تنظر باريس بكثير من الاهتمام إلى «زيارة الدولة» التي سيقوم بها الرئيس الفرنسي من 29 نوفمبر (تشرين الثاني) إلى الثاني من ديسمبر (كانون الأول)، إلى الولايات المتحدة الأميركية، بدعوة من نظيره الأميركي جو بايدن. ولم تبخل مصادر قصر الإليزيه، بمناسبة تقديمها للزيارة، في استخدام تعابير التفخيم بأن هذه الزيارة هي الثانية من نوعها التي يقوم بها ماكرون بعد زيارة أولى في عام 2018 زمن الرئيس السابق دونالد ترمب، كما أنها أول زيارة دولة في عهد خلفه بايدن الذي نسج معه الرئيس إيمانويل ماكرون علاقة قوية بعد الفتور الذي اعتراها خريف العام الماضي. وللتذكير، فإن سبب الفتور المباشر يعود لنقض أستراليا «صفقة القرن» المبرمة مع باريس عام 2019 بتخليها عن عقد شراء 12 غواصة فرنسية الصنع لصالح غواصات أميركية - بريطانية تعمل بالدفع النووي. وأكثر ما آلم باريس، إضافة إلى الضرر المادي لخسارتها صفقة بـ52 مليار دولار، أنها استبعدت عن التحالف الاستراتيجي الثلاثي الذي ضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وغرضه الوقوف بوجه التمدد الصيني في منطقة الهندي-الهادئ، حيث وجود مصالح استراتيجية رئيسية لفرنسا. إلا أن ذلك كله طوي نهائياً وأعيد وضع العلاقات الثنائية على سكة التطوير وتعزيز التقارب، وتأتي هذه الزيارة لتكون تتويجاً لها.
ويصل ماكرون إلى واشنطن، مساء الثلاثاء المقبل، مصحوباً بوفد وزاري ونيابي كبير، إضافة إلى شخصيات فاعلة في القطاعات الاقتصادية والمالية والعلمية والثقافية. وأُعد لماكرون برنامج حافل يتضمن لقاء عائلياً في إطار عشاء خاص للثنائي بايدن - ماكرون وعقيلتيهما، وسيوفر لهما الفرصة للبحث في الملفات الرئيسية بعيداً عن الشكليات.
وكما في زيارات الدولة، سيحظى ماكرون باستقبال رسمي في البيت الأبيض مع إطلاق 21 طلقة مدفعية، واستعراض حرس الشرف وزيارة مقبرة أرلنغتون، ثم عشاء رسمي موسع ليل الخميس في البيت الأبيض بحضور مئات الأشخاص. وسيعقد الرئيسان بعد اجتماعهما مؤتمراً صحافياً مشتركاً. وقبل ذلك، ستتاح الفرصة لماكرون للتحدث للوسائل الإعلامية الأميركية، وأن يلتقي الجهات الفاعلة في قطاعات الطاقة النووية والأنشطة الفضائية والتغيرات المناخية والبيئة والتمويل المتجدد، بحضور نائبة الرئيس كمالا هاريس. وسيكون ماكرون ووزراؤه ضيوف الشرف في وزارة الخارجية بحضور هاريس ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، حيث سيكون التركيز على المسائل الخارجية. كذلك سيزور ماكرون الكونغرس الأميركي ويلتقي أعضاء من مجلسي (الشيوخ والنواب)، وتنتهي زيارته في مدينة نيو أوليانز وولاية لويزيانا التي باعها الإمبراطور نابليون الأول في عام 1803 إلى الولايات المتحدة حتى لا تقع بأيدي الإنجليز.
- فرصة لتعزيز التشاور والتنسيق
بيد أن أهمية زيارة ماكرون لا تكمن فقط في رمزيتها، وفي أنها تشكل «اعترافاً» أميركياً بأهمية العلاقات الثنائية مع باريس، إذ ترى فيها مصادر الإليزيه «فرصة لتعزيز التشاور وتنسيق السياسات»، إنْ في كيفية التعاطي مع الصين أو في رؤية تتمات الحرب الروسية على أوكرانيا، فضلاً عن النظر في كيفية مواجهة تبعاتها من على جانبي الأطلسي على صعيدي الطاقة وإعادة تنشيط الاقتصاد، والمحافظة على المنافسة الشريفة بين الاقتصادين الأميركي والأوروبي. ويتخوف الجانب الأوروبي من الخطة الأميركية الواسعة لدعم الاقتصاد الأميركي التي يرى فيها تهديداً لصناعاته؛ إذ من شأنها أن تصيب التنافس المتكافئ بين الطرفين. وقالت مصادر الإليزيه إن ما يزيد من أهمية هذه المسألة أن الاقتصاد الأوروبي يعاني أكثر من الاقتصاد الأميركي من تبعات الحرب في أوكرانيا. كذلك بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اختلاف في الرؤية لكيفية التعامل مع الصين التي ترى فيها واشنطن تهديداً استراتيجياً لها بفضل إمكانياته المتزايدة في كافة القطاعات، بما فيها العسكري.
وقالت مصادر الإليزيه إن الأوروبيين «يسعون لإيجاد أسس التعاون مع الصين والولايات المتحدة، إلا أنهم يقفون على مسافة واحدة من الطرفين؛ إذ إنهم حلفاء أميركا وشركاء الصين». بيد أن هذا الواقع لا يمنع المصادر الرئاسية من تأكيد أن الأوروبيين «لا يستطيعون اتباع السياسة الأميركية» الصدامية مع الصين رغم «تفهمهم» لرغبة واشنطن في البقاء «زعيمة العالم».
ومرة أخرى، يشدد قصر الإليزيه على رغبة الأوروبيين في تحقيق «السيادة الأوروبية». ويدعو ماكرون منذ انتخابه للمرة الأولى في عام 2017 إلى ما يسميه «الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية» التي تطور مفهومها بحيث لم تعد بديلاً عن المظلة الأميركية، ولا الحلف الأطلسي، بل إلى جانبهما.
بيد أن الصين ستكون مادة للتباحث من زاوية ثانية، وتتناول الدور الذي يريد الغربيون وعلى رأسهم ماكرون أن تلعبه في وضع حد للحرب الروسية على أوكرانيا. وقالت مصادر الإليزيه إن الرئيس الفرنسي طلب من نظيره الصيني الذي التقاه مؤخراً في بالي بمناسبة قمة العشرين، أن «يمارس نفوذه على بوتين من أجل وضع حد للحرب». وتضيف هذه المصادر أن الصين عضو دائم في مجلس الأمن، ويتعين عليها التزام واجباتها للمحافظة على السلم العالمي. وتعتبر باريس ومعها أكثرية أوروبية أن «وزن الصين» والعلاقة الوثيقة التي تقيمها مع روسيا وحاجة موسكو لها وتأييدها النسبي لبوتين، تمكنها من أوراق ضاغطة على الرئيس الروسي الذي يعيش عزلة سياسية ودبلوماسية لم يعرفها سابقاً، وأن بكين قادرة على لي ذراعه. وطلب ماكرون من رئيس الوزراء الهندي، في المناسبة عينها، أن يقوم بالدور نفسه لدى بوتين.
تشدد مصادر الإليزيه على توافق الرأي والمواقف بين باريس وواشنطن إزاء الحرب الأوكرانية ومآلاتها. ويرى الطرفان أن نهاية الحرب «لا يمكن أن تحصل إلا على طاولة المفاوضات، وفي التوقيت والأهداف التي يختارها الأوكرانيون أنفسهم». ويرى الطرفان أن حلاً كهذا يجب أن يحافظ على سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها.
