«خيمة الإبداع» في أصيلة تحتفي بالمفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي

تقديراً لمكانته وإسهامه في التنوير العقلاني والتجديد الفكري

جانب من الاحتفاء بالمفكر المغربي بنعبد العالي
جانب من الاحتفاء بالمفكر المغربي بنعبد العالي
TT

«خيمة الإبداع» في أصيلة تحتفي بالمفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي

جانب من الاحتفاء بالمفكر المغربي بنعبد العالي
جانب من الاحتفاء بالمفكر المغربي بنعبد العالي

احتفت «خيمة الإبداع»، المنعقدة في إطار فعاليات الدورة الثالثة والأربعين لموسم أصيلة الثقافي الدولي، بعبد السلام بنعبد العالي، أحد أعلام الفكر الفلسفي المغربي المعاصر.
وقال محمد بن عيسى، أمين عام «مؤسسة منتدى أصيلة»، في افتتاح هذه الندوة التي توزعتها ثلاث جلسات، إن الاحتفاء ببنعبد العالي يأتي وفاء لما درج عليه الموسم، طيلة سنوات، حين قرر أن يقيم الخيمة، ويجعل منها مناسبة لتكريم نخبة من الشخصيات المغربية والعربية، ذات الفضل والتميز والعطاء، من مفكرين وكتاب ومبدعين، لاستحضار وتمثل الإسهامات القيمة للشخصية المحتفى بها.
ووصف بن عيسى، بنعبد العالي، بـ«الأيقونة المغربية» التي لمعت في المجالين الفكري والفلسفي، وذلك «لما يجسده من تجربة طويلة ومنتجة، في حقل البحث والتأليف الفلسفي والترجمة»، مشيراً إلى أن تكريمه يأتي تقديراً «لمكانته، بوصفه مفكراً طليعياً، ساهم بكثافة في التنوير العقلاني، والتجديد الفكري، وفي تمكين قراء اللغة العربية من الاطلاعِ المستمر عبر ترجماته على أمهات النصوص في الفكر الفلسفي الغربي المعاصر».
ورأى بن عيسى أن ما أسهم به بنعبد العالي، من دراسات فلسفية غزيرة، ومن إنتاج نظري مميز، إنما «يعكس معارفه الواسعة، وقدراته التحليلية اللافتة»، كما «يعكس تمكنه من تقنيات الكتابة الفلسفية، وتملكه المنهجي للقضايا والموضوعات والظواهر التي يتناولها بالدرس والتحليل، وهو ما حقق لاسمه وأعماله مساحات شاسعة من التداول والانتشار، في الأوساط الفكرية وفي منابر الإعلام الثقافي، مغربياً وعربياً».
وخلص بن عيسى قائلاً إن التكريم يأتي اعتزازاً بما بذله المحتفى به، طيلة ما يقارِب نصف قرن، من جهود علمية رصينة، في خدمة البحث الفلسفي بالمغرب وخارجه، تدريساً وتأليفاً وترجمةً.


عبد السلام بنعبد العالي

أشرف على الندوة الكاتب والإعلامي عبد الإله التهاني والشاعر والناقد أحمد زنيبر، وتضمنت مشاركات لنخبة من الكتاب والباحثين المغاربة هم: كمال عبد اللطيف، ومحمد الأشعري، والمعطي قبال، وعز الدين العلام، ومحمد المصباحي، وبوعزة بنعاشر، ولحسن لعسيبي، ونبيل فازيو، وعبد الفتاح كيليطو، ومحمد الحيرش، وعبد العزيز كوكاس، ومحمد آيت حنا.
وتحدث التهاني عن المكانة العلمية المرموقة التي يتمتع بها بنعبد العالي في الجامعة المغربية، ووصفه بـ«الرجل الألمعي»، مثمناً دوره الريادي مع أبناء جيله في تأصيل الدرس الفلسفي في الجامعة المغربية أولاً، ثم ثانياً دوره في إشاعة الفكر الفلسفي خارجها، وعمله الدؤوب والصبور مع زملائه ليجعلوا من الفلسفة مكوناً أساسياً في المشهد الثقافي بالمغرب. كما نجح في أن يتمثل الرصيد التاريخي للمعرفة الإنسانية، وأن يتعامل معها بعقل متفتح ورؤية منفتحة، بخلفية نقدية صارمة.
وحرصت مؤسسة «منتدى أصيلة» على إصدار كتاب جماعي بالمناسبة يضم مقالات عن مسار بن عبد العالي، ويوثق لهذه اللحظة التكريمية.
وخلال الجلسة الأولى، تناول كمال عبد اللطيف، أستاذ الفلسفة السياسية والفكر العربي المعاصر، تجربة بنعبد العالي من زاوية «الكتابة الشذرية والتكثيف الموسيقي»، مشيراً إلى أن في نصوص المحتفى به شاعرية مليئة بالإيقاع تنتظر القارئ الذي يقترب من أنغامها، منتشياً ثم متأملاً ومفكراً، يلجأ في أغلب نصوصه إلى الصور والتصوير.
وتساءل الكاتب والشاعر المغربي محمد الأشعري عن إمكانية أن نتحدث عن مسار بنعبد العالي دون استحضار تلك الكتابة الشفافة الهادفة، التي تبني بيدين صرحاً أدبياً رفيعاً، دون أن يتردد في خلخلة العلاقة بالأفكار الجاهزة منها والمبتكرة، وفي خلخلة اللغة التي يكتب بها؛ مشيراً إلى أنه يفعل ذلك بواسطة الشذرة، يومئ إلى وجهة ويعول على شهية القارئ لابتلاع المسافات.
من جهته، تحدث المعطي قبال، الكاتب والصحافي والمترجم، عن بنعبد العالي باعتباره «معلمة فكرية»، لعبت «دوراً ريادياً في التربية الفكرية لأجيال»، وأنه «الترجمان والوسيط الفكري الذي قربنا من الآخر النقدي».
في ثاني جلسات الندوة، تحدث محمد المصباحي الكاتب والباحث وأستاذ الفلسفة بجامعة محمد الخامس بالرباط، عن بنعبد العالي الذي بدد الفلسفة من أجل أن يبعث فيها روحاً جديدة تليق بالجمهور، مشيراً إلى أنه لا يتوقف في أعماله عن التهكم على الفلسفة والسخرية من الميتافيزيقا.
ورأى المصباحي أن بنعبد العالي لا ينتصر للفلسفة الكبرى ذات النصوص الرصينة والمتماسكة، بل يفضل الفلسفة الصغرى التي تكتفي بالشذرات والأقوال الصغيرة المبعثرة، والخواطر القائمة على التلميح والإيماء بمعانيها الخاطفة وبطاقة تأثيرها المباشر والمفاجئ على القارئ.
من جهته، قدم الكاتب الصحافي لحسن لعسيبي، شهادة تأملية، تحت عنوان «الشذرية التي تجاوزت النسقية في الدرس الفلسفي بالمغرب»، من خلال تجربة بنعبد العالي، مشيراً إلى أنه لا يمكن عزل مسار المحتفى به عن صيرورة الدرس الفلسفي بالمغرب خلال السبعين سنة الماضية. وقال إن بنعبد العالي ابن شرعي فكرياً للمسار الذي أخذه البحث الفلسفي مغربياً، والذي تأسس على مرجعية ثقافية تشكلت من تلازم الفكرة الوطنية للتحرير المزدوج، من الاستعمار ومن التخلف، وبين طموح إعادة هيكلة البنى الناظمة قيمياً لصناعة الفرد المغربي الجديد.
وتحت عنوان «فكأنها نقلت من غير أن تترجم»، أمتع الكاتب والروائي عبد الفتاح كيليطو الحضور، خلال ثالث جلسات الندوة، بطريقته الخاصة في مقاربة موضوعاته المتفردة، مركزاً على فعل الترجمة، مثيراً علاقة الترجمات بالنص الأصلي، ممثلاً للترجمات السيئة بترجمة متى بن يونس لكتاب «فن الشعر» لأرسطو، التي قال إن تبعاتها كانت خطيرة، غير أنه استدرك بالقول إن فشل وسوء الترجمة هما ما يتيحان ربما تطور الأدب.
من جهته، توقف الأكاديمي والباحث المتخصص في اللسانيات والتأويليات محمد الحيرش، عند بعض سمات التأويل الفلسفي عند بنعبد العالي، مشيراً إلى أن كتابته الفلسفية لا تخضع لنظام صارم، وأنها كتابة متعددة وأحياناً غير نسقية، غير أن خلف كل تشعب هناك تناسب.
ولاحظ الحيرش أن أسئلة التأويل تشغل موقعاً حيوياً في فكر بنعبد العالي، كما تحظى في ممارسته الفلسفية بأهمية بالغة، مع إشارته إلى أن الأمر يتعلق بممارسة فلسفية متعددة المشاغل تستوحي حوافزها من البحث والنظر من عمق ثقافة منفتحة للتأويل.
وختم الحيرش بأن الفلسفة من منظور بنعبد العالي تصبح مقاومة للبلاهة وانفصالاً عن «الدوكسا»، وفضحاً للأوثان، سعياً وراء نموذج فكري وثقافي متجدد.
أما الباحث والكاتب الصحافي عبد العزيز كوكاس، فتحدث عن بنعبد العالي «الكاتب المتعدد والمفكر المسكون بحرقة السؤال، الذي يحرث أكثر من حقل بيد واحدة»، مقترحاً قراءات مصاحبة لكتابات المحتفى به، لأن كتبه تعلمه دائماً التواضع أمام المعرفة، حسب قوله.
وقدم الكاتب والمترجم محمد آيت حنا، «بروفايل»، في شكل ورقة تعريفية شاملة للمحتفى به، مشيراً إلى أن الكتابة عنده مختبر للتفكير، وأنها ليست كتابة جيل بقدر ما هي كتابة حساسية استطاع بها أن يعبر الأجيال، بل أن يسبق الجيل اللاحق بخطوة.
وتحدث المحتفى به، عن تجربته، من زاوية مفهوم «البريكولاج» (كلمة بالفرنسية، تعني تدبيراً، في وضعية الضرورة، لحالة تفتقر إلى شروط ومتطلبات تحققها العادي)، متناولاً ثنائية «المهندس» و«البريكولور» (من يقوم بفعل «البريكولاج»)، من جهة استراتيجيات الأول وتكتيكات الثاني. ففي «البريكولاج»، يقول بنعبد العالي، لا يذهب الفرد بعيداً، بل يتأقلم مع ما يتوفر له كي يخوض غمار البحث ويتفاعل مع تحولات المعطى ومخاض الكتابة، حيث إن «البريكولور» لا يركن إلى معيار، لا يعول على سند أو تخطيطات أو مفاضلات. والأدهى من ذلك، يضيف بنعبد العالي، لا يتعلق الوضع بمستقبل واعد، فالأحلام والمشاريع لا معنى لها، هنا، إن لم تجد تحققها المباشر؛ إذ أن ما يتبقى للمشتغل بالكتابة هو أن يدبر حاله كما يقول المشارقة، ويخترع ذلك، لا استناداً إلى مرجع واقتداء بنموذج، وإنما باستعمال ما يتوفر، وما يوجد تحت اليد.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

مرايا تتعدَّى دورَها الوظيفي نحو الجمال الفنّي في غاليري بيروتيّ

مرايا تتجاوز مفهومها التقليدي لتُحلّق خارج الصندوق (ذا ميرور بروجيكت)
مرايا تتجاوز مفهومها التقليدي لتُحلّق خارج الصندوق (ذا ميرور بروجيكت)
TT

مرايا تتعدَّى دورَها الوظيفي نحو الجمال الفنّي في غاليري بيروتيّ

مرايا تتجاوز مفهومها التقليدي لتُحلّق خارج الصندوق (ذا ميرور بروجيكت)
مرايا تتجاوز مفهومها التقليدي لتُحلّق خارج الصندوق (ذا ميرور بروجيكت)

يُطلق المهندس اللبناني عبد الله بركة فكرةَ المرآة أبعد من وظيفتها الآلية. ليستْ هنا محصورةً في عَكْس وجوهٍ وأشياء تتقاطع ضمن حدودها، فتنتهي الحاجة إليها باطمئنان الرائي إلى مظهره، أو إدخال تعديل عليه، أو بلملمة انعكاسات خارجية. بمَنْحها وَقْعاً جمالياً، تتحوّل إلى عمل فنّي يملك تَرْك الأثر في العابر، فيستوقفه ليتساءل عن ماهيتها: أهي مرآة أو لوحة فنّية، وماذا لو كانت الاثنتين معاً؟ في «ذا ميرور بروجيكت» بمنطقة مار مخايل البيروتية، مرايا تتجاوز مفهومها التقليدي لتُحلّق خارج الصندوق.

تتحوّل المرآة إلى عمل فنّي يملك تَرْك الأثر في العابر (ذا ميرور بروجيكت)

نُسِجت علاقةٌ بالمرايا في داخل الشاب البالغ 37 عاماً منذ المرة الأولى التي تسلَّم فيها مشروعاً وتعذَّر إيجاد مرآة بملامح فنّية. رفض الاكتفاء بزجاج يتيح للآخر رؤية نفسه من خلاله؛ فالمسألة بالنسبة إليه تتخطّى الدور المُعدّ سلفاً، والمَهمَّة الجاهزة. المرايا «فنّ وظيفي»، لا مجرّد وظيفة تؤدّي الغرض منها وتُكافأ ببرودة الناظر إليها. يُحوّل عبد الله بركة الغاليري معرضَه الدائم، فتصطفّ على الجدران أشكالٌ جمالية تسرق العين من احتمال الاكتفاء بالنظرة الخاطفة.

المرايا «فنّ وظيفي» لا مجرّد وظيفة تؤدّي الغرض منها (ذا ميرور بروجيكت)

يتحدّث لـ«الشرق الأوسط» بشغف الفنان الباحث عن لمسة، ويُذكّر بأنّ الهندسة الداخلية تتطلّب عمقاً في النظرة والأفكار، وخَلْق مزاج فنّي خاص. يقول عبد الله بركة: «لا أريد للمرآة أن تتحلّى بدور واحد. ذلك حَدٌّ لها. المرايا هي الأشخاص. أي نحن حين تُرينا أشكالنا وصورنا. وهي انعكاس يمكن أن نشعر به، فإذا بإبهاره الجمالي المُعبَّر عنه في التصميم والكادر، يجَعْل ذلك الشعور متبادَلاً، فيُعدّل حالة نفسية أو يُغيّر نظرة تجهُّم. هذا فعلُ اللون حول المرآة وقالبها. بمجرّد أنها ليست تقليدية، يحدُث الأثر في الناظر».

يُطلق عبد الله بركة فكرةَ المرآة أبعد من وظيفتها الآلية (ذا ميرور بروجيكت)

لم تكن يسيرةً ولادة الغاليري. مخاضُها خليطٌ من إحباط ومحاولة. يعود إلى عام 2019 المفصلي في لبنان. كلّ شيء بدأ يتغيَّر، والمسارات تتّخذ شكل السقوط. لم يدرك مكانه في وطن شديد التقلُّب؛ مباغت، وطافح بالمفاجآت. يروي: «الفراغ كان مميتاً. أشغالٌ توقّفت ومشروعات تبخَّرت. أسوةً بشباب لبناني لمس انسداد الأفق، تراءى منزلي مساحة اختناق. في تلك اللحظة، هبَّ الأمل. اشتريتُ ألواناً ورحتُ أرسم، وصمَّمتُ أشكالاً بالطين، فلمحتُ طريقي».

لا يريد عبد الله بركة للمرآة أن تتحلّى بدور واحد (ذا ميرور بروجيكت)

من الضياع وجد الخطوة الأولى. صقل عبد الله بركة رغبته في النحت وطوَّر مهارته. أنجز الشكل وصبَّ ضمنه المرآة. أراد وضع حدّ لحقيقة أنّ غاليريهات المرايا الفنّية في بيروت نادرة. اليوم، ليس عليه أو على زملاء المهنة البحث الطويل عن مرآة مشتهاة: «تعدّدت أدوات صناعة المرايا وكثَّفتُ العمل. كلما سمعتُ إطراء أردتُ مزيداً منه. في الغاليري أعمالي وأعمال مصمّمين من أميركا وكندا وأفريقيا الجنوبية وتايلاند وهولندا وأوكرانيا... خلف مراياهم قصص. ثمة مرايا مصمَّمة بالأسيد المحروق، وأخرى بالزجاج المُطبَّع، وصنف تتداخل بكادراته ألوان مُبهِجة. ولمّا تعدَّدت أسفاري، تعرَّفتُ إلى مدارس التصميم خصوصاً في ألمانيا وإيطاليا، وتعمّقت في جَعْل هذا الشغف واقعاً. اليوم أقول: أنا شاب لبناني بلغ اليأس. فرغَ العالم من حولي. وشعرتُ بالأبواب الموصدة. ثم نهضت. استراتيجية التفكير تبدَّلت، وأصبحت المعادلة: الآن أو أبداً! انتظار الوقت المناسب يهدر العمر. كل لحظة هي وقتٌ مناسب».

تصطفّ على الجدران أشكالٌ جمالية تجذب العين (ذا ميرور بروجيكت)

أمضى شهراً ونصف شهر يُصمّم مرايا بأشكال خلّاقة حتى ساعات الليل المتقدّمة، استعداداً لإطلاق المعرض بعد تأخُّر فَرَضَه الظرف اللبناني. «4 مرايا علّقتُها على جدرانه قبل ربع ساعة من فَتْح الباب للحضور!»، يُكمل ضاحكاً. إحدى الزائرات رمت على مسمعه ما علَّم في أعماقه: «لم نكن نعلم أنّ هذه المرايا حاجة. متى أدخلناها إلى منازلنا أصبحت منّا». ومن كثافة الإقبال وحلاوة الأصداء، يُدرك أنه على السكّة التي نادته، أو ناداها؛ يمنحها كلَّه فتمنحه الإشباع الذاتي.

بعض المرايا بسيط يحوط به كادر يُجمِّل البساطة (ذا ميرور بروجيكت)

بعض المرايا بسيط، يحوط به كادر يُجمِّل البساطة. يتعامل عبد الله بركة مع تصاميمه بما يُبقي على الأساس، وهو المُتوقَّع من المرآة بوصفها زجاجاً يستجيب للانعكاسات؛ لكنه أساسٌ (Basic) لا يكتفي بنفسه، وإنما يتعدّاها إلى الغاية الجمالية والبُعد الفنّي ما دام الزجاج مقولباً بالألوان ومتداخلاً بإطار مُبتَكر. يرى في المرايا حكايات، وإنْ خلت صفحتها من أي شكل: «تُخبرني دائماً بأنّ المشاعر أصدق ما نملك. هي الدافع لنُنجز ما طال انتظاره. باستطاعتها تعويض غياب اللوحة عن الجدار. مشغولة بحبٍّ مماثل».