تحدي العقلانية وتطور العقل

زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)
زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)
TT

تحدي العقلانية وتطور العقل

زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)
زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)

يستبطن الفكر الإلحادي مسلَّمة أساسية، هي أن الاعتقاد الديني نتاج وعي بدائي، وأن تطور العقل ينطوي بالضرورة على تجاوز الإيمان، حيث يسود تصوُّر عن مباراة صفرية تدور رحاها بين الدين والعلم؛ فلا بد أن يختفي الأول تماماً مع التطور الفائق للثاني، ونجاحه في تأسيس سلطته الواسعة على مفهوم الحقيقة. وفي اعتقادنا أن ذلك الفهم لا يعدو أن يكون اختزالاً يضيِّق من أفق الوعي الإنساني، لأن المفاهيم المجردة والقضايا المعنوية، كالإيمان الروحي، هي ثمرة عقل متطور بالفعل، على عكس العقل البدائي الذي يقتصر إدراكه على الخرافي والمحسوس. دليلنا على ذلك أن صيرورة ارتقاء العقل البشري تكاد ترتبط بانتقاله من إدراك الوقائع الصلبة عبر الحواس الخمس إلى إدراك اللامرئي وغير المحسوس، وهي صيرورة تشبه كثيراً ارتقاء الفرد، ممثِّلاً للنوع الإنساني، حيث يبدأ الوعي الطفولي بإدراك المحسوس قبل المفاهيم المجردة؛ فحياة كل إنسان منا بمثابة تكرار لقصة النوع البشري.
إنها الصيرورة نفسها التي تواكب تقدمنا الحضاري؛ فالآلات التي نستخدمها، كالسيارة مثلاً، تتطور وظائفها نحو زيادة الأمان والسرعة والدقة في سياق يتوازى مع تطور المواد المستخدمة في صنعها من الحديد الصلد الذي يصعب تشكيله، إلى لدائن البلاستيك والمطاط التي تمنح الصانع مرونة وقدرة فائقتين على تشكيل جسم السيارة. والكومبيوتر الذي بدأ ضخماً يحتل منضدة كبيرة أخذ يصغر حجماً في اتجاه يتوازى مع تعقُّد وظائفه وتنامي قدراته، حتى صار «لاب توب» ثم محمولاً صغيراً في الجيب واليد. وهذا ما يمكن قوله على كل وسائل الاتصال، التي يتوازى تطورها وزيادة كفاءتها مع صغر حجمها وضيق الحيز المخصص لها. وعلى المنوال نفسه ينسج مفهوم القوة الذي تطور من استخدام جيوش ضخمة، مع مستوى أقل من الفعالية، إلى تشكيلات أقل حجماً مع قوة نيران أكبر وفعالية أدق، مروراً بالأسلحة فائقة التطور، التي تعمل بكفاءة متناهية عبر التوجيه الإلكتروني، وصولاً إلى مفهوم القوة الناعمة الذي ينتهج وسائل تأثير غير مرئية من الأصل، اقتصادية وثقافية وفنية، تتغلغل في بنية علاقات الدول، لتمارس الجذب والإغواء بديلاً عن القسر والإرغام.
هكذا تدلنا عشرات الأمثلة على أن حركة التقدم التاريخي هي محض انتقال من إدراك الكثيف والضخم والصلب إلى الخفيف والصغير واللين في صيرورة ارتقاء تكاد توازي الحركة من الأرض إلى الفضاء الكوني، أي من الكتلة المادية التي تحوي ما هو صلد، كالوديان والجبال والرمال، إلى الفضاء الذي يحوي موجات الأثير وتسبح فيه الكواكب والأجرام، إلى التفكير في المطلق والسعي إلى تصور عوالم المافوق والمابعد، وتلك هي مكونات عالم الغيب، الذي لا يمكن بلوغ كنهه بيقين، أو الإمساك به عبر الحس، ولكن يمكن تعقله وتصوره. ومن ثم ارتبطت مسيرة ارتقاء الدين بتنامي قدرة الإنسان على تصور إله مطلق، خالق، قادر، صنع الكون ولا يزال يسيّره من دون أن يكون محايثاً له أو مرئياً لنا، أي قدرة العقل على التمثل والتجريد. وعلى هذا، فإن العلاقة العكسية التي تضمرها الصيغة اليعقوبية/ الراديكالية من التنوير الأوروبي بين العقل والإيمان في مقابل علاقة شبه طردية بين العقلانية والإلحاد، ليست إلا اختزالاً لمفهوم العقل نفسه، نتحفظ عليه بأمور ثلاثة أساسية:
أولها: اختزال التجربة الدينية في الفضاء الأوروبي، وفي الكنيسة الكاثوليكية تحديداً، باعتبارها الأكثر تمثيلاً لادعاءات الدين في ترسيم معالم الحقيقة، حيث أنتج الكتاب المقدس، عبر التأويلات الرجعية له، إبستيمولوجيا كونية تتسم بآفات، كالتحديد الدقيق، والطابع المغلق، كان طبيعياً أن تصطدم بالنظريات العلمية الحديثة، المنفتحة على الجدة والنسبية، خصوصاً نظريات من قبيل: مركزية الأرض، والتطور، وعمر الكون، والطوفان، الأمر الذي أنتج صراعاً حدياً بين منطق العلم الجديد، ورؤية الكتاب المقدس، التي افتقدت الإحكام المنهجي. والمؤكد أن ما جرى في السياق المسيحي - الأوروبي، لا يمكن تعميمه على الفضاء الإنساني كله؛ فلم يجرِ ما يشبهه في نطاق الدين الطبيعي/ الآسيوي، رغم ما قدَّمته الديانات الهندية، خصوصاً الفيدية والبرهمية، مثلاً، من تصورات للزمان تعتمد مفهوم الدورة الكونية ذات العمر المحدد؛ لأن عمر تلك الدورات كان طويلاً جداً، يُعدّ بملايين السنين، على نحو جعلها أقل صداماً مع الرؤية العلمية. ورغم وجود بنية كهنوتية في الهندوسية تحكمت في النظام الاجتماعي وطبقاته الأربع التي يعلوها البراهمة، فلم تكن هناك سلطة بطريركية تشبه الكنيسة الكاثوليكية، ترعى نظرية علمية ما وتسعى إلى فرضها كحقائق أبدية. ولعل المثال الأكثر دلالة، يأتي من داخل الإسلام، الذي يخلو نصه التأسيسي تقريباً من أي نظريات علمية حول الطبيعة والتاريخ والإنسان، وإن أشار إلى آيات كونية، اعتُبِرت محض تنبيهات تدلل على الحقيقة الإلهية، من دون صياغة منهجية صارمة تضفي عليها انغلاقاً ذاتياً، وتضعها في دائرة الصراع مع أي حقيقة علمية يمكن اكتشافها. ولعله صحيح؛ أن مسيرة العلم العربي قد توقفت عن التطور منذ القرن الثالث عشر الميلادي على أكثر تقدير، ولكن ذلك الجمود يجد تفسيراته في ملابسات سياسية، وليست اعتقادية.
والأمر الثاني هو الدور الذي لعبه مفهوم التوحيد في ترقية الوعي الإنساني وتجهيزه للثورة العلمية الحديثة؛ ذلك أن التصور التوحيدي عن إله خالق يحكم الكون بقوانين كلية ومتسقة وضرورية، دفع البشرية خطوة مهمة على طريق العلم التجريبي الذي لم يكن ممكناً إلا انطلاقاً من مبادئ أنطولوجية كهذه تنهي التفسيرات الأسطورية والسحرية للعالم؛ فمعها لم يعد خلق العالم نتاجاً للصراع بين الأبطال والجبابرة، ولم تعد الطبيعة كائناً حياً تسكنه الأرواح الخيرة أو الشريرة، ولا ظواهرها الكبرى، كالشمس، والفيضان، والأنهار، والأمطار مسكونة بآلهة وثنية صغيرة تتحكم فيها على حدة، أو يديرها ساحر (شامان) يلهث خلف النذور والقرابين، مدعياً قدرته على القيام بأعمال سحرية يتحكم من خلالها في حركة العالم، وأقدار البشر على نحو يفضي إلى تجزؤ معمار الكون، وتفتت قوانين الطبيعة. هكذا مثل الوحي التوحيدي، بإزالته السحر القديم، ومنطقه الفوضوي، والأرواحية، ونزعتها التجزيئية، من قلب ظواهر الطبيعة، وفي المقابل تأكيده على مفهوم الإله الخالق والكون المخلوق والطبيعة المسخرة، محطة أساسية على طريق العقلنة الحديثة، فمع انتصار التوحيد لمفهوم الإله المطلق، انتصر في الوقت نفسه لكلية وشمول القوانين العلمية، ومن ثم قدم الأساس الأنطولوجي للتقدم العلمي.
والأمر الثالث هو أن الدور الأساسي للدين يتمثل في تقديم رؤية شاملة للوجود تبرر الحياة والموت، تلهم المعني وتومئ إلى المصير، لا تقديم رؤية معرفية للعالم، أي أنه غير معنيّ أصلاً بمنهجية دراسة وتحليل الظواهر الجزئية، الطبيعية أو الاجتماعية، من قبيل صوغ الفروض النظرية التي يتعين إثباتها أو نفيها، أو وضع المقدمات الضرورية التي تنطلق منها العمليات الاستدلالية، وصولاً إلى نتائجها المنطقية. وهكذا من قضايا علمية ومنهجية، وصفية أو تحليلية، ينأى عنها الدين، لأنها مرهونة بالعقل الإنساني وتطوره عبر التاريخ. يؤكد على فهمنا هذا حقيقة أن لا خصوصية دينية في دراسة الظواهر الطبيعية، القائمة على الملاحظة والتجريب، تبرر ربط منهج ما بعقيدة دينية معينة؛ فأمام الظاهرة الطبيعية وداخل المعامل والمختبرات لا خصوصية لباحث مسلم قد يذهب بعد نهاية عمله ليصلي في مسجد، أو لباحث بوذي في فريق العمل ذاته قد ينصرف إلى ممارسة النيرفانا واليوغا، أو لباحث ثالث يهودي قد يذهب إلى المعبد ناهيك بالمسيحي الذي ربما ذهب إلى الكنيسة. ولعل هذا الفهم يتوافق مع مذهب الحقيقتين لدى ابن رشد، ومع الفلسفة النقدية في ذروتها الكانطية، التي تؤكد على أن للمعرفة والإيمان طريقين مختلفين فعلاً، لكنهما غير متناقضين حتماً.
* باحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.