي يخوض من خلاله المونتير كريم سعد تجربته الإخراجية الأولى كتبه إياد صالح، ويقوم ببطولته فريق عمل الجزء الأول نفسه، نور النبوي، وأحمد بحر (كزبرة)، ونور إيهاب، وأحمد غزي، وخالد الذهبي.

إياد صالح ونور النبوي في العرض الخاص لفيلم «الحريفة 2» (الشركة المنتجة)

تنطلق أحداث الجزء الثاني من الفيلم حول العلاقة بين فرقة «الحريفة» مع انتقالهم من المدرسة الثانوية إلى الجامعة وحصولهم على منحة دعم للدراسة في فرع إحدى الجامعات الأجنبية بمصر، بالإضافة لشراكتهم سوياً في امتلاك وإدارة ملعب لكرة القدم بمبلغ المليون جنيه الذي حصلوا عليه بعد فوزهم بالبطولة في نهاية الجزء الأول.

وعلى مدار نحو ساعتين، نشاهد علاقات متشابكة ومواقف متعددة يتعرض لها الأبطال في حياتهم الجديدة، ما بين قصص حب ومواقف صدام في الجامعة؛ نتيجة تباين خلفياتهم الاجتماعية عن زملائهم، بالإضافة إلى الخلافات التي تنشأ بينهم لأسباب مختلفة، مع سعي كل منهما لتحقيق حلمه.

وفيما يواجه ماجد (نور النبوي) مشكلة تعيق حلمه بالاحتراف في الخارج بعدما يقترب من الخطوة، يظهر العديد من المشاهير في الأحداث بشخصياتهم الحقيقية أو كضيوف شرف بأدوار مؤثرة في الأحداث، منهم آسر ياسين الذي ظهر بشخصية رئيس الجامعة، وأحمد فهمي الذي ظهر ضيف شرف باسمه الحقيقي مع فريق الكرة الخماسية الذي يلعب معه باستمرار في الحقيقة، ومنهم منتج العمل طارق الجنايني.

إياد صالح مع أبطال الفيلم في الكواليس (الشرق الأوسط)

يقول مؤلف الفيلم إياد صالح لـ«الشرق الأوسط» إنهم عملوا على الجزء الجديد بعد أول أسبوع من طرح الفيلم بالصالات السينمائية لنحو 11 شهراً تقريباً ما بين تحضير وكتابة وتصوير، فيما ساعدهم عدم وجود ارتباطات لدى الممثلين على سرعة إنجاز الجزء الثاني وخروجه للنور، مشيراً إلى أن «شخصيات ضيوف الشرف لم يفكر في أبطالها إلا بعد الانتهاء من كتابة العمل».

وأضاف أنه «حرص على استكمال فكرة الفيلم التي تعتمد على إبراز أهمية الرياضة في المرحلة العمرية للأبطال، بالإضافة لأهمية الأصدقاء والأسرة ودورهما في المساعدة على تجاوز الصعوبات»، مشيراً إلى أن «إسناد مهمة إخراج الجزء الثاني للمخرج كريم سعد الذي عمل على مونتاج الجزء الأول جعل صناع العمل لا يشعرون بالقلق؛ لكونه شارك بصناعة الجزء الأول، ولديه فكرة كاملة عن صناعة العمل».

من جهته، يرى الناقد المصري محمد عبد الرحمن أن «الجزء الجديد جاء أقل في المستوى الفني من الجزء الأول، رغم سقف التوقعات المرتفع»، ورغم ذلك يقول إن «العمل لم يفقد جاذبيته الجماهيرية في ظل وجود اهتمام بمشاهدته ومتابعة رحلة أبطاله».

إياد صالح مؤلف الفيلم مع عدد من أبطاله (الشركة المنتجة)

وأضاف عبد الرحمن في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «الأحداث شهدت محاولات لمد الدراما من أجل إتاحة الفرصة لاستكمال الفريق نفسه المشوار سوياً، مما أظهر بعض السياقات التي لم تكن مقنعة درامياً خلال الأحداث، وبشكل ترك أثراً على الاستفادة من وجود أسماء عدة ضيوف شرف».

ويدافع إياد صالح عن التغيرات التي طرأت على الأحداث باعتبارها نتيجة طبيعية لانتقال الأبطال من مرحلة الدراسة الثانوية إلى مرحلة الجامعة، بالإضافة إلى انتهاء التعريف بالأشخاص وخلفياتهم التي جاءت في الجزء الأول، وظهورهم جميعاً من أول مشهد في الجزء الثاني، لافتاً إلى أن «فكرة الجزء الثاني كانت موجودة من قبل عرض الفيلم».

وأوضح في ختام حديثه أن لديه أفكاراً يمكن أن تجعل هناك أجزاء جديدة من الفيلم ولا يتوقف عند الجزء الثاني فحسب، لكن الأمر سيكون رهن عدة اعتبارات، من بينها رد الفعل الجماهيري، واستقبال الجزء الثاني، والظروف الإنتاجية، ومدى إمكانية تنفيذ جزء جديد قريباً في ظل ارتباطات الممثلين، وغيرها من الأمور، مؤكداً أن «اهتمامه في الوقت الحالي يتركز على متابعة ردود الفعل».