لم يمض سوى 38 يوماً على تولي ليز تراس رئاسة الحكومة في بريطانيا، توقفت السياسة خلالها 10 أيام حداداً على الملكة إليزابيث الثانية، وهيمنت الاضطرابات الاقتصادية والخلافات الحزبية على بقيتها. وفي مسعى لإنقاذ منصبها وطمأنة الأسواق، أقالت تراس وزير خزانتها وحليفها المقرب كواسي كوارتنغ ظهر الجمعة، وعينت وزير الخارجية السابق جيريمي هنت خلفاً له، كما أعلنت التراجع عن جزء جديد من موازنتها المصغرة.
وجددت تراس، في مؤتمر صحافي مختصر، عزمها على تحقيق هدف النمو و«جعل المملكة المتحدة أكثر ازدهاراً»، مُقرة في الوقت ذاته بضرورة تعديل بعض السياسات المالية التي دافعت عنها خلال حملتها الانتخابية وبعد توليها رئاسة الحكومة. وبحجة «طمأنة الأسواق»، أعلنت تراس عن تراجع كبير آخر في ميزانيتها المصغرة، والتزمت برفع ضرائب الشركات كما كان مخططاً له من طرف الحكومة السابقة. ولم يتردد الصحافيون المشاركون في المؤتمر في تحدي تراس حول شرعيتها السياسية، بعد تراجعها عن إحدى أبرز السياسات التي انتخبت على أساسها. فجاء الرد نفسه في كل مرة: «أولويتي هي تحقيق الاستقرار الاقتصادي الذي تحتاجه بلادنا، ولذلك اضطررت لاتخاذ السياسات الصعبة التي أعلنتها اليوم. مهمتنا لم تتغير، وهي تعزيز مستويات النمو الاقتصادي في بلادنا». فلماذا تتخبط حكومة تراس بعد أسابيع قليلة من تشكيلها؟ وهل تنجح في الصمود بعد إقالة كوارتنغ؟
صدمة الأسواق
تعهدت تراس، منذ دخولها سباق خلافة رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون، باعتماد إصلاحات راديكالية لإنعاش الاقتصاد واجتذاب الاستثمارات الخارجية، بعد الفتور الذي سببته الجائحة وتداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية، إلا أن هذه الإصلاحات، التي أعلن عنها وزير الخزانة السابق في موازنة مصغرة قبل ثلاثة أسابيع، صدمت الأسواق المالية، وخسفت بقيمة الجنيه الإسترليني إلى مستويات غير مسبوقة أمام الدولار، وفجرت أزمة في سوق العقار والسندات، ورفعت فوائد الاقتراض الحكومية.
ومع تزايد الضغوط من داخل حزبها والبنك المركزي، اضطرت تراس إلى التراجع خلال مؤتمر حزبها الأسبوع الماضي عن جزء محوري من هذه الموازنة، والذي كان يهدف لتخفيف العبء الضريبي على أصحاب الدخل المرتفع. وفيما تفاعلت العملة إيجاباً مع هذا القرار، الذي اعتبره كثيرون محرجاً للحكومة الجديدة، إلا أنه لم يكن كافياً لاسترجاع الأسواق الثقة في سياسات تراس المالية.
وفيما كان وزراء مالية مجموعة العشرين يجتمعون في واشنطن على هامش اجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد السنوية، قرر كوارتنغ اختصار زيارته والعودة إلى لندن بحجة عقد «محادثات عاجلة» حول الموازنة، إلا أن هذه «المحادثات» انتهت قبل أن تبدأ، وأعلن «10 داونينغ ستريت» إقالته قبل ساعات من خطاب مرتقب لتراس. ويكون كوارتنغ بذلك قد شغل ثاني أقصر فترة وزيراً للخزانة، بعد إيان ماكليود الذي توفي بسكتة قلبية بعد 30 يوماً من توليه المنصب في عام 1970، وإلى جانب كوارتنغ، تعاقب ثلاثة وزراء خزانة على «11 داونينغ ستريت» خلال السنوات الأربع الماضية، هم ناظم زهاوي وريشي سوناك وساجد جاويد.
مغامرة خطيرة
قد لا يكون استبدال وزير الخزانة كافياً لترميم سمعة تراس داخل صفوف حزبها، بل إن هذا القرار قد يثير حفيظة بعض أنصارها الذين سئموا قراراتها المتسرعة وانتقدوا «تضحيتها» بأحد أقرب حلفائها في الحكومة. ومع التراجع الكبير لشعبية المحافظين في استطلاعات الرأي لصالح حزب العمال، والتحديات الاقتصادية التي يتوقع أن ترافق ارتفاع أسعار الطاقة في الشتاء، يتساءل بعض النواب عما إذا كانت تراس الشخص المناسب لقيادة الحزب في الانتخابات التشريعية المرتقبة بعد سنتين. وفيما تضمن قواعد حزب المحافظين استمرار أي زعيم جديد في منصبه 12 شهراً قبل طرح الثقة به، إلا أن بعض النواب لمحوا إلى احتمال تغيير القواعد، في حال تلقت لجنة 1922 المسؤولة عن التنظيم داخل الحزب، أكثر من مائة رسالة تدعو لسحب الثقة من تراس. ولا شك أن تراس تسعى من خلال تعيينها هنت وزيراً جديداً للخزانة وتعديل توجه سياساتها المالية، إلى إقناع زملائها في الصفوف الخلفية للحزب باستمرار دعمها حتى الدورة الانتخابية المقبلة.