لم تكن آني إرنو Annie Ernaux، مُتوّجة نوبل الأدبية لعام 2022. غريبة عني مُذْ كانت شابة أو بعدما تجاوزَتْ عتبة الشباب بقليل. سمعتُ باسمها كاتبة في الفضاء النسوي وإن كانت كتاباتها ذات خصوصية موغلة في التجارب النسوية الشخصية التي لا أراها تصلحُ لأن تكون كتابة نسوية معيارية في حقل الأدب أو في حقل صناعة السياسات الثقافية. ارتأت «نوبل الأدب» أن تتوّجها عام 2022 بإكليل الكتابة الروائية الممهورة بتوقيع اللجنة النوبلية. ربما سيُحسَبُ في عداد الفضائل المستحقة للقيمين على شؤون نوبل الأدب أنهم اختاروا اسماً كان مطروحاً على قوائم الأسماء المرشّحة لنيل الجائزة منذ سنوات عديدة؛ ولم يأتونا باسم غريب أو دخيل على الصنعة الأدبية.
كنتُ قرأتُ لإرنو قبل تتويجها بالجائزة النوبلية كتابين أو ربما ثلاثة؛ لذا لم يكن من سبيل أمامي سوى قراءة أعمالها المترجمة إلى العربية. أجّلتُ كلّ انشغالاتي الكتابية والترجمية وانكببتُ على أعمال إرنو بجدّ وانضباط مثلما يفعلُ أي تلميذ مجتهد ومن غير انطباعات مسبقة أو أحكام متحيزة. كُتُبُ إرنو صغيرة محدودة الثيمات الروائية، وهي مما يمكنُ قراءة الواحد منها في جلسة ممتدة واحدة. ليس ثمة من تعقيدات أسلوبية أو نزوع نحو المثابات الفكرية العالية لديها؛ بل حتى عناوينُ أعمالها قصيرة مختزلة، وهذا ليس مثلبة؛ إذ يمكنُ أن يكون علامة إجادة واحتراف. قرأتُ لإرنو في الأيام اللاحقة لفوزها بنوبل الأدب أعمالها التالية: الاحتلال، المكان، شغف بسيط، امرأة، الحدث، مذكرات فتاة.
لم تعُدْ نوبل الأدب التي عرفناها من قبلُ كما كانت. صارت نوبل أخرى هجينة وغريبة على ذائقتنا الأدبية وهواجسنا الفلسفية ومثاباتنا الفكرية العالية. الدنيا صارت غير الدنيا التي نعرف: هذا صحيح بالطبع وهو أحد طبائع التطوّر البشري؛ لكن ليس كلّ تغيّر ارتقاءً نحو الأعالي المتقدمة نوعياً عمّا سبقها. ذهب جيلُ المعلّمين الكبار الذين تشرّفتْ نوبل بأن حفرت أسماءهم على لوائحها، كانوا أساطين أدب على شاكلة هرمان هسّة وغابرييل غارسيا ماركيز ودوريس ليسنغ، انقلبت الرصانة الأدبية ملاعبة خفيفة للأفكار من بعيد تحت قناع أدب ما بعد الحداثة أو ما بعد الحقيقة، واستحالت الدسامة الفلسفية حفراً في تراكمات السيرة الشخصية التي قد لا تعدو أكثر من حفنة وقائع عادية يمكنُ أن تحصل لكثيرين منّا. أليس هذا توصيفاً دقيقاً لأعمال آني إرنو المتوّجة على عرش نوبل الأدبية لهذا العام (2022)؟ أنا أحسبه كذلك.
دعونا ننطلق في رحلة فكرية متخيلة. هل كان يمكن لآني إرنو أن تقطف جائزة نوبل الأدبية قبل خمسين أو أربعين أو حتى عشرين عاماً؟ هل تكفي شجاعتها وجرأتها في الكشف عن مناطق شديدة الغور من حياتها الشخصية لأن تحوز نوبل الأدب؟ متغيراتٌ كثيرة لحقت بنوبل وجعلتنا نفقدُ حماستنا السابقة في التطلّع إلى من سيفوز بها كلّ سنة كما كنا نفعلُ في سنوات سابقات. صار أمرُ الجائزة والفائز بها يمرُّ بنا وكأنه إعلانٌ يومي عابر من الإعلانات التسويقية التي صارت تنهمرُ علينا مثل شلال لا يتوقف.
ربما الخصيصة الوحيدة التي لا تكاد نوبل الأدبية تفارقها هي دورانها في مدارات الثقافة الغربية. قلتُ: الثقافة الغربية ولم أقل الأدب الغربي ؛ لأنّ أباطرة نوبل شاءوا توسيع تخوم مملكة الأدب فضمّوا لها أقاليم من ألوان ثقافية شتى كانت كتابة أغاني البوب واحدة منها. إنه بعضُ سمات التجديد الذي أرادته نوبل الأدب.
يؤكّد أباطرة نوبل الأدبية أنّ المعيار الأساسي في الجائزة هو الجدارة الأدبية Literary Merit. لن أقتنع يوماً - وأحسبُ كثيرين يشاركونني قناعتي هذه - أنّ آني إرنو أعلى قيمة أدبية من مارغريت آتوود أو ميلان كونديرا أو هاروكي موراكامي أو إيزابيل ألليندي. المقارنة غير واردة بأي مقياس من المقاييس. ربما سيقول هؤلاء الأباطرة أنهم يرون غير ما نرى، ولو فعلوا فأحسبهم سيتّكئون على قاعدة الذائقة الذاتية للأدب، وتلك مخاتلة بيّنة لأنّ الميزة الذاتية لا تنفي التميّز الحِرَفي والصنعة المجوّدة في الكتابة.
لنحاول المقارنة بين أني إرنو وروائي وروائية من مجايليها المعاصرين. لنقارن بين إرنو وإيزابيل ألليندي أولاً رغم أنني أرى أنّ المقارنة ستذهبُ بعيداً في تسجيل نقاط مستحقة لصالح ألليندي. بدأت ألليندي صنعتها الروائية المتميزة من ثلاثيتها الروائية المبهرة «بيت الأرواح - صورة عتيقة - ابنة الحظ»، ثمّ واظبت في الارتقاء بتلك الصنعة في كتابها الدراماتيكي «باولا» عن روايتها «الحب والظلال» وروايتها التي لا تنسى «أناييس حبيبة روحي» التي أرّخت لاحتلال الإسبان للقارة الأميركية الجنوبية. لم تتوقف ألليندي عن إدهاشنا برواياتها ومذكّراتها، وأشيرُ بخاصة إلى كتابيها الأثيرين «بلدي المخترع» وكتاب مذكراتها «حصيلة الأيام».
لم تتخلّ ألليندي يوماً عن خريطة مشروعها الكبير في تقديم صورة بانورامية عن مجتمعات أميركا اللاتينية وأوضاعها السياسية والنزعة الذكورية التي تسم السلطة السياسية بجميع أطيافها حتى أفقر مزارع في مزرعة على تخوم حدودها الثلجية؛ لكنها حرصت بوعيها الاجتماعي ورؤيتها النسوية المتبصرة أن تقدّم مجتمع المواطنين الأصليين من القبائل الهندية بكل تقاليده وطقوسه وأساطيره وموروثه الثري، الذي حرسته النساء وحفظنه بما يمارسنه من أعمال وأساليب علاج ونسيج وغناء.
يمكنني القول أنّ إيزابيل ألليندي هي روائية عالمية باستحقاق كامل؛ فهي - إضافة لسحر لغتها وجموح خوضها في تفاصيل شخصياتها النسوية والذكورية برؤية أنثوية قل نظيرها في المشهد الروائي العالمي - تواصل تدوين تاريخ القارة اللاتينية في معظم رواياتها؛ ولكنها تكتبه كمن يدير قطعة كريستال ذات ألف وجه مضيء، وكلُّ وجه يكشف عن وقائع ساخنة ممتعة وجامحة حد السحر.
لنحاول الآن مقارنة إرنو مع روائي، وسأختارُ هاروكي موراكامي. ربما كان سبب اختياري لموراكامي أنني شرعتُ في قراءة كتاب منشور حديثاً له بعنوان الروائي كمهنة Novelist as a Vocation، وهو في الأصل كتاب نُشِر باليابانية عام 2015، ويضمُ مقالات تخصُّ الفن الروائي والرؤى التأسيسية لموراكامي بشأن الصنعة الروائية. أتساءلُ: هل ثمة من مقارنة بين روايات موراكامي البديعة (أذكر بالتحديد كافكا على الشاطئ – الغابة النرويجية) وبين أعمال إرنو البسيطة المستمدّة من تجارب يومية لها؟
تتمظهر السطوة الغربية على الأدب العالمي في سطوة الموضوعات المحببة للمؤسسة الأدبية الغربية؛ إذ منذ اللحظة الأولى التي يدركُ فيها الكاتب أنه يخطط لكي يخاطب جمهوراً عالمياً بدل الجمهور المحلي الذي اعتاده فإنّ طبيعة كتابته ستكون عرضة لتغيير جوهري، ويلحظ المرء بخاصة ميلاً طاغياً للكتّاب لإزاحة كلّ العوائق المحلية المفترضة التي تقف عائقاً أمام الفهم العالمي، ولطالما تردّدت هذه التهمة الأدبية غالباً وأشهِرَتْ بوجه أعمال الكاتب هاروكي موراكامي الذي صار يعتمد لغة تبسيطية موغلة في الاستسهال الأدبي على حدّ زعم مجايليه من الكتّاب اليابانيين الآخرين. ماذا سيقولُ اليابانيون إذن بشأن أعمال إرنو؟
يمكنُ اختصار أمر جائزة نوبل الأدبية بالمعادلة الشرطية التالية: إذا سعيتَ لجائزة نوبل الأدبية يجب عليك أن تتناول موضوعات تبدو عالمية الطابع لكنها تدور في الفضاء الغربي (على شاكلة: الأقليات، التجارب الجنسية الذاتية، التحولات الجندرية، إشكاليات الهوية الذاتية والمجتمعية... إلخ)، وأن تحظى هذه الكتابات بمباركة وتسويق مؤسسات النشر العملاقة. أما إذا فكّرت خارج هذا الصندوق فإنسَ أمر نوبل. لا أحد سيهتمّ لأمرك.
غالت نوبل الأدبية كثيراً في الانحياز لفضاء الأدب الغربي والدوران في أفلاكه. قد تكون بعضُ مسوّغات هذا الانحياز مفهومة؛ لكنها تظلُّ غير مقبولة وتشكّلُ ثُلْمة في نزاهة الضمير النوبلي. هل من مخرجٍ لهذه الإشكالية؟ أقترحُ حلاً لهذه الإشكالية أن تعتمد نوبل الأدب استراتيجية المحاصصة النوبلية الثلاثية إيفاءً بمتطلبات العدالة الجندرية والجغرافية؛ بمعنى أن تتوزّع الجائزة كلّ سنة على ثلاثة أسماء أدبية، واحدة لكاتب، وثانية لكاتبة، وثالثة لكاتب أو كاتبة من الجغرافية الموصوفة بغير الانتماء لعالم الغرب ممثلاً في حواضره الكوسموبوليتانية، ويمكنُ حصرُ هذه الجغرافية في (آسيا وأفريقيا والبحر الكاريبي وأميركا الجنوبية) حصرياً. التسويغ لهذا المقترح واضحٌ: لماذا ينفرد اسم واحد كل سنة بهذه الجائزة بدلاً من اسمين أو ثلاثة مثلما يحصل مع نوبل الأدب أو الفيزياء أو الكيمياء أو حتى (أحياناً) السلام والاقتصاد ؟
نعرفُ العبارة التي تترددُ في أدبيات التنمية المستدامة: تصرّف محلياً، فكّرْ عالمياًAct Locally، Think Globally. يمكن للمخيال الأدبي البشري توظيف هذه العبارة في تناول معضلات قد تبدو غارقة في محليتها لكنها قد توفرُ حلولاً ناجعة لمعضلات ينوء بها الغرب. المؤسسة الأدبية الغربية لا تقبلُ هذا الأمر. قانونها الحاكم هو: تصرّفْ محلياً كما تشاء أنت؛ فكّرْ عالمياً كما نشاء نحنُ!!
هذه هي الجدارة الأدبية التي يريدها القيّمون على نوبل الأدب.
«نوبل الأدب» التي ترى ما لا نرى
الرصانة الأدبية صارت ملاعبة خفيفة للأفكار في عالم ما بعد الحقيقة
«نوبل الأدب» التي ترى ما لا نرى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة