جرت العادة أن يبدأ الرؤساء الأميركيون جولاتهم الآسيوية بزيارة اليابان، الحليف الرئيسي، ونقطة ارتكاز المصالح الاقتصادية والجيوستراتيجية للولايات المتحدة ومنصتها العسكرية الأساسية في المنطقة؛ لكن الجولة الأخيرة التي قام بها جو بايدن إلى آسيا، في ذروة احتدام الحرب الدائرة في أوكرانيا، كانت كوريا الجنوبية محطتها الأولى؛ حيث حملت دلالات واضحة على أنّ البعد التجاري والاقتصادي بات يوازي البعد العسكري في سياسة الأمن الاستراتيجي الأميركي، وفي سعي واشنطن للحفاظ على موقع الزعامة الدولية المهدد بصعود العملاق الصيني.
منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، ومع رسوخ اليقين بأن «العملية العسكرية الخاصة» للقوات الروسية لن تكون تلك النزهة التي خططت لها موسكو؛ بل هي بداية مواجهة طويلة ومفتوحة تعيد تشكيل المعادلات الأمنية الإقليمية والدولية، انصبّ كل الاهتمام الأمني والدفاعي على القارة الأوروبية.
وعلى الرغم من دخول الولايات المتحدة طرفاً أساسياً في هذه المواجهة، بالإنابة والضغط المباشر على حلفائها الغربيين، واصلت واشنطن تكثيف جهودها الاقتصادية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، في وقت بقيت فيه تلك المنطقة تتصدر اهتماماتها العسكرية والأمنية الاستراتيجية.
ويبدو واضحاً أنّ التوازن -أو التوفيق- بين الرافعتين الاقتصادية والأمنية، هو هاجس الإدارة الأميركية في مقاربة علاقاتها مع هذه المنطقة التي تزخر بطاقات اقتصادية وتجارية هائلة، والتي تتقاطع فيها مصالح جيوستراتيجية يتعارض بعضها مع الأهداف التي تسعى واشنطن إلى تحقيقها.
ويلاحظ منذ فترة أن التماسك بين مواقف الدول الآسيوية في الدفع باتجاه مزيد من التكامل الاقتصادي الإقليمي، لا يتطابق بالضرورة مع الرؤى الأمنية والدفاعية لهذه الدول. ويتبدّى بوضوح أن التصدّي للعملاق الآسيوي في بحر جنوب الصين يخضع لمعادلة جيوستراتيجية تختلف عن المقاصد الاقتصادية لمعظم دول المنطقة، ما يحتّم على واشنطن موازنة البعدين الاقتصادي والأمني في مقاربة علاقاتها الآسيوية.
ومع إطلاق مبادرة «الإطار الاقتصادي» لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ التي كان بايدن قد أعلنها في جولته الآسيوية الأولى، تسعـى واشنطن لاستعادة الحضور التجاري الذي خسرته منذ قرار الإدارة السابقة الانسحاب من اتفاقية التعاون الاقتصادي لمنطقة المحيط الهادئ التي كانت ترمي إلى خفض الرسوم الجمركية بين البلدان الموقعة حتى إلغائها نهائياً. لكن هذا «الإطار الاقتصادي» ليس اتفاقاً تجارياً، ولا يلحظ خفض الرسوم الجمركية، ولا يفتح أبواب السوق الأميركية أمام البلدان الموقعة عليه، الأمر الذي أثار شكوكاً لدى عدد من الدول الآسيوية، مثل الهند وفيتنام وإندونيسيا وتايلاند والفلبين، قبل أن تنضمّ إليه بجانب أستراليا وكوريا الجنوبية واليابان وماليزيا ونيوزيلندا وسنغافورة.
ويقوم هذا الإطار على ركائز أربع: التجارة الرقمية، والطاقة النظيفة، وتعزيز قدرة سلاسل الإمدادات على الصمود في وجه الصدمات، ومكافحة الفساد.
لكن يبقى الهاجس الأول في استراتيجية واشنطن الآسيوية المنافسة التكنولوجية مع الصين، لمواجهة التحديات الكبرى، مثل شبكات «5G» والجيل الجديد من أشباه الموصلات.
من هنا، جاء الرهان الأميركي على كوريا الجنوبية كنقطة ارتكاز في مقاربتها الجديدة للعلاقات الآسيوية؛ حيث تسعى لإقامة تحالف استراتيجي يعزز القدرات الكورية على صناعة أشباه الموصلات، انطلاقاً من الريادة الأميركية في التصميم التكنولوجي. ومن المقرر أن تستثمر شركة «سامسونغ» الكورية 17 مليار دولار لبناء مصنع جديد في تكساس، يهدف إلى إعادة الولايات المتحدة إلى الموقع الذي كانت قد تخلـّت عنه منذ عقود في الصناعات التكنولوجية المتطورة، ويخفّف من اعتمادها على الصين، ويحول دون انقطاع الإمدادات الصناعية الحيوية الذي تسببت فيه جائحة «كوفيد»، ويتفاقم الآن مع الحرب الدائرة في أوكرانيا. يضاف إلى ذلك استثمار آخر مماثل لشركة «هيونداي» في ولاية جورجيا بقيمة عشرة مليارات دولار.
لكن هذا الإطار الاقتصادي الذي تسعى واشنطن ليكون قاعدة الارتكاز لسياستها الأمنية والدفاعية في المنطقة، يقابله أكبر اتفاق للتجارة الحرة في العالم وقَّعته 15 دولة آسيوية، بزعامة الصين، من شأنه أن يزيد حجم المبادلات التجارية بينها عن مجموع المبادلات مع الولايات المتحدة وأوروبا. ولا شك في أن هذا ما دفع بكوريا الجنوبية إلى عدم التخلّي عن رهان توطيد علاقاتها الاقتصادية مع الصين، على الرغم من ضغوط واشنطن، والاعتماد على القدرات العسكرية الأميركية في مواجهة تهديدات الجار الشمالي، وهو خيار الدول الآسيوية الأخرى التي لم تكن متحمسة للانضمام إلى الإطار الاقتصادي الذي ترعاه الولايات المتحدة، والتي تفضّل الانضواء تحت مظلة اقتصادية أوسع على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
ومع التحركات الأخيرة للصين في المحيطين الهندي والهادئ، فقدت معادلة النفوذ في المنطقة بعضاً من توازنها. وبعد الاتفاق الأمني الذي وقعته بكين مع جزر سليمان، اتجهت الولايات المتحدة لتفعيل الحوار الأمني الرباعي (كواد) الذي يضمّ إليها أستراليا واليابان والهند، والذي تعوّل عليه الإدارة الأميركية كمنتدى استراتيجي له بُعد اقتصادي واسع في العصر الرقمي. وتعتمد واشنطن في هذا الرهان على الاحتياطي الأسترالي الكبير من المعادن الاستراتيجية، والقدرات التكنولوجية اليابانية، والبنى التحتية الصناعية الهندية للإنتاج الإلكتروني، لتكملة الطاقات الأميركية في السباق الذي تخوضه الولايات المتحدة ضد الصين على الزعامة التكنولوجية، ضمن إطار للتعاون الاستراتيجي.
ويتوقف المراقبون الدبلوماسيون في سيول طويلاً عند الطابع التكنولوجي للرهان الأميركي الجديد في العلاقات مع المنطقة، سعياً إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتوجات التكنولوجية المتطورة التي تشكّل عماد التطور الاقتصادي في المرحلة المقبلة، في وقت تسعى فيه إلى اجتذاب القدرات الآسيوية إلى الداخل الأميركي.
كل ذلك يحدث بينما تدخل الحرب في أوكرانيا شهرها التاسع مفتوحة على كل الاحتمالات، بينما يشهد السباق التكنولوجي بداية مرحلة حاسمة تعيد خلط أوراق القدرات التنافسية، وترجّح كفّة القطب الآسيوي في المعادلة الرقمية العالمية التي باتت الركيزة الأساس للتطور الاقتصادي، وللسياسات الأمنية والدفاعية.
كوريا الجنوبية نقطة ارتكاز جديدة للمقاربة الأميركية في آسيا
تسعى واشنطن لإقامة تحالف استراتيجي يعزز قدرات سيول في صناعة أشباه الموصلات
كوريا الجنوبية نقطة ارتكاز جديدة للمقاربة الأميركية في آسيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة