هل يشبه اليوم البارحة فعلاً بالصراعات والمصالح؟

صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته
صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته
TT

هل يشبه اليوم البارحة فعلاً بالصراعات والمصالح؟

صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته
صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته

الماضي هو ذاكرة الحاضر، كما الحاضر هو ذاكرة المستقبل، علّنا نأخذ العبر من أخطاء الماضي كي لا نكررها.
إذا عدنا إلى الماضي؛ أي حقبة الخمسينات والستينات والسبعينات، نرى أن دول المنطقة، غير المستقرة سياسياً، لم تشجع العرب على تنفيذ أي مشاريع فيها لأسباب عديدة، أهمها:
- الاقتصاد الموجّه والمتقلب تبعاً للأمور السياسية، مما ولّد في بلدان عربية سلسلة من الانقلابات العسكرية بين الفينة والأخرى، في العراق وسوريا مثلاً، حيث كان هناك أكثر من انقلاب في الشهر الواحد تقريباً، مما جعل هذه البلدان غير مستقرة ومعرضة للمشكلات في أي لحظة.
- التأميم الذي حدث في مصر خلال عهد الرئيس جمال عبد الناصر، والذي كان مطلباً شعبياً، غالباً ما أدى إلى اهتزاز الوضع المالي والتمويلي للمستثمرين العرب، لذا فضلوا عدم المخاطرة وخسارة ثرواتهم هناك.
- البيئة الاجتماعية التي جعلت من الصعب على الأجنبي الاختلاط بالمجتمع وبالحياة اليومية للسكان الأصليين.
من المفيد أن نذكر فرضية نظرية الجماعة «Goup Hypthesis» في وضعية بلد عالم ثالثي... وسنختار فرضية ستة مفكرين حول تفسّخ الدول، كمثال قبرص ودول البلقان. وهذه الفرضية قابلة للتطبيق على أوضاع وأنماط مختلفة. وعلى أساس فرضية نظرية الجماعة، بالإمكان تكوين فرضية قابلة للتطبيق على وضع ما. وكان الهدف الأساسي لمنظّري الصراع الأوائل، مثل ميكيافيللي، وهوبس، ولوك، معرفة الروابط التي تجمع الدول بعضها ببعض. أما روسو، وبيرك، وماركس، فقد ركزوا أفكارهم على تماسك الجماعات والدفاع عنها وتطورها.
أما دويتش، فيعتبر أن أياً من المفكرين الستة لم يهتم بمسألة تفسخ الدول، أو المجموعات السكانية الكبيرة، إلى دول ومجموعات أصغر. لذا، فإن هؤلاء المفكرين الستة، بتركيزهم على تفسير لا تقسيم الجماعات، قد أهملوا جزءاً من العملية الاجتماعية – السياسية.
يفترض دويتش أن النظم الصراعية تتصف بالتفاوت أو التعارض السلبي. وفي تعامله وعلاقاته، يشجع النظام شريكاً على حساب آخر، حيث يُكافَأ الشريك الأول ويُعاقب الشريك الثاني. وإذا ما استطاعت الجماعات المتصارعة داخل النظام الواحد الوجود والتعايش لفترة طويلة، فسيكون باستطاعتها، في النهاية، تطوير وتكوين مصالح مشتركة. وهي؛ أي هذه المجموعات، ستستمر في تعايشها رغم الصراع إذا ما كانت الإجراءات والمصالح التي تحافظ على التعايش كثيرة ومتنوعة. ولكي تستمر النظم بالحياة، على العلاقات والمعاملات أن تبنى على أساس التشجيع والمكافأة للأفراد والأجهزة التي تؤلف النظام، لا على أساس المعاقبة والقهر. فيما يعتبر هورتم أن النظام الصراعي بمثابة صراع سياسي مكثف ومستمر بين المجموعات ذات الأهداف العالمية المتعارضة. هذا الصراع يؤدي إلى ما يسميه لاغون بـ«نموذج – الصراع». وهذا النموذج يحدد النظم السياسية المؤلفة من وحدات متعارضة. وتتصف أهداف هذه الوحدات بالممانعة المتبادلة. إنها تعمل في «وضع نتيجة جمعه صفر»؛ بمعنى أن ربحاً لمجموعة ما يوازيه خسارة مماثلة لمجموعة أخرى. ويمكن عرض تلخيص لاغون لفرضيات «النموذج – الصراع» على الشكل التالي:
1 – تتصف كل النظم الاجتماعية بدرجات متفاوتة من اللامساواة.
2- إن التغيير كامن في نظام اجتماعي.
3- يتأثر كل من الاستمرار والتغيير بالقوة النسبية للأحزاب المتنافسة، وليس بالصراع بحد ذاته. وبمعنى آخر، يأتي التغيير الاجتماعي من التحولات الحاصلة في موازين القوى.
إن الصراع المستمر بين المجموعات المتنازعة والمتنافسة ذات الأهداف والغايات المتعارضة، سيؤدي حتماً إلى تحول في ميزان القوى، وسيؤدي أيضاً إلى التغيير واللامساواة في النظام الاجتماعي، إلا أنه إذا ما أرادت هذه المجموعات أن تتعايش وتوجد بعضها مع بعض لفترة طويلة من الزمن، فيمكن ساعتئذ أن تطور وتنمي مصالح مشتركة. ومع ذلك، عادة ما تتجاهل المصالح المشتركة أي نظام صراعي يمكن أن يشكّل عائقاً أمام التعايش بين الأحزاب الموجودة والمتنازعة؛ لأن هذه الأحزاب ستنمي مع مرور الزمن مصالح مشتركة شكّلتها الإجراءات التي تكافئ الأفراد الذين يؤيدون النظام.
أما بالنسبة إلى لبنان خلال الحرب الأهلية التي بدأت في 13 أبريل (نيسان) 1975، واستمرت سنوات طويلة، حيث نرى أن الجماعات المتصارعة والمتقاتلة والمتضاربة المصالح في نظام واحد، أخذت على المدى الطويل تتقارب بعضها من بعض لتكوّن مصالح مشتركة وتتعايش معها؛ تتحارب نهاراً وتتسامر و»تتجاور» ليلاً. لذا نرى من المفيد أن نذكر فرضية الجماعة؛ إذ إنه على الرغم من أن بعض القطاعات فيه قد بدت لفترة ما أنها موحدة ومتينة إلى حد ما (كالمؤسسات العسكرية والحكومة خلال الحرب الأهلية)، فإن لبنان لم يكن بشكل عام وطناً ودستوراً موحداً لمجتمع مترابط وموحد وذي انتماء، ولم يعمل كل أبنائه بوحدة متراصة من أجل كل أفراده وجماعاته. وهذه الهوة المحفورة هي التي شكّلت الأرض الخصبة التي شجعت بعض الأفراد على أن تشكّل وتصبح أحزاباً متنافسة، أو مجموعات ذات مصالح متصارعة. وكرّست كل مجموعة حزبية معرفتها ومهاراتها لمصلحة الحزب أو المجموعة، لا لمصلحة الجمهور والمجتمع بأسرهما.
في عام 1987، أخبرني أحد الإيطاليين، وهو صديق عزيز لأحد أصدقائي، بهذه المغامرة المدهشة التي عاشها خلال وجوده في لبنان بين عامي 1976 و1977:
«في صباح يوم قارس، وقفت في بيروت على ضفة البحر، حيث كوّة من المياه تفصل بيروت عن نقطة الالتقاء الرمزية لبيروت الشرقية والغربية، من هناك يمكنك أحياناً رؤية الزوارق التجارية وهي تدفع الأمواج باتجاه البحر المتوسط. وفي الجهة الخلفية، ارتفعت مآذن وقباب الجوامع في المدينة بشكل رائع وساحر، ثم ما لبثت أن توجهت إلى الجانب الأسوأ لخط الاتصال التجاري القديم هذا... وعند الغسق انعطفت نحو شارع قذر باتجاه مقهى الملقى (café redez-vous)، حيث قابلت هناك تاجراً معروفاً كان يشكّل مصدر معلوماتي. وأخذت من الرجل أسماء وأماكن وتواريخ كانت كلها عبارة عن قطع متنافرة تجمّع بعضها مع بعض في تلك الليلة ليولد بعد أشهر من البحث والمحاولة صورة مذهلة: إن المخططين قد أنشأوا تجارة ضخمة لتجار المخدرات في الغرب ولطالبي السلاح من الإرهابيين في كل لبنان. وأخبرني مصدر المعلومات هذا بأنه سيُقتل إذا ما كُشف أمره».
إن مصادري غير الرسمية المدعمة باستنتاجات علمية واقتصادية ثابتة، تصب في هذا الاتجاه ذاته. فجأة، وكالطاعون، انتشرت عملية تعاطي المخدرات في أرجاء كثيرة من العالم، محطمة الأرواح، وحاصدة الموت والدمار والجريمة. ولسنوات عديدة شكّلت هي والإجرام المحرك الأساسي لتجارة المخدرات، لكن هذا البلد الصغير (لبنان) لم يتوقف عن زراعة نبتة الحشيش بشكل غير مشروع حتى يومنا هذا، وتصنيعها بأشكال مختلفة، كحبوب «الكبتاغون» وغيرها، والتفنن في إخفائها والاتجار بها وتصديرها إلى الخارج، حتى وصل أخيراً إلى دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، مما تسبب في قطع علاقاتها مع لبنان لفترة، دبلوماسياً واقتصادياً وتجارياً... إلخ، لفترة. أما الآن فعادت العلاقات إلى مجاريها أخيراً؛ لأن لبنان لا يستطيع أن يعيش بسلام ووئام وازدهار من غير أشقائه العرب في المنطقة العربية.
لم يستسلم المخططون على الإطلاق، بل بدأوا بعد دراسة معمقة حرب التجويع. فعبر أجهزة شيطانية غير قانونية، بدأ الدولار بالارتفاع، أحياناً رويداً رويداً، وأحياناً بجنون، ليضاعف سعره في نحو ثلاثة عقود آلاف الأضعاف؛ إذ كان يساوي 2.25 ليرة لبنانية في السبعينات، ووصل في عام 2022 إلى عتبة الأربعين ألفاً.
وبدأت الاتحادات العمالية والصناعية تطالب، آنذاك، بتعديل الأجور من دون أن يكون هناك إنتاج موازٍ (كما يحدث اليوم)، مما دفع بحلقة التضخم نحو الارتفاع والجنون؛ أي الكثير من المال لشراء القليل من السلع. ولم تشكّل الزيادات في الأجور مالاً حقيقياً بسبب فقدان الإنتاج الموازي، ولم يكن هذا المال ذا قوة شرائية. وكلما حصل العمال على زيادات في الأجور، ارتفع التضخم وبدأ الاقتصاد يسير في حلقة مفرغة. وازدهرت المرافئ غير الشرعية في طول البلاد وعرضها، حارمةً الدولة من دخل جمركي مهم جداً. ولم تُدفع الضرائب ولا فواتير الهاتف والكهرباء في مناطق واسعة من لبنان، مما حرم الدولة كذلك من جزء من السيولة النقدية، وتبعاً لذلك كان على مصرف لبنان المركزي إما أن يتردد في فتح الاعتمادات أو يرفضها، وخاصة في مجالات استيراد النفط الخام، وقطع الغيار الضرورية لتشكيل الكهرباء، وسائل الغاز، وغيرها من المشتقات لتلبية الطلبات اللامتناهية.
وبدأ الدولار بالارتفاع، وبدأت الاتحادات تطالب بتعديل الأجور (تُستعمل كلمة «أجور» هنا مكان كلمة «زيادة»). والتضخم ووتيرة التضخم تتصاعد بشكل جنوني، وأصبح من المستحيل منع توقف زيادة أسعار السلع الاستهلاكية.
في وضعنا القائم، وما يحدث اليوم في عام 2022، أننا نشهد ارتفاعاً جنونياً في سعر صرف الدولار بشكل يومي، وحتى بين ساعة وأخرى، مما ينعكس سلباً على حياة الناس ومعيشتهم. لذا، أود أن أقترح حلاً قد يوافق عليه البعض ويرفضه البعض الآخر، وهو كالآتي: بما أن السعر يحدده العرض والطلب في السوق، وأسعار السلع التجارية خاضعة لهذه القاعدة، فلماذا لا نعتبر العملة سلعة تجارية أخرى تخضع للنظام نفسه، ونترك للسوق الحر تحديد سعر العملة؟ إذا حدث ذلك فحينئذ يشترط على الدولة، إن وجدت الإرادة والجدية، اتخاذ إجراءات صارمة لإقفال كل مكاتب الصيرفة غير الشرعية، وجعل المصدر الوحيد للعملة هو البنوك ومكاتب الصيرفة الشرعية التي تقوم بعملية صرف الدولار والعملات الأخرى. وبهذا تتوقف السوق السوداء تلقائياً، ويتوقف عملها. وهكذا ينخفض الطلب على الدولار، ومن ثم ينخفض سعره مقابل الليرة. وبما أننا في ظروف استثنائية، فيجب أيضاً، فرض ضريبة استثنائية غير عادية أيضاً على شراء الدولار. وهذا الاقتراح لا يتناقض والوضع القائم في البلد، ولا يؤدي إلى أي تغيير في القوانين الضرائبية التي تفرضها الدولة. إن الأمر لا يتعدى ببساطة تثبيت سعر العملة الأجنبية على أساس العرض والطلب في سوق حر (لنسمها ضريبة شراء العملة الأجنبية)، تقدر بخمسين في المائة (يمكن زيادتها وقت الضرورة) على مشتري الدولار والعملات الأجنبية الأخرى. من المفيد أن نذكر هنا أن المضاربين والتجار هم الذين يشترون العملة الأجنبية. فيما يخص مستوردي السلع (التجار والصناعيين)، فمن الممكن إعادة الضريبة لهم، شرط أن تكون البضائع قد وصلت فعلاً، لا عبر السندات التجارية المطلوبة فقط.
ما يحدد الوضع الاقتصادي لبلد ما، هو مدى تأثيره ومركز قوته داخل الأسرة الدولية من جهة، وداخل منطقة جغرافية معينة من جهة أخرى. كما أن حجم ومصدر نمو وإنتاج هذا البلد ودخله القومي يحددان وضعه العسكري أيضاً. لهذا كله، فعلى لبنان أن يطور وضعه الاقتصادي بغية تحسين مركزه وتأثيره في الأسرة الدولية، خاصة أنه، وبعد طول انتظار منذ الخمسينات، ستبدأ عملية الحفر قريباً، وسيُكتشف النفط في مناطقه البرية وبلوكاته البحرية، لينضم ويأخذ مكانه ضمن الأسرة النفطية كبلد نفطي.
* باحثة لبنانية



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.