في خضم الحرب الأوكرانية التي بلغت شهرها العاشر، تنطلق شرارات مقلقة من البلقان، تلك المنطقة الواقعة في جنوب شرق أوروبا والمثقلة بتاريخ النزاعات بين عوالم الجبابرة السابقين والحاليين. ويسجل التاريخ أن شرارة الحرب العالمية الأولى انطلقت من البوسنة التي شهدت في العقد الأخير من القرن العشرين - على خلفية انهيار الاتحاد اليوغوسلافي وقبله الاتحاد السوفياتي - حرباً قاسية مدمّرة لم تندمل جروحها ولم تنته تداعياتها بعد.
من هذه التداعيات قيام دولة كوسوفو في قلب صربيا، وإعلان استقلال هذه المنطقة ذات الغالبية الألبانية عام 2008 واعتراف 101 من أصل 193 دولة أعضاء في الأمم المتحدة بها، فيما تعتبرها بلغراد مجرّد مقاطعة ذات حكم ذاتي.
حصل أخيراً توتر مفهوم هو ليس الأول بين الصرب المقيمين في مدينة ميتروفيتشا بشمال كوسوفو وجيرانهم الألبان، فالجانبان لا يتبادلان الودّ تاريخياً منذ أيام خضوع تلك البلاد للسلطنة العثمانية، وصرب المدينة (حوالى 12 ألف نسمة من أصل 85 ألفاً) المقيمون في شطرها الشمالي لا يعترفون بدولة كوسوفو بل ببلغراد وسلطاتها ورموزها. ويعتبر هؤلاء وسائر الصرب بمن فيهم صرب البوسنة، أن «سلخ» كوسوفو عن صربيا واتفاق السلام الذي أنهى حرب البوسنة (عُقد في قاعدة جوية عسكرية بدايتون في ولاية أوهايو الأميركية يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 1995) ما هما سوى «عقاب أميركي» لصربيا السلافية القريبة روحياً وعرقياً من روسيا.
تصاعد التوتر في ميتروفيتشا بين متظاهرين مسلحين من الصرب وشرطة كوسوفو بسبب خلاف حول لوحات تسجيل السيارات. وفي ضوء التراشق بالأسلحة النارية ونصب الصرب حواجز بين أحيائهم والأحياء الألبانية، أمر الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش بوضع قوات الجيش والشرطة في حالة تأهب قصوى تحسباً لقيام قوات كوسوفو بمهاجمة الصرب.
بطبيعة الحال، لا تتعلق حقيقة الأمر بلوحات تسجيل سيارات، ففي البلقان شريط الذكريات والانقسامات طويل وقاسٍ، وعود الثقاب المفجِّر يمكن أن يكون أي حادث مهما كان صغيراً. ولا شك في أن هذه المنطقة التي يُرجَّح أن اسمها ذو جذور تركية (المعنى الأكثر تداولاً هو «الجبال الحرجية») تؤثر بحكم جغرافيتها ومكوّناتها على محيطها الأوروبي وجوارها الآسيوي.
رئيس صربيا ألكسندر فوسيتش (أ.ب)
*غرب البلقان
في السادس من ديسمبر الجاري، عُقدت في العاصمة الألبانية تيرانا قمة بين الاتحاد الأوروبي ودول بلقانية مرشحة للانضمام الى التكتل، هي ألبانيا، والبوسنة، وكوسوفو، والجبل الأسود، ومقدونيا الشمالية وصربيا. وبالطبع لا يفوتنا القول إن كرواتيا البلقانية بامتياز هي بالفعل عضو في الاتحاد الأوروبي.
كان تركيز رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال على تقريب هذه الدول من «فلسفة» الانتماء إلى الاتحاد، وهو أمر دونه عقبات لعلّ أكبرها العلاقة الوثيقة بين بلغراد وموسكو التي تمثل مشكلة كبيرة راهناً في ظل الحرب الأوكرانية والموقف المعروف للاتحاد الأوروبي منها.
وعندما سئل الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش عن العلاقة مع روسيا والخيار الأوروبي، أجاب أن بلاده هي «على طريق الاتحاد الأوروبي» لكن عليها أيضاً «الدفاع عن مصالحها الخاصة... هل صربيا قريبة جدا من روسيا؟ صربيا دولة مستقلة».
لا شك في أن بروكسل تسعى من خلال محاولة احتضان الدول التي شاركت في القمة إلى إيجاد استقرار لطالما افتقدته منطقة جنوب شرق أوروبا. وفي هذا السياق، يحضّ قادة الاتحاد الأوروبي نظراءهم في البلقان على اعتماد معايير الاتحاد في ما خص حكم القانون، والتوافق مع سياساته في شؤون كثيرة بما في ذلك الهجرة. وهنا يقول الاتحاد إن أنظمة إصدار التأشيرات الفضفاضة في العديد من دول البلقان ساعدت في زيادة عدد المهاجرين غير القانونيين الذين يعبرون الحدود إلى دوله.
ويرى «وزير خارجية» الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أن على دول البلقان أن «تجري إصلاحات رئيسية وأن تُظهر الإرادة لاحتضان الطموح والروح الأوروبيين. هناك دول تقوم بذلك لكننا نرى في الوقت تردداً».
ليست المسألة في الواقع مسألة قوانين وطموح وروح، فكيف سيقنع بوريل والمسؤولون الأوروبيون الآخرون الرئيس الصربي بشرعية وجود دولة كوسوفو وشرعية رئيستها فسويا عثماني؟ كيف يقتنع الصرب بخسارة منطقة تضم أقدم أديرتهم الأرثوذكسية؟ وكيف يمحون من ذاكرتهم أن قوات حلف شمال الأطلسي (ناتو) قصفتهم قبل عقدين من الزمن لإجبارهم على وقف حملة عسكرية لمكافحة التمرد في كوسوفو؟
رئيس الوزراء الألباني إيدي راما ورئيسة كوسوفو فوسيا عثماني في تيرانا (أ.ف.ب)
*الفتيل البوسني
لا تزال البوسنة والهرسك تعيش حالة من الاستقرار الهشّ منذ نهاية الحرب في هذه الجمهورية اليوغوسلافية السابقة التي يتقاسم أرضها الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك والبوشناق المسلمون. والسبب الأول للتوتر هو التعايش الصعب بين الكيانين الرئيسيين: اتحاد البوسنة والهرسك وعاصمته ساراييفو، وجمهورية صرب البوسنة وعاصمتها بانيا لوكا.
ومعلوم أن زعيم صرب البوسنة ميلوراد دوديك هو في الواقع زعيم حركة انفصالية تغيب مظاهرها حيناً وتطفو على السطح أحياناً. وهذا الأمر مستمر منذ العام 1995 حين تم التوصل إلى السلام «الأميركي» الذي يعتبر الصرب أنه عاقبهم وظلمهم وأن عليهم الانتفاض يوماً ما وتصحيح «الخطأ».
في حقيقة الأمر أن المراقب الموضوعي يرى أن اتفاقات دايتون لم تنجح في معالجة الانقسامات العرقية في البوسنة، ولم تضع آلية لإزالة آثار التطهير العرقي الدموي الذي شهدته حرب البوسنة وإعادة العيش الواحد إلى مكوّنات البلاد.
ثمة من يقول إن الأولوية يومذاك كانت وقف النزف الفظيع والقتال المرير. وثمة من يرى أن عرّاب الاتفاقات شاء إبقاء اللغم جاهزاً في تلك الأرض «البركانية» بناء على حسابات جيوسياسية بعيدة المدى.
زعيم صرب البوسنة ميلوراد دوديك (رويترز)
على جانبي هذا الانقسام في الرؤية، تعتقد روسيا ومؤيدوها أن الغرب يريد إضعاف موسكو عبر خاصرتها الصربية، فيما يخشى الغرب بقيادة واشنطن أن تهزّ موسكو استقرار منطقة أوروبية حساسة بغية توسيع نفوذها على غرار ما تحاول فعله منذ ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 وقيام «جمهوريتين» انفصاليتين في دونيتسك ولوغانسك وصولاً إلى إطلاق «العملية العسكرية الخاصة» في أوكرانيا يوم 24 فبراير (شباط) 2022.
وسط هذا المشهد، يبذل الاتحاد الأوروبي جهداً لتجاوز الانقسام عبر الوعد البراق بمنح دول البلقان بطاقة هوية التكتل وضخ الاستثمارات التي تحتاج إليها هذه الدول. وهناك من يعتبر أن نجاح قمة تيرانا في تضمين إعلانها الختامي إدانة صريحة لروسيا في حرب أوكرانيا بوجود رئيس صربيا ألكسندر فوسيتش وممثلة الصرب في المجلس الرئاسي البوسني زيلكا سفيانوفيتش، هو نجاح في الخيار الأوروبي وتمتين للاستقرار في منطقة البلقان الحساسة.
غير أن هذا الجهد ليس في نظر مراقبين كثر كافياً على وقع الحرب في أوكرانيا وقلبها الكثير من الموازين التي كانت قائمة ما قبل 24 فبراير الماضي، خصوصاً أن آلية الانضمام إلى الاتحاد بطيئة بطبيعتها ومعقّدة بشروطها وتتطلب سنوات.
من هنا يجدر النظر إلى منطقة البلقان بكلّيتها على وقع المواجهة الكبرى المتسارعة بين روسيا والغرب في أوكرانيا، فإذا استمرت المواجهة ومعها فرز مناطق السيطرة والنفوذ، لا بد أن يشتد الصراع على البلقان من خلال المناطق التي لم تحسم إلى أي معسكر تريد الإنتماء. وهنا تبرز أهمية المنطقتين الأكثر حساسية، كوسوفو ومحيطها الصربي، وجمهورية صرب البوسنة... فإذا توسّع الاشتباك بين صرب ميتروفيتشا وجيرانهم، قد تكبر دائرة التصعيد وتصبح «المسألة الصربية» باباً لتفجير لا تُحمد عقباه.
مشكلة صربيا وكوسوفو وفتيل التفجير في منطقة البلقان
مشكلة صربيا وكوسوفو وفتيل التفجير في منطقة البلقان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة