بالنسبة لأنسيلم كييفر، ليس هناك مشهد بريء. إذ يرى الفنان الألماني - المولود تحت قنابل الشهور الأخيرة من الحرب العالمية الثانية - في كل شيء دورة من الخراب والانبعاث. إذ دائماً ما يخرج من بين الغبار والركام شيء ما. وهنا في «لاريبوت»، الضيعة مترامية الأطراف في جنوب فرنسا، حيث عاش وعمل لمدة 15 عاماً، خلق كييفر متاهة من هواجسه في صورة أكثر من 70 عملاً مثيراً للإرباك مثبتة في مختلف الأنحاء.
الأبراج المائلة المصنوعة من حاويات السفن المهملة تتحدى الجاذبية في إرسال الظلال إلى الأحواض المتموجة. والمدرج الكبير، المُعلق ببقايا بكرات الأفلام المتلاشية، هو نصب تذكاري للإمكانية والانحلال، من شرفاته العليا المملوءة بالضياء إلى الأنفاق المتخمة أسفل المسرح. أزهار عباد الشمس المجففة، والكتب المصنعة من الرصاص، هي تيمات متكررة لعالم يتوه في أشباه الظلام ما بين الحياة والموت.
قال لي كييفر في مقابلة: «إذا لم يكن هناك موت، فلن نكون. إنها الطريقة التي تحدد هويتنا. وإنني لأفكر في هذا الأمر، ولكن ليس بطريقة سقيمة. حتى في حالة نشوب حرب نووية»، كما تابع قائلاً: «حتى لو مُحيت البشرية عن بكرة أبيها، فستكون هنالك بكتيريا في نهر جليدي بمكان ما، حيث يبدأ تطور جديد. كل شيء عبارة عن تدفق غير خطي، كمثل خيمياء العناصر. لقد جمعتُ في أعمالي بين المعاصرة وأعماق التاريخ».
وقد أسفر تطوره الذاتي في لاريبوت، موضع مصنع الحرير السابق، حيث عاش كييفر مع عائلته من 1992 إلى 2007، عن نشوء مستوطنة غير محتملة من المباني والسرادقات التي لا يسكنها الناس وإنما الأعمال الفنية. تمتد هذه الضيعة على ما يقرب من 100 فدان، وتتصل بجسور المشاة والممرات تحت الأرض، طبقاتها أشبه ما تكون بالحفريات الأثرية، وقد فُتحت للعامة أول مرة خلال العام الحالي. وصارت الآن معرضاً دائماً، يُفتتح سنوياً من مايو (أيار) إلى أكتوبر (تشرين الأول).
بلغ كييفر درجة من التمجيد المثالي ببلوغه السابعة والسبعين من عمره. وهو واحد فقط من اثنين من الفنانين الأحياء ممن لهم عمل معروض في متحف اللوفر، إذ صدر إليه التكليف من الرئيس إيمانويل ماكرون عام 2020 لإنشاء عمل فني مُثبت الآن في البانثيون. وهو يحظى بشرف كبير في فرنسا، حتى إن صحيفة «لوموند» أشارت العام الماضي، إلى أنه صار قاب قوسين أو أدنى لأن يصبح الفنان الرسمي للبلاد. وفي الولايات المتحدة، حيث تعاظمت شهرته عبر عقود من الزمان، افتتح هذا الشهر عرضان تحت عنوان «الخروج» في صالات «جاغوسيان» في نيويورك ولوس أنجليس.
مع ذلك، غالباً ما يلقى استخفافاً غريباً في موطنه الأصلي بألمانيا. الواقع أن هناك شيئاً ما في استِجلاء كييفر غير المتوقف لما سماه «الدقة المريعة» لآلة القتل النازية، هناك أمر ما يتعلق بانهماكه البحثي الدؤوب في سبر منطقة الشفق الشاسعة ذات الغطاء الرمادي المفعم بالسواد، أمر أشبه بعشقه لما سماه الكاتب الفرنسي بيير كورنيل: «ذلك السطوع القاتم الهابط من بين النجوم»، أمر قد أثبت لفترة طويلة إزعاجه المتكرر وإحراجه اللاذع إلى الحد الذي جعل الألمان ينكرونه رافضين. وأشار ناقد بصحيفة «دي فيلت» الألمانية ذات مرة قائلاً: «نحن فقط في هذا البلد (ألمانيا) لم ندرك تماماً مرامي ومقاصد ما يحاول أن ينادي به أو يدعو إليه».
أجاب كييفر ذات مرة بقوله: «إنهم غير مترددين في نقد أعمالي، بل إنهم يعارضونها على الدوام. ويقولون الآن إنني فنان عتيق الطراز قد غادرني الزمان»، هز كتفه، كأنه يقول إنها رواية قديمة مبتذلة لم تعد تلفت اهتمامه.
رجل مهووس بالحدود - وما من موضع كان أكثر شرباً للدماء حتى منتصف القرن العشرين من الحدود بين فرنسا وألمانيا - إذ وجد نفسه يتبعثر في المشهد الألماني الذي خلفه وراءه، ومع ذلك لا يزال يحبه، فضلاً عن المشهد الفرنسي الذي وجد فيه حرية العمل. هذه مشاعر قديمة. فعندما كان طفلاً، كان نهر الراين المجاور يغمر قبو بيته، وقد أحب فكرة أنه الآن في فرنسا لأن حدود النهر قد تغيرت.
قال كييفر كاتباً: «كل حد هو وهم، يُبنى لأجل راحتنا كما يقولون، حتى يمنحنا انطباع المكان المؤكد الواضح، مع أنه ليس هناك ما يُسمى الأماكن المؤكدة».
حتى في أعماله قد تغيرت الأشياء. إذ قال: «اللوحة في أعمالي لا تنتهي أبداً - أبداً. بل إنها تستمر على الدوام. إنني أداوم العمل على لوحات منذ أواخر الستينات لا تزال قابعة في الحاويات». وجاءه سؤال: حتى الموجودة في لاريبوت؟، فأجاب: «حسناً، إنها تعد منتهية فقط لأنني لا أستطيع تغييرها بعد الآن؛ إنها الآن في متحف أو شيء من هذا القبيل».
إن لوحة ألوان كييفر ليست لينة أو مريحة. إن كل ما في الأمر أنها نجمية التأثير، في تذكير بأن هذه الأرض الصغيرة والحياة القائمة عليها تواصل الدوران في فضاءات لامتناهية مفعمة بالغموض. يقول كييفر واصفاً إياها: «عادة ما تبدأ لوحاتي بكثير من الألوان، ثم تُختزل وتتلاشى. أعتقد بأهمية اللون؛ إنه شيء علميّ: فهو يعتمد على أي جزء من المشكال (رسم متعدد الألوان أو منظار متغير النماذج) ينشأ في ذهنك»، ثم توقف برهة ليتابع: «أتظاهر بأن الرمادي عندي هو أكثر ثراء مما لدى مونيه. الرمادي لون مُتخم، أتعرفون ذلك؟ إنه أكثر ثراء، ففيه من الألوان ما ليس في اللون الأحمر الفقير».
الرصاص مادته المفضلة. أخبرني كييفر أن لديه منزلاً قديماً في ألمانيا توجد فيه أنابيب الرصاص، بعضها قديم للغاية، وقد استقدم سباكاً لاستبدالها. ففتنه لون الرصاص، واستفسر من السباك عن كيفيه إسالة الرصاص ولحامه. ثم أوضح قائلاً: «كان لدي مجرد حدس، ثم صار اهتمامي أكثر عقلانية. الرصاص مهم بالنسبة إلى الخيميائي، الذي أراد تحويل الرصاص إلى ذهب».
كان أستاذ الفنون في مدرسة كييفر عضواً سابقاً في قوات «إس إس» النخبوية النازية. وعندما درس كييفر القانون بالجامعة، كان أساتذته من النازيين السابقين. ثم خيّم الصمت المطبق على كل ذلك في ألمانيا لما بعد الحرب الثانية. كانت الحقيقة مخفية. وبعد ذلك، لم يعد باستطاعته الوثوق في ظواهر الأمور، وإنما تعين عليه سبر غور الأشياء.
منذ ذلك الحين، على ما يبدو، كان كييفر يُرغم نفسه إرغاماً، مُستكشفاً حدود الأمور، أو الأشياء التي قد تصرف البشرية أعينها عنها. وقال: «عندما أشرع في رسم لوحة، أدرك في الوقت ذاته أنها عمل فاشل». ثم أضاف: «رغم ذلك، فأنا أرسمها. وأتابع العمل عليها. فقط أتابع».
ثم نظر نحوي وقال: «لا أعتقد أنه يمكنني الخروج برائعة فنية أو تحفة خالدة. فقط لا أستطيع. وإنما أحاول. أدرك أنه لن يحدث».
حقيقة أن كثيراً من الناس قد يختلفون في ذلك لا تهُم كييفر كثيراً. فلقد عاش وفقاً للبوصلة الخاصة بذاته، فحسب.
- خدمة «نيويورك تايمز»