وكانت عبارة لرئيس الأركان الأميركي الجنرال مارك ميلي أثارت ردود فعل وعلامات استفهام، حيث شكك قبل أسبوعين في قدرة القوات الأوكرانية على تحرير كامل الأراضي التي سيطرت عليها روسيا بقوة السلاح، ما فهم على أنه ضغوط على كييف لقبول الجلوس إلى طاولة المفاوضات. كذلك ثمة تساؤلات من جانبي الأطلسي حول المدة الزمنية التي ستبقى الحرب خلالها مشتعلة، وتكلفتها المادية على الأوروبيين والأميركيين، ومدى «تعب» من كونها لن تنتهي في أمد قريب. لكن الموقف الرسمي للطرفين يقوم على أن المطلوب اليوم هو استمرار الدعم الاقتصادي والعسكري لأوكرانيا، وتوفير الوسائل التي تمكنها من مقاومة الضغوط الروسية التي تشمل استهداف البنى التحتية المدنية (مياه، طاقة، كهرباء...). أما متى تنطبق المفاوضات، ووفق أي شروط، فيعود تحديدها للأوكرانيين وليس لأي طرف آخر. وأشار الإليزيه إلى أن الاتصال المرتقب بين ماكرون وبوتين «لن يحصل» قبل الزيارة إلى واشنطن، وأن الأمرين «غير مترابطين».
- إيران ولبنان
يبقى من بين المسائل الساخنة ملفان إقليميان: إيران من جهة، ولبنان من جهة ثانية. وفي الملف الأول، يرى الطرفان أن أداء طهران بالغ الخطورة ليس فقط بسبب تحللها من التزاماتها في إطار الاتفاق النووي، وآخرها تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 في المائة في موقع فوردو ونشر طاردات مركزية أكثر حداثة، والقمع الدموي الذي تمارسه في الداخل، بل أيضاً بسبب مشاركتها في الحرب في أوكرانيا عبر توفير الأسلحة للقوات الروسية ومنها المسيرات، فضلاً عن مؤشرات لبيع صواريخ أرض-أرض لروسيا. وسبق لمصدر دبلوماسي فرنسي أن حذر قبل يومين طهران من تفعيل آلية «سناب باك» التي تنص على نقل الملف النووي إلى مجلس الأمن الدولي وإعادة تفعيل العقوبات الدولية إذا لم تحل خلافها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
أما بالنسبة للبنان، فباريس وواشنطن «متفقتان على الدعوة للإسراع في انتخاب رئيس للجمهورية سريعاً، ولكن أيضاً تشكيل حكومة جديدة (بعد الانتخابات الرئاسية) تكون مهمتها تنفيذ الإصلاحات التي أصبحت معروفة، والتي أقرت في المؤتمرات التي رعتها فرنسا وضمنت الاتفاقية المبدئية بين صندوق النقد الدولي والحكومة اللبنانية، وكلها خطوات مطلوبة من أجل توفير الاستقرار والأمن والازدهار للبنان. وينتظر اللبنانيون الكثير من هذا اللقاء، خصوصاً أن فرنسا تلعب دوراً بارزاً في مساعيها؛ لتوفير نوع من التوافق الدولي حول الانتخابات وهي على تواصل مع كافة الأطراف في الداخل والخارج.
وكان مصدر دبلوماسي أشار قبل يومين إلى أن فرنسا «ما زالت الدولة الوحيدة التي تواظب على دفع الأسرة الدولية للاهتمام بالملف اللبناني»، وتساءلت عن «الجهة التي يمكن أن تقوم بهذا الدور في حال توقفت باريس عن أدائه». ويبذل ماكرون ومعه الخلية الدبلوماسية في القصر الرئاسي، إضافة إلى وزيرة الخارجية كاترين كولونا والسفيرة في بيروت، آن غريو، جهوداً على عدة مستويات لتحريك الملف الرئاسي العالق في مجلس النواب، ما يفاقم التبعات المترتبة على استمرار الفراغ في أعلى مؤسسة دستورية في لبنان والذي قارب الشهر. وتحولت باريس إلى محطة إلزامية للمشاورات الرئاسية، وآخر من قصدها رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل. وثمة اعتقاد رائج أن باريس تتحرك باسم الاتحاد الأوروبي وبموافقة أميركية، وتفاهم مع المملكة السعودية. فضلاً عن ذلك، فإن باريس على تواصل مع كافة الأطراف في الداخل اللبناني وفي الخارج، بما في ذلك «حزب الله» وإيران.
ملفات ساخنة في «زيارة الدولة» لماكرون إلى واشنطن
تشمل حرب أوكرانيا والطاقة والمواجهة مع الصين والتعاون الأوروبي ـ الأميركي وإيران ولبنان
ملفات ساخنة في «زيارة الدولة» لماكرون إلى واشنطن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة