على ظهر دبابة، دخل النقيب إبراهيم تراوري مدينة واغادوغو، عاصمة بلاده بوركينا فاسو، دخول الفاتحين، يوم الجمعة 30 سبتمبر (أيلول) الماضي، فأطاح برئيس البلاد العقيد بول هنري داميبا، ونصّب نفسه رئيساً للبلاد التي عُرفت سابقاً بـ«أعالي الفولتا». وتراوري، الذي يبلغ من العمر 34 سنة، بات بذلك أصغر رئيس دولة في العالم، وتحوّل بين عشية وضحاها من «ضابط شاب» لا يكاد يعرفه أحد في بلده، إلى «الرجل القوي» الذي يراهن عليه بعض مواطنيه لإخراجهم من أزمة أمنية وسياسية واقتصادية خانقة، يعيشها البلد الهش والفقير منذ 2015. لكن هذا الرهان رهان صعب على شاب تنقصه الخبرة والحنكة السياسية، مع أنه يتوافر على قدر من الشجاعة، وربما التهور والطيش. وحين استتبّ الأمر للنقيب الشاب بعد يومين من الشك، وحين انقشع غبار الاستعداد لحرب كانت تلوح في الأفق بين فصائل الجيش، وعاد أنصار النقيب المتحمسين إلى بيوتهم، وهم في الحقيقة ليسوا أنصاراً بقدر ما هم ساخطون على الوضع السيئ، يبحثون عن بديل يتعلقون به كالغريق. وحقاً، حين عاد الهدوء إلى الشوارع والنفوس، بدأ الجميع في بوركينا فاسو يسألون عن رئيسهم الجديد، وينبشون في ماضيه لعلّهم يجدون ما يمنحهم الطمأنينة، بعد عقود طويلة من التيه وسط الانقلابات العسكرية، التي تبدأ بأملٍ كبير، وتنتهي بإحباط أكبر
ينحدر إبراهيم تراوري من قرية صغيرة تُدعى بوندوكي، تقع شمال غربي بوركينا فاسو، هي مسقط رأسه ومهد طفولته البسيطة والعادية. فيها درس الابتدائية قبل أن ينتقل لدراسة المرحلة الثانوية في مدينة بوبو ديولاسو، ثاني كبرى مدن البلاد بعد العاصمة، وفيها حصل على شهادة البكالوريا عام 2006.
لا تتوافر معلومات ذات أهمية كبيرة عن طفولته سوى أنه ينحدر من قبائل الموسّي Mossi، التي تشكل غالبية سكان بوركينا فاسو (52 %)، وهي قبائل دخلت الإسلام في القرن التاسع