مرّت، في هذا الشهر، الذكرى السادسة والثلاثون على رحيل المخرج المتفرد شادي عبد السلام صاحب الفيلم الروائي الطويل «المومياء: ليلة أن تُحصى السنون». سُمّي كذلك «ليلة تعداد السنين» وأحياناً «ليلة أن تمضي السنين». كلها تسميات واحدة لفيلم متفق على أنه من بين أفضل ما أطلقته السينما المصرية في تاريخها، ولو أن البعض اعتبره أفضل فيلم في التاريخ، وهو أمر يتجاوز مفهوماً واسعاً حول كيفية تقييم ذلك وسط تحف سينمائية أخرى.
أحمد مرعي في لقطة من الفيلم
الذكرى مرت ولم يتوقف عندها أحد لكن الفيلم ما زال ماثلاً وشاهداً على عدة مسائل مهمة من بينها فرادة موهبة المخرج الذي أمّ العمل بشروطه كلّها، واستقلالية قراراته التي لم تعنِ الكثير لمنتجي السينما سنة إنتاج الفيلم سنة 1975 وتعني أقل من ذلك لمنتجي السينما اليوم.
لتأمين التمويل اللازم لهذا الفيلم، توجّه عبد السلام إلى إيطاليا وحصل على دعم المخرج روبرتو روسيلليني الذي أشرف على تمويل الفيلم من أركان أوروبية لم يهتم المؤرخون للبحث فيها. الترميم قام تحت إشراف الأميركي مارتن سكورسيزي وليس بفضل جهات مصرية. طلبته مهرجانات شيكاغو ونيويورك وصندانس و«كان» (النسخة المرممة) وعرضه مهرجان أبوظبي الراحل سنة 2010 معيداً تسليط الأضواء عليه.
رغم قضيتي التمويل والترميم «المومياء» هو فيلم مصري ليس تبعاً لهوية مخرجه فقط، بل أيضاً بسبب موضوعه المرتبط بالتاريخ المصري البعيد.
نادية لطفي في دور صغير- كبير
هناك مقابر في منطقة غرب الوادي تسكنها (في أحداث تقع في القرن التاسع عشر) قبيلة تكتنف كنوزها الفرعونية وتهرّبها لتاجر يهربها للمتاحف الأجنبية. تعتاش القبيلة على نبش القبور واستخراج الحُلي المدفونة مع أصحابها، وهي تفعل ذلك بكل رضا وقبول كونها الوسيلة الوحيدة للعيش في ذلك الوادي المقفر.
هذا إلى أن يتسلم وريثا القبيلة، وهما ابن زعيمها الذي مات في مطلع الفيلم وشقيقه اللذان، وحسب التقاليد، يعرفان المدخل السري في الجبل المشرف على القرية للآثار الفرعونية المخفية (منذ 3 آلاف سنة) بعيداً عن كل عين باستثناء رئيس القبيلة وشقيقه. برحيل الرئيس يتسلم الشقيقان مسؤولية الحفاظ على الموقع السرّي من جهة وعلى استمرار عملية التهريب من جهة أخرى.
عندما يرفض أحد الأخوين المشاركة في عملية غير مشروعة كهذه، يتم قتله ورمي جثّته في النيل. شقيقه ونيس (أحمد مرعي) سيقرر ما إذا كان يريد متابعة السير في خطى أسلافه أو التمرد عليها معلناً أن ما يحدث هو «أكل أكتاف الموتى». كل هذا مع وصول مندوب الدولة المصرية (محمد مرشد) ليحقق في عمليات التهريب ووضع حد لها. ونيس الآن متهم بأنه يتعامل مع «الأفندية» (أي سكان المدن) وسيلحق الضرر بمعيشة أهل بلده وخارجاً عن كل التقاليد المتوارثة.
الشاغل الرئيسي
اختار المخرج اللغة الفصحى كحوار طوال الفيلم. هو أمر غريب بحد ذاته كون الفيلم، في نهاية المطاف، مصرياً خالصاً نسبة لشخصياته وأحداثه والتاريخ الذي يعرضه المتعامل مع ميراث الفراعنة. النطق العربي ليس جيّداً بين الجميع على نحو متساوٍ. هناك من ينطقه صحيحاً وهناك من يستعين بلكنته المصرية الحاضرة. لكن هذا لا يغيّر من الواقع شيئاً، وهو أن المخرج اختار اللغة العربية الفصحى على تضاد مع اللهجة المحلية.
الأرجح أن هذا الاختيار جاء لسببين متلازمين. الأول أنه يمنح العمل صفة تلتقي وصفاته الأخرى في غرابة الموضوع المنتخب وموقعه واهتماماته. الثاني أن المخرج، بهذا الاختيار، تجاوز معضلة أن يتحدّث كل ممثل من الطاقم الذي تم الاستعانة به بلهجته المصرية المختلفة. هناك لكنة ابن المدينة ولكنة ابن الصعيد (وربما يجد من يبحث أكثر لهجات أخرى)
الحاصل، تبعاً لذلك، انفراداً إضافياً لفيلم يحكي عن موضوع لم يلفت انتباه آخرين رغم أهميّته. يوحد الفيلم بذلك غرابة المكان وغرابة الزمان وغرابة القصّة بتوحيد الحوار (والتعليق الصوتي) وجعله أيضاً غريباً.
الشاغل الرئيسي في كل ذلك، هو إذا ما كان ونيس على حق في وضع النهاية لتقاليد متوارثة تعيش عليها القبيلة منذ عقود وقرون تتاجر بما سكن في كهوفها أو أن قبيلة «الحُربات»، هي التي على حق في محاولة إبقاء التقاليد قائمة من دون مساس بأي تغيير.
يعرض الفيلم هذه المسألة بعناية. التجارة بالآثار المهرّبة هي المورد الوحيد الذي تعتاش منه القبيلة بأسرها، لكن هذا التهريب جريمة ولا بد للجريمة أن تتوقف. سنرى لاحقاً كيف يتم نقل الأكفان وما تحمله من كنوز من تلك الكهوف المنسية إلى المتحف المصري عوض أن يتم تهريبها إلى الخارج. هذا هو الموقف الذي يؤيده الفيلم لا من خلال بطله ونيس والشاب القادم من المدينة للكشف عما يدور فقط، بل كذلك من خلال مع من يقف الفيلم في أدبياته ومشاهده.
على هذا، هناك لبنة لفيلم تشويقي لو وقع العمل بين يدي أي مخرج آخر... تهريب. قتل. تحريات. صراع على كنوز... إلخ هذا كله بعيد عن غاية الفيلم ومخرجه لكن ما يبقى منه هو قدرة العمل على أن يبقى غامضاً بفضل اختياراته المذكورة.
قِيَم ثقافية
في طيّات ذلك حقيقة أن أبناء القبيلة ورثوا تلك الكنوز الفرعونية بحكم استيطانها المكان. هي اعتبرت أنها خير وصي على تركة مدفونة منذ آلاف السنين ولو أن هذه الوصاية لا تعني الحفاظ عليها، بل بيعها للعيش بثمنها في مكان هو صحراوي ومقفر وفقير في بيئته.
بطبيعة الحال، عني هذا الفيلم للمصريين الكثير وأدرجه النقاد في رأس قائمة أفضل الأفلام المصرية وشاركهم في ذلك العديد من النقاد العرب، ولأسباب تتعلّق بالقيمتين الفكرية والفنية. لكن الفيلم بذاته يستحق قيمة إضافية حين النظر إليه اليوم.
فإلى جانب ما يطرحه، يكمن التساؤل حول القيم الثقافية والمواقف التي يواجهها فيلم كهذا في صميم العمل. ما نراه من صراع بين إشكالات اجتماعية حيث تحارب القبيلة الوافدين حفاظاً على تاريخها ودورها حيال التاريخ (والفيلم مستوحى من أحداث حقيقية)، هناك الصراع الكامن بين فيلم ينفرد عن كل ما أنتجته السينما المصرية من أعمال، وبين الافتقاد الرسمي وغير الرسمي لخطة منح المخرجين المصريين المستقلين الفرص لتحقيق ذواتهم.
هذا لا يعني أن تحقيق الذوات سيلد دوماً أفلاماً مهمّة أو جيدة، وشاهدنا كيف أن العديد من الأفلام المصرية والعربية التي وصلت إلى منابر دولية لم تتعمّق في أي مسائل اجتماعية بقدر ما اكتفت باستعراضها. هي توقفت عند حدود العين ومشارف التفكير ولم تذهب عميقاً لتقديم بحث فعلي.
بذلك، فيلم «المومياء» يختلف كذلك في أن هذا البحث الفعلي المفقود من السينما العربية ككل إلا من استثناءات من بينها أفلام التونسي الناصر خمير (مثل «الهائمون») وفيلم الكويتي خالد الصدّيق «بس يا بحر»).
خارج اللعبة
هذا الاختلاف والاستقبال الكبير الذي حظي به هذا الفيلم من قِبل من شاهده من نقاد عالميين كان إشارة مضت مثل ومضة عابرة لم يتوقف عندها أرباب السينما المصرية. نعم عم فرح شديد بأن الفيلم توجّه إلى أكثر من مهرجان دولي (كثير منها بعد رحيل المخرج سنة 1986) وتبارى معنيون ومثقفون في مدح الفيلم والإشادة بعالميّته، لكن ليس هناك شيء فعلي تبع كل ذلك الاحتفاء. ليس من مبادرات لحماية السينما المستقلة، التي ينتمي إليها «المومياء»، ولا الاهتمام حتى بمظاهرات للسينما المصرية كأسابيع تنتقل ما بين دول العالم (كما حال «مهرجان الفيلم اليهودي» الذي يُقام في أكثر من 20 عاصمة ومدينة حول العالم كل سنة).
الأكثر فداحة ودلالة هو أن المخرج ذاته لم يجد الدعم الكافي لمواصلة طريقه في السينما الروائية. استدار صوب تحقيق أفلام قصيرة (مثل «جيوش الشمس» و«آفاق» (هذه الأفلام القصيرة بدورها لم تتجاوز ثلاثة أعمال على مدى ثلاث سنوات).
قيمة الفيلم التاريخية والفكرية والثقافية لم تكن لتتم لولا أسلوب عمل خطّه المخرج بدراية. هو مهندس ديكور لأفلام عديدة وعمل مساعداً لأكثر من مخرج قبل أن يخطو الخطوة الفاصلة ليصبح مخرجاً. لا بد أنه طمح لأكثر من فيلم طويل (كان لديه مشروع مشابه في طموحاته لكنه لم يجد من يكترث له).
يتآلف «المومياء» مع هندسة المكان الطبيعية. يختار للقطاته (الثابتة غالباً) أماكن مشهودة تتماشى مع الطرح الذي يحمله كل مشهد. المكان يصبح شخصية واختياره للبوح بما يتفاعل في الذات من أفكار ومشاعر يعزز ما نسمعه من حوار أو نشاهده من فعل. بطن الجبل هو بطن التاريخ. الصحراء للتوهان. الجبل ذاته للعزلة وهكذا.
يتحاشى المخرج تحويل العنف الوارد بين الكلمات مختاراً تورية. طعن الشقيق يبدأ وينقطع بومضة مونتاجية صوب مشهد آخر. مشاهد ضرب ونيس والرجل القادم من المدينة مستترة بوقوف بعض الرجال أمام الكاميرا والاكتفاء بأصوات ألم صادرة عن الضحايا.
أما الإيقاع فيدخل في صميم تأسيس العمل والحفاظ على هويّته الفنية منها والفكرية.