وما أدراك ما الإدراك؟!

الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)
الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)
TT

وما أدراك ما الإدراك؟!

الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)
الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)

ما الإدراك؟! ما كُنهُهُ...؟! ما حقيقته؟ ما أماراته؟ ما أثره؟! هل تعريفه مسألة حاكمة في حياة الإنسان على الأرض... أم أنها تهويمات فلسفية لا بأس بها أن تقبع في رؤوس أصحابها أو في دوائر الجدل المرسل وتظل هناك بلا أمل يرجى أو بأس يتقى؟!
ما مدى محورية تعريفه في توجيه حياتنا أخلاقياً واجتماعياً ودينياً واقتصادياً وقانونياً وسياسياً؟! هل يستطيع أو استطاع أحد أن يقطع بتعريف كنه الإدراك؟ هل هو الملاحظة؟ هل هو المشاهدة... والقدرة على الرصد؟
هل هو القدرة على التمييز اللوني أو البيولوجي؟ هل هو الشعور والقدرة على التقييم؟ هل هو المعاناة؟
البحث في كنه الإدراك ليس قضية علمية أو فلسفية وكفى... ولا ينبغي لها أن تكون... لأنها قبل ذلك قضية ذات أثر عميق مباشر على توجهاتنا واختياراتنا وقراراتنا القانونية والسياسية وقبلهما الأخلاقية.
فمن قطع أو أراد أن يقطع بأن الإدراك هو الملاحظة أو القدرة على الرصد... فإن كاميرا التصوير الفوتوغرافي والسينمائي قادرة على الملاحظة والرصد...!
ومن أراد الإدراك هو القدرة على التمييز... فإن عدسات المراقبة الإلكترونية المزودة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي قادرة وبدقة فائقة على تمييز الأوجه البشرية وتفاوت الألوان والملامح، ومدى تطابق أو اختلاف صور الكائنات والمخلوقات من جماد وحيوان وإنسان.
ومن ظن أن الإدراك هو الشعور والحساسية والقدرة على التقييم... فإن ترموستات الحرارة قادر بلا خطأ أن يشعر بدرجة الحرارة ويقيمها ويسجلها... ومرة أخرى بربطه بخوازميات لتحليل البيانات يستطيع أن يقدم رأياً داعماً في صنع القرار عن التغير المناخي وتداعياته على المستوى البيئي... وفي سياق الاختراق الصناعي والميكنة في حياة البشر - من أبسط الآلات المنزلية اليومية، إلى وسائل انتقالهم، إلى المدن الهائمة في الفضاء من المحطات المدارية ومركبات الفضاء - يستطيع أن يصدر أحكاماً قاطعة عن حال تلك الآلة وقدرتها على الأداء.
إن علم القياس والتحكم قائم على الرقائق الإلكترونية ذات القدرة على القياس والتعيير... ولكن الرقائق بحساسيتها الفائقة تبقى قطعاً صماء أصلها من رمل.
أما الآن وفي الفتح الإنساني الجديد في علم الذكاء الاصطناعي... ونحن ننتقل وبسرعة مذهلة بين عالمين في ذاك المجال... من تكنولوجيا الجيل الخامس إلى تكنولوجيا الجيل السادس في أقل من خمس سنوات من الآن... والفارق لو تعلمون عظيم...!!
فإن كانت تكنولوجيا الجيل الخامس هي ما أفاض علينا فتوحات علمية معروفة بإنترنت الأشياء وذروة سنامها السيارات ذاتية القيادة... وخوارزميات تحديد توجهات الرأي والاختيار لدى البشر بناء على سلوكهم الرقمي على هواتفهم وحواسيبهم وغيرها، إلى درجة التنصت على ما ينبس به الإنسان من بنت شفة حول أمر بعينه، فيتحول إلى كلمة مفتاحية لتلك الخوارزمية، التي ما تلبث أن تمطر هاتفه وحاسبه بمئات الإعلانات والمعلومات عن ذاك الموضوع الذي قاربه في حوار أسَرّ به لبعض أصحابه، أو حدث به نفسه ولكن بصوت عالٍ... إلى تكنولوجيا الجيل السادس وفتح الآلات ذاتية التعلم، التي ستجعل القسمة في المستقبل القريب ليست بين بشر أذكى وبشر أقل ذكاء... ولكن بين آلات مهيمنة بذكائها وبشر ينافح محاولاً أن يبقى على قدرته على منافستها في بعض مجالات عمل يزاح منها بالكلية... ولتتحول مأساة البشر من المعاناة من الاستغلال... استغلال البشر للبشر... إلى فقدان الدور والهامشية في الحياة.
وعليه... فإن قضية الإدراك وكنهه ستكون هي القضية الحاكمة أخلاقياً وقانونياً وسياسياً...!
فهل السيارة ذاتية القيادة... وهي القادرة على الرصد والتوقع ورد الفعل والمناورة في كل ما يواجهها في مسارها... كائن مدرك واعٍ... أم كائن أصم؟ على أي قاعدة فلسفية وأخلاقية نسن قانوناً يجرم أو لا يجرم ما ينتج عن حادث تسببت فيه تلك المركبة ذاتية القيادة فحطمت أو أصابت أو قتلت...؟! من نعاقب وعلام وعلى من يحتسب المجتمع لكي يقر العدل...؟
تلك الخوارزميات التي ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل في ضوء كلمة مفتاحية أو كلمات تنم عن موضوع ما... على من نحتسب إن هي أضلت وساقت طفلاً أو مراهقاً أو حتى رجلاً أو امرأة كاملي النضج، فأودت بهم أو بمقدراتهم أو بثرواتهم أو بحياتهم... ممن يقتص المجتمع... وعلى أي قاعدة عدل يحيا...؟
في وسط هذا التيه، أتت المقاربات الفلسفية نحو تعريف كنه الوعى والإدراك على وجه من ثلاثة أوجه...
أولها... يقرر أن معرفة كنه الوعى والإدراك أمر مستحيل، ولن يستطيع العقل البشرى سبر غوره على أي نحو كان. ثانيها... يقدم قائمة من التصورات القاصرة - أسلفناها - على كون الوعي والإدراك هما المشاهدة المجردة أو الملاحظة غير المنحازة وغير المؤهلة لإصدار أحكام، أو البعد الشعوري والتقويمي للملاحظة... وقد أثبتنا قصورها بل تهافتها بما سقناه من أمثلة.
ثالثها... وأكثرها منطقية... هو ما يؤكد أن «الإدراك هو صنو المعاناة»... فالمعاناة النفسية أو الجسدية هي عنوان الإدراك ودلالته ومنطلقه وأثره... ولكن يبقى لهذا الوجه تحديان واجبا النقاش.
فمن ساقوا هذا الوجه لتعريف الوعي والإدراك... وقد لا يجانبهم الصواب في بعض أطروحتهم... حين يدللون على استقامة طرحهم بأن ما يفرق بين البشر والآلة القادرة على الرصد والمشاهدة أو تلك القادرة على قياس الحرارة... هو مردود ذلك على البشر وعلى إنسانيته... ما يفرحه وما يحزنه... ما يسوؤه وما يؤلمه... وما يشد عضده... ما يوجعه... ما يخيفه... ما يطمئنه... ذاك ما يجعل من الإنسان فاعلاً سياسياً وأخلاقياً... وإلى هنا قد لا نختلف في كثير.
ولكن ما يذهب إليه بعض من هؤلاء بُغيَة تغريب الوحي أو تضحيل دوره في تسيير حياة البشر وترقيها... بأنه، وإن جزمنا بأن الوعي هو صنو المعاناة... وأن المعاناة ليست بالضرورة هي الوجع، ولكنها رغبة الإنسان في تغيير واقع ما إلى واقع أفضل... قد يكون من واقع ألم ووجع إلى واقع مهادنة وسكون... أو من واقع رحب جيد إلى واقع أكثر رحابة وجودة... أو إلى إحراز متعة حسية ونفسية على نحو ما... فإن مصدر تعريف الأفضل والأجود وما يورث السكينة وما يورث النعيم والمتعة، هو ما فيه الاختلاف...!
فإن أتى تعريف الاستقامة والاعوجاج، في قديم من وحي السماء (أو هكذا كان يظن القدماء في زعم هؤلاء المحدثين)... فما لبث أن حلت سلطة الدولة محل السلطة الإلهية... وأخيراً فقد صار ما يقرر طبيعة المعاناة ونوع النجاة منها لا وحي السماء ولا سلطة الدولة ولكن سلطة الضمير الفرد.
والضمير الفرد هو ما يقرر إلى أي مدى يكون الفعل آثماً أو صالحاً بمدى المعاناة التي يوقعها بغيره... ويذهب هؤلاء إلى صك ما يسمونه «جرائم اللاضحايا»...!
ففي عرف هؤلاء، المثلية والشذوذ الأخلاقي مثلاً... هما فعل اختيار وتراض لا يخرج أثره (في عرفهم) معاناة على أي نحو إلى المجتمع... فهو فعل بين أطرافه... وبمثلها أي جريمة يعدها الوحي (الدين) أو العرف أو سلطة الدولة جرائم، في حين أن ضمير فرد يستطيع تصنيفها في إطار جريمة اللاضحية (أي جريمة لا ضحايا لها)... فهو فعل طبيعي مستقيم... بل مستحسن...!!
وينطلق هؤلاء إلى «تعريف الوعي والإدراك على كونه القدرة على المعاناة»... ويكون إنفاذ أثره سياسياً وأخلاقياً وقانونياً على نحو ما ينتهى إليه الضمير الفرد... وقد تسرب هذا الفهم ولم يزل إلى كثير من القضايا الكبرى التي تزلزل المجتمع الإنساني برمته وتنذر بسوء عاقبة.
قد لا نختلف مع من يذهبون إلى أن الوعي والإدراك ظاهره هو صنو المعاناة... ولكن ما نجزم به أن جوهره ما زال وسيظل مستغلقاً... ففهمنا لمنشأ المعاناة ومدرج نضجها وتعاظمها وما تمليه على النفس من أثر سيظل تعريفه من ضروب المستحيل.
لأن كل ما يقارب حقيقة لماذا تنشأ المعاناة... ولما تتعاظم في نفس وتهون في أخرى... وكيف تكون أطوارها في نفس واحدة لشخص واحد تأرجحاً بين التسامي والانحطاط بين النفس الأمارة بالسوء... إلى النفس اللوامة... إلى النفس الزاهدة المطمئنة... هو من أمر الروح...!
وهو ما قدره أن يبقى مستغلقاً علماً وفلسفة إلى أن يكون أمر ربي بإزالة الحجب.
ألم نقل إن العلم والوحي والفلسفة هي قوائم استقرار الفكر الإنساني... في تكاملها تمام نضجه وترقيه... وفي إقحام تنافر بينها إقحام لعنت إنساني ثقيل، وهدر لأعمارها سدى.
فَكرُوا تَصحُوا...
* كاتب ومفكر مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!