لن تفارقك أحداث فيلم «سكة طويلة» حتى بعد انتهائك من مشاهدته لنحو 90 دقيقة. أحداثه المثيرة والمشوقة التي تدور في الصحراء على أطول طريق مستقيم في العالم ستسكنك. تحاول الإفلات من الفيلم متنقلاً بين شرائط سينمائية أو مسلسلات درامية أخرى على منصة «نتفليكس» التي تعرضه، لكن مشاهده تلتصق بأفكارك ككابوس انتهيت من هاجسه للتو. إلى هذا الحد نجح كاتب ومخرج الفيلم عمر نعيم في حياكة فيلمه، واضعاً فيه خبراته السينمائية السابقة، ولكن بجرعة حِرفية أكبر.
«سكة طويلة» أو(Route 10) ، هو من نوع أفلام الطريق التي لا انطباعات كثيرة يمكن أن تمارسها عليك، فإما تحبها وتتابعها حتى النهاية بشغف، وإما تغادرها منذ بدايتها دون أسف للملل الذي تحدثه عندك. وفي «سكة طويلة»، وهو من بطولة الممثلين السعوديين براء عالم وفاطمة البنوي، وإنتاج «إم بي سي» و«إيماجينايشن»، ستدرك منذ لحظاته الأولى أنه من الصنف الأول.
يحكي الفيلم قصة شقيقين «مريم» (فاطمة البنوي) و«ناصر» (براء عالم) المسافرين من الرياض إلى أبوظبي لحضور حفل زفاف والدهما (عبد المحسن النمر). وإثر إلغاء رحلة سفرهما من قبل شركة الطيران، يضطران إلى أن يسلكا طريق البر بناء على نصيحة والدهما. فهو طلب منهما أن يسلكا الطريق السريع «10» الذي يوصل السعودية بأبوظبي ويستغرق نحو 8 ساعات. من هناك تبدأ أحداث الفيلم المثيرة والتي لا تقتصر على الأكشن والتشويق فقط. فكاتب العمل ومخرجه عمر نعيم (نجل نضال الأشقر وفؤاد نعيم) رغب في أن يتضمن الشريط الخط الدرامي المحبوك بإتقان. فعلاقة الأخوين ليست جيدة، وكذلك الأمر بالنسبة لعلاقتهما مع والدهما. وبين البوح والطاعة والتمرد ومراجعة الحسابات العائلية واكتشاف فساد الأب، يأخذنا الفيلم إلى منحى العلاقات الإنسانية، في حين يترك مساحة لجرعات قليلة من الطرافة وأضعافها بكثير من الانتقام والأكشن. فيمارس عليهما عدو مجهول كل أنواع التعذيب، ويلاحقهما طيلة الطريق بسيارته بهدف القضاء عليهما بأي وسيلة.
لم يسبق أن دخلت السينما العربية عملاً من نوع أفلام الطريق. فجاء «سكة طويلة» ليفتتحها بقوة وبدعم من «إم بي سي» بالتعاون مع «إيماجينايشن» العالمية. صحيح أن الفيلم ترفيهي، لكنه يحمل رسالة مباشرة عن العلاقات العائلية المهدمة.
عندما كتب عمر نعيم قصة الفيلم تخيل أحداثه، فرسم حبكته على هذا الأساس. ويقول: «أول فكرة راودتني كانت قريبة من فيلم (بانيك روم) لدايفيد فينشر. بمعنى أن أحداثه تدور في مكان واحد يغلفه الغموض والإثارة معاً. عندها بدأت الكتابة بحيث لا تقتصر أحداثه على سباق السيارات وارتطامها وانقلابها فقط؛ إذ أردتها أن تدخل أعماق المشاهد وتلامسه عن قرب».
وهل وضع نعيم كل طاقته وخبراته في هذا الفيلم؟ يرد: «إلى حد ما، ولكن ليس كلياً؛ إذ أتمنى أن أقدم فيلماً سينمائياً من نوع آخر أبرز فيه طاقات أوسع. هو الأول لي من نوع أفلام الإثارة القائم على السيارات (ستانز فيلم). لطالما حلمت بتحقيق واحد منها منذ نعومة أظفاري، فوضعتها في الإطار الذي تصورته مع شخصيات تشبهنا. كما لعب حضور البطلين وأداؤهما المحترف دوراً رئيسياً في فتح شهيتي على هذا العمل. فالتناغم بين المخرج وأبطال العمل ينعكس إيجاباً على الشريط ككل. ولإنجاز هذا النوع من الأفلام يلزمه تمويل واهتمام من شركة إنتاج عربية ترغب في دخول مغامرة مشابهة. وهو ما وجدته عند (إم بي سي) و(إيماجينايشن). فعندما قرأتا الورق وافقتا، ولا سيما أنهما رغبتا في تسليط الضوء على هذا الطريق السريع والمستقيم الأطول في العالم».
جرى تصوير الفيلم في عام 2020 في عز انتشار جائحة «كوفيد – 19». ودارت كاميرته على مدى 20 يوماً متتالياً بحيث كان على طاقم العمل أن يتحرك من الفندق في الرابعة فجراً للوصول إلى الصحراء بعد نحو 90 دقيقة. واستعان المخرج بتفاصيل صغيرة كي يطبع الفيلم بالهوية السعودية الخليجية: «هناك رمزيات استخدمتها كي يلامس عن قرب المرأة والرجل الخليجيين عامة والسعوديين خصوصاً. هناك مترجم سعودي تسلم مهمة تحويل نص الفيلم من الإنجليزية كما كتبته إلى العربية، فأضاف النبض الخليجي المطلوب عليه».
واستعان نعيم برموز خليجية كي يبلور فكرته الدائرة بين شقيقين سعوديين متباعدين. وفكر بما يمكن أن تحمله المرأة في حقيبة يدها ليدل على انتمائها الخليجي، ويمكن أن يتحول إلى سلاح تدافع به عن نفسها في الوقت نفسه. ووجد في المكحلة العربية النحاسية ذات الرأس المسنن مراده. وكي تصل الفكرة إلى الغربيين شرحت «مريم» لشقيقها فوائد هذا الكحل الذي يحمي العينين من تلوثها بالغبار. وكذلك عرّج على الخنجر كسلاح مشهور في الخليج منذ القدم. واختاره ليكون الهدية الفخمة التي حملها الابن معه في الرحلة كي يقدمها لوالده بمناسبة حفل زفافه، ونراه يستخدمه لشلّ حركة عدوه لفترة عندما ينقض عليه هذا الأخير في أحد مشاهد الفيلم.
يتناول الفيلم العلاقات العائلية، فتطل من حواراته، لتكون استراحة محارب، ونتابع من خلالها كيفية إعادة بناء علاقة شائبة بين شقيقين لعبت غطرسة والدهما دوراً فعالاً في تشققها وتصدعها: «هناك رمزية للأم وأخرى للأب تمثلتا في قارورة الكحل والخنجر. وكذلك حضرت عملية البوح والفضفضة بين الأخوين بحيث اكتشفا أي نوع من العلاقات الأبوية السيئة يعيشان. ولذلك نرى في نهاية الفيلم خروج الشقيقين عن عباءة الأب، وبدل تقديم فرض الطاعة له ينقلبان عليه بقرار حاسم يعلنانه له وجهاً لوجه».
طيلة الفيلم نتابع أحداثاً مشوقة بحيث لا يستطيع مشاهدها تركها لبرهة. تجذبنا ملاحقات وسباقات سرعة السيارات وسط صحراء قاحلة. ومرات أخرى نشعر برمال الصحراء تلامس وجهنا، ودماء شرطي المرور تنثر على ملابسنا. تصرخ وتحاكي نفسك وتتفاعل لا شعورياً مع البطل ضد العدو الغامض الذي يهاجم الشقيقين. تتعاطف مع البطلين وتحاول بدورك إعطاءهما الأفكار للتخلص منه. وضمن الحبكة التصاعدية للأحداث يصل الأمر بالمشاهد إلى أن يسهم في كبح فرامل السيارة التي يقودها «ناصر». فمرة يشد على دواستها فوق قدمي البطل الحافيتين طيلة الفيلم. ومرة أخرى يسانده في ترك العنان لها كي يقضي على مهاجمه تحت إطاراتها، فيضغط عمر نعيم على مكابح إنسانيتك لتشعر أنك واحد من الممثلين في الفيلم، وتشارك في الدفاع عن نفسك.
ويصف عمر نعيم انطباعاته عن صحراء السعودية: «المكان جميل جداً يسوده الهدوء والسكينة بحيث يلزمك أخذ وقفة مع نفسك. وهو ما انعكس بوضوح على علاقة الشقيقين ببعضهما بحيث راجعا شريط حياتهما بدقة واكتشفا ثغراتها. فاكتشاف النفس هو العنوان الرئيسي الذي تزودك به الصحراء، كما حصل لأبطال الفيلم. فالعراقيل في علاقتهما آلت إلى ولادة التلاحم بينهما».
عمر المولود في الأردن يكن للصحراء مكانة مهمة. وفي صحراء السعودية امتداد حتى إمارة أبوظبي؛ إذ استعاد هذه الحوارات الروحانية العميقة معها. ويعلق: «أغرمت بالصحراء أكثر وبرمالها الذهبية ونسماتها المنعشة؛ إذ جرى التصوير في شهر فبراير (شباط) حيث الهواء العليل يسيطر على أجواء الطقس. ومرات حلقت بكاميرتي في فضاء مشهدية الصحراء الجميلة كي أنقل ألوان تلال تحيط بها تتبدل حسب أشعة الشمس».
بعض اللقطات من الفيلم أخذت في الرياض، وأخرى في أبوظبي بحيث تعيدنا إلى المدنية والحياة الطبيعية بعيداً عن الصحراء.
لا ينكر اللبناني عمر نعيم المقيم في أميركا، تأثره بسبيلبرغ وهيتشكوك؛ لذلك حاك قصة مركزة لا ضياع فيها. ويختم: «الأهم في أفلام من هذا النوع ألا تبحر الكاميرا في وحل الضياع. فالأجدر أن يتم تحديد الهدف منذ البداية، فيتم تطريز الأحداث حوله بإتقان».