400 سنة على ولادة موليير ولا يزال مثيراً للجدل

موهوب بالترويج وصانع دعاية من الطراز الأول

بدا موليير غير عابئ بالانتقادات والعقليات المتحجرة يشقّ لنفسه أسلوبه الخاص الذي بات من الصعب تجاهله
بدا موليير غير عابئ بالانتقادات والعقليات المتحجرة يشقّ لنفسه أسلوبه الخاص الذي بات من الصعب تجاهله
TT

400 سنة على ولادة موليير ولا يزال مثيراً للجدل

بدا موليير غير عابئ بالانتقادات والعقليات المتحجرة يشقّ لنفسه أسلوبه الخاص الذي بات من الصعب تجاهله
بدا موليير غير عابئ بالانتقادات والعقليات المتحجرة يشقّ لنفسه أسلوبه الخاص الذي بات من الصعب تجاهله

ما الجديد الذي يمكن للفرنسيين أن يضيفوه على معرفتهم بواحد من أكبر أدبائهم وأكثرهم شهرة، وهم يحتفلون بمرور 400 سنة على ولادته؟ ليس الكثير ربما، لكن إعادة قراءة النصوص تفتّح العيون، وتثير الفضول. وهذه الاحتفالية الوطنية الكبرى بأنشطتها المتنوعة، والموزَّعة في فرنسا ودول عدة أخرى، فتحت شهية الباحثين على عدد من الأسئلة. لماذا مِن أصل عشرات المسرحيين الكبار في القرن السابع عشر، نال موليير دون غيره هذه الشهرة التي استمرت إلى يومنا هذا، وأصبح عالمياً بقدر ما هو فرنسي؟ هل عبقريته وحدها تكفي لتفسير انتشار امتدّ إلى أربعة قرون. ثم ما التكتيكات التي كان يتبعها ليعرّف بأعماله ويرفع من نسبة جمهور مسرحه، في زمن لم يكن فيه الترويج بديهياً؟ وهل حقاً له لغة مغايرة؟ وما خصوصية هذه اللغة، كي يقال عن اللغة الفرنسية إنها «لغة موليير»، على غرار «لغة شكسبير» للإنجليزية أو «لغة غوتة» للألمانية؟
ثمة رأي يقول إن موليير تمكَّن من جذب انتباه معاصريه بفضل مهاراته الترويجية الكبيرة، وليس فحسب بفضل عبقريته المسرحية والأدبية الفذّة؛ فهو لم يكتفِ بموهبته الأدبية، ولم يركن إلى علاقته الوثيقة بالقصر الملكي، والدعم الذي كان يتلقاه بفضل عمل والده في البلاط، بل نوّع أساليبه ليشعل الفضول حول مسرحياته، ويشعر من يسمع عنها بأنه لا بد أن يراها.
يبدو أن مهارته في الترويج لأعماله كادت تضاهي موهبته المسرحية، إن لم تفُقْها.
كان من المفترض، لو سارت الأمور بشكلها الطبيعي، أن يصبح موليير الرجل الذي يُعِدّ سرير الملك، بعد أن يرث مهنة والده مُنجِّد القصر. لكن موليير درس المحاماة ومارسها بضعة أشهر، والتقى عام 1642 بمادلين بيجار، التي أحبّها وتغيرت معها حياته، وشكّل مع أخويها وآخرين فرقة. كان في الحادية والعشرين من عمره، حين أنشأ جان باتيست بوكلان، الذي سيُعرف فيما بعد باسم موليير، مع أصدقائه هذه الفرقة المسرحية، التي لم تسجل في البداية نجاحاً يُذكر. كافحت الفرقة، وكدّ موليير الذي أصبح مديراً لها ليُبقيها على قيد الحياة. فرجال الدين يترصدون الأعمال المسرحية، ويطلقون الأحكام القاسية إلى حدّ التكفير، وثمة عروض تُمنَع وتُرمى بالتهم القاتلة. كل ذلك والمسرح الإيطالي في زهوه، ويجد محبِّين وعشاقاً له في أسبانيا وفرنسا، وصولاً إلى البلاط الملكي الفرنسي الذي كان يستقدم الفِرق الإيطالية ويستمتع النبلاء بعروضها، ومنها استوحى الفرنسيون وتعلَّم موليير.
سرعان ما أفلست الفرقة، وتراكمت عليها الديون وتسبَّب ذلك لموليير بالحبس عدة مرات. وللخروج من الأزمة أعادت الفرقة تشكيل نفسها وقررت أن تترك باريس عام 1646. بدأ موليير مع شركائه جولات في المناطق، لكنه اصطدم مرة أخرى بمضايقات رجال الدين وتحريضهم الذي لا ينقطع، في هذا الوقت كان قد بات متمكناً من معارفه المسرحية، وأخذ يكتب النصوص ويمثلها.
عاد هو وحبيبته بيجار مع فرقتهما إلى باريس عام 1655 وبعدها بثلاثة أعوام مثّلت الفرقة في البلاط مأساة كورني «نيكوميد» ولعب موليير الدور الرئيسي فيها، وتبِعها بملهاة أشعلت إعجاب الملك. وبعد تردد في الانخراط بالأعمال الكوميدية، وجد نفسه متورطاً في المزيد منها، في حين كان التقدير للأعمال الدرامية وليس للمضحكين والساخرين؛ من الممثلين والكتّاب.
أولى نجاحاته الكبرى كانت سنة 1659 بمسرحيته «المتحذلقات السخيفات»، وهي مسرحية هزلية عن أسرة فرنسية ريفية قادمة إلى المدينة، حديثة النعمة، حاملة معها العُقد والعناية بالتفاهات. ترفض الأسرة المتقدمين لابنتيْهما للزواج، بأساليب رخيصة ومُهينة، لكن هذا ينقلب على العائلة حين يرسل العرسان من ينتقم من الفتاتين.
سعد الملك وهو يتفرج على المسرحية، لكن متحذلقات المجتمع غضبن من موليير، ووُجهت له الانتقادات والاتهامات، إلا أن هذا لم يمنع نجاح العمل؛ فهو طريف وقريب من القلب، ملابس الممثلين غريبة وغير مألوفة، النص رشيق ومضحك، والممثلون يتحركون بحيوية وخفة، لم تكن معهودة على المسرح بعدُ.
بدأ موليير، غير عابئ بالانتقادات والعقليات المتحجرة، يشقّ لنفسه أسلوبه الخاص، الذي بات من الصعب تجاهله.
بالعودة إلى الترويج الذي أسهم في ذيوع صيته، فإن وجوده في القصر منذ كان عمره 15 عاماً، أسهم في تقريبه من النافذين الذين غالباً ما دعّموه وحموه، وموّلوه، ووفّروا له أماكن العرض. ولما كان من المتاح له أن يعرض في القصر، فقد تواجد في المكان الأفضل لإيصال أعماله بالسرعة القصوى، إلى الطبقة التي تُعنى بالمسرح، مدعوماً بمكانة والده، وما له من معارف وتاريخ مع هذه الطبقة الباذخة. ويُروى أن موليير كان من الدهاء بحيث يدفع لكَتَبة المقالات ليتناولوا أعماله بأقلامهم، ولا يهمُّه إن كان ما يسطّرونه ذماً أم مدحاً، ما يعنيه دائماً هو أن يبقى اسمه متداولاً، وأخباره على ألسنة الناس.
لم يمانع موليير أن يتواجد نُسّاخ في صالة العرض، يسطّرون نصوصه عن ألسنة الممثلين، يكتبونها ويبيعونها، ولو أن ذلك كان يجري دون إذن منه إو إفادة مادية تعود عليه؛ فهو بذكائه اللمّاح عرف أنها إحدى الطرق الناجعة للتعريف بأعماله وتحقيق مزيد من الانتشار.
مع مسرحيته «مدرسة الزوجات» التي قدّمها عام 1662، وانتقد تقاليد اجتماعية راسخة، وسطوة الرجل على المرأة، اكتسب المزيد من الشهرة. فقد أثار الضجيج حوله بسبب السخط والغضب الذي دائماً ما يرى فيهما فرصة لترسيخ اسمه وإبقائه متداولاً، وتلك كانت إحدى غاياته. وللإمعان في تجييش الآراء، أتبع مسرحيته بأخرى تحكي عن الآراء التي جرى تقاذفها حول «مدرسة الزوجات» سمّاها «انتقاد مدرسة الزوجات». وحين لا يكون الاعتراض على مسرحية موليير اجتماعياً، فإنها تُغضب رجال الدين الذين احتجّوا على مسرحيته «طرطوف» وتمكنوا من منعها، بعد أن مثّلها أمام الملك. لكن المسرحي المشاكس كان ينعم في هذه الأثناء بما تتداوله الأقلام عنه ذماً أو مدحاً، وبالطلب المتصاعد على نص المسرحية، في حين لم يتوقف عن تقديم «طرطوف» التي زاد الطلب عليها في الصالونات الخاصة.
تناولت «طرطوف» مشكلة النفاق والتستر بستار الدين، وأولئك الذين يتظاهرون بالتقوى والفضيلة كذباً، أما الأتقياء المخلصون فلا يراد لهم أن يفاخروا بتقواهم، ولا أن يخرجوا على حدود العقل بغيرتهم على مصلحة الدين.
يدور العمل حول شخصية «طرطوف» المُحتال الذي يختبئ بكل ما يضمره من نفاق تحت مظلة الدين وشعارات رنانة خادعة. ومن بين مَن وقعوا في شِباكه أوركون؛ وهو رب عائلة تتكون من أولاد وزوجة وأم وخادمة. يظل طرطوف يهيمن على أوركون بشعاراته حتى تكشف له الزوجة ألمير الحقيقة ويظهر طرطوف على حقيقته أمام الجميع ويلقى جزاءه بالسجن.
بالطبع كان موليير مدعوماً من لويس الرابع عشر ومن نافذين في القصر، ليتمكن من اختراق الصعوبات التي واجهها. فأعماله ابتعدت عن الكلاسيكية، ولم تكن موضع إجماع؛ لخرقها بشكل كبير قواعد الجماليات الكلاسيكية، لذلك لم يُنظر إليه وعلى مدى عقود على أنه كاتب عظيم، بقدر ما اعتُرف به ممثلاً بارعاً. كان لا بد من انتظار زمن طويل كي تجد نصوصه التي كُتبت بنكهة الشعب، وللشعب ومرحه ومشكلاته العميقة، ما تستحقه من تقدير. فخلف الهزل والضحك، تمكّن موليير من رسم كاريكاتيرات شديدة العبقرية. بفضل التضخيم والكاريكاتورية في رسم أبطال أعماله، تمكَّن من أن يظهر ويشرّح عيوب مكامن ضعف بشرية تصعب رؤيتها دون وضع الشخصية تحت مجهر التكبير.
أُنهك موليير من كثرة العمل، بين متاعبه العائلية مع زوجته، ومشكلاته مع الكنيسة، وإدارته الفرقة، والكتابة التي كانت تأكل أعصابه، وإصراره على لعب دور البطولة في مسرحياته، ووجد نفسه مستنفداً. ليست مصادفة أن تكون مسرحيته الأخيرة هي «المرض الوهمي» التي عرضها عام 1673، وكان قد أصبح ضعيف البنية، متعباً، فقد انتهى به الأمر مريضاً بداء السلّ الذي لم ينجُ منه، وتُوفي بعد أن أدى دوره في العرض الرابع من مسرحيته «المرض الوهمي»، كما انه لم ينج من غضب الكنيسة حتى بالسماح له بأن يموت بسلام، فدُفن ليلاً ودون طقوس أو صلاة على جثمانه، في مدافن للأطفال والمنتحرين، ولم يُنقل رفاته إلى مقابر «بير لاشيز» التي يُدفن فيها كبار أعلام الحياة الفنية والأدبية والسياسية في فرنسا حتى عام 1817.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

الحناء تراث عربي مشترك بقوائم «اليونيسكو» 

الحنة ترمز إلى دورة حياة الفرد منذ ولادته وحتى وفاته (الفنان العماني سالم سلطان عامر الحجري)
الحنة ترمز إلى دورة حياة الفرد منذ ولادته وحتى وفاته (الفنان العماني سالم سلطان عامر الحجري)
TT

الحناء تراث عربي مشترك بقوائم «اليونيسكو» 

الحنة ترمز إلى دورة حياة الفرد منذ ولادته وحتى وفاته (الفنان العماني سالم سلطان عامر الحجري)
الحنة ترمز إلى دورة حياة الفرد منذ ولادته وحتى وفاته (الفنان العماني سالم سلطان عامر الحجري)

في إنجاز عربي جديد يطمح إلى صون التراث وحفظ الهوية، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)، الأربعاء، عن تسجيل عنصر «الحناء: الطقوس، الممارسات الجمالية والاجتماعية» ضمن قوائم التراث الثقافي غير المادي لـ«اليونيسكو» على أنه تراث مشترك بين 16 دول عربية.

ويأتي الملف التراثي نتيجة تعاون مشترك بين وزارتي الثقافة والخارجية المصريتين وسائر الدول العربية التي تعد الحناء من العناصر الثقافية الشعبية المرتبطة بمظاهر الفرح فيها، كما تمثل تقليداً رئيساً لمظاهر احتفالية في هذه المجتمعات وهي: السودان، مصر، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، العراق، الأردن، الكويت، فلسطين، تونس، الجزائر، البحرين، المغرب، موريتانيا، سلطنة عمان، اليمن، وقطر.

وتعقد اللجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي اجتماعاً يستمر منذ الاثنين الماضي وحتى الخميس 5 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، في أسونسيون عاصمة باراغواي، للبت في إدراج 66 عنصراً جديداً رُشحَت على أنها تقاليد مجتمعية، وفق «اليونيسكو».

وذكّرت المنظمة بأن الحنّة (أو الحناء): «نبتة يتم تجفيف أوراقها وطحنها ثم تحويلها إلى عجينة تُستخدم في دق الوشوم وتحديداً تلك التي تتلقاها المدعوات في حفلات الزفاف، وتُستعمل أيضاً لصبغ الشعر أو جلب الحظ للأطفال».

الحنة تراث ينتقل بين الأجيال (الفنان العماني سالم سلطان عامر الحجري)

وعللت «اليونيسكو» إدراج الحنّة في قائمة التراث الثقافي غير المادي بأنها «ترمز إلى دورة حياة الفرد، منذ ولادته وحتى وفاته، وهي حاضرة خلال المراحل الرئيسة من حياته، وترافق طقوس استخدام الحنّة أشكال تعبير شفهية مثل الأغنيات والحكايات».

من جهته أعرب الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة المصري، عن اعتزازه بهذا الإنجاز، مشيراً إلى أن تسجيل الحناء يُعد العنصر التاسع الذي تضيفه مصر إلى قوائم التراث الثقافي غير المادي منذ توقيعها على اتفاقية 2003، بحسب بيان للوزارة.

وأكدت الدكتورة نهلة إمام رئيسة الوفد المصري أن الحناء ليست مجرد عنصر جمالي، بل تمثل طقساً اجتماعياً عريقاً في المجتمعات العربية؛ حيث تُستخدم في الحياة اليومية والمناسبات المختلفة، كما أشارت إلى «ارتباط استخدام الحناء بتقاليد شفهية، مثل الأهازيج والأمثال الشعبية، وممارسات اجتماعية تشمل زراعتها واستخدامها في الحرف اليدوية والعلاجية».

وسلط الملف الذي قُدم لـ«اليونيسكو» بهدف توثيقها الضوء على أهمية الحناء بأنها عنصر ثقافي يعكس الروح التقليدية في المجتمعات المشاركة، وكونها رمزاً للفرح والتقاليد المرتبطة بالمناسبات الاحتفالية وفق الدكتور مصطفى جاد، خبير التراث الثقافي اللامادي بـ«اليونيسكو»، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «تمثل الحناء واحدة من أهم عناصر تراثنا الشعبي، فهي مرتبطة بمعظم مفردات التراث الشعبي المصري والعربي الأخرى؛ وهي وثيقة الارتباط بالنواحي الجمالية والتزيينية، وأغاني الحناء، فضلاً عن الأمثال والمعتقدات الشعبية، والاستخدامات والممارسات الخاصة بالمعتقدات الشعبية، وتستخدم الحناء في الكثير من طقوسنا اليومية، المتعلقة بالمناسبات السعيدة مثل الزواج والأعياد بشكل عام».

الحنة تراث عربي مشترك (بكسيلز)

وأكد جاد أن التعاون العربي تجاه توثيق العناصر التراثية يعزز من إدراج هذه العناصر على قوائم «اليونيسكو» للتراث اللامادي؛ مشيراً إلى أنها ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، وقال: «تثمن (اليونيسكو) عناصر التراث الشعبي المشتركة بين الدول، وقد سبق تسجيل عناصر النخلة، والخط العربي، والنقش على المعادن المشتركة بين مصر وعدة دول عربية؛ مما يؤكد الهوية العربية المشتركة».

وأضاف: «نحن في انتظار إعلان إدراج عنصر آخر مشترك بين مصر والسعودية على القوائم التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي بـ(اليونيسكو) اليوم أو غداً، وهو آلة السمسمية الشعبية المعروفة».

وكانت بداية الحناء في مصر القديمة ومنها انتشرت في مختلف الثقافات، خصوصاً في الهند ودول الشرق الأوسط، حتى صارت ليلة الحناء بمثابة حفل «توديع العزوبية» في هذه الثقافات، وفق عالم المصريات الدكتور حسين عبد البصير، مؤكداً لـ«الشرق الأوسط» أن «الأدلة الأثرية والتحاليل العلمية وثقت دور الحنة باعتبارها مادة أساسية ذات أهمية كبيرة في الحياة اليومية للمصريين القدماء»، وتابع: «بخلاف استخدامها في الأغراض التجميلية مثل صبغ الشعر، فقد تمت الاستعانة بها في الطقوس الجنائزية؛ إذ يعتقد استخدامها في التحنيط، كما كانت جزءاً من الممارسات الروحية لتحضير المومياوات للحياة الآخرة، فضلاً عن صبغ الأقمشة والجلود».

ارتبطت الحناء بالمناسبات والأعياد (بكسيلز)

الفنان العُماني سالم سلطان عامر الحجري واحد من المصورين العرب الذين وثقوا بعدستهم استخدام الحنة في الحياة اليومية، وسجّل حرص الجدات على توريثها للأجيال الجديدة من الفتيات الصغيرات، يقول الحجري لـ«الشرق الأوسط»: «الحنة في سلطنة عمان هي رمز للفرحة، ومن أهم استخداماتها تزيين النساء والأطفال بها في عيد الفطر، حيث عرفت النساء العربيات منذ القدم دق ورق الحناء وغربلته ونخله بقطعة من القماش وتجهيزه، مع إضافة اللومي اليابس (الليمون الجاف)، لمنحها خضاب اللون الأحمر القاتم، وذلك قبل العيد بعدة أيام، ثم يقمن بعجن الحناء المضاف له اللومي الجاف بالماء، ويتركنه لفترة من الوقت، وقبل النوم يستخدمن الحناء لتخضيب اليدين والرجلين للنساء والفتيات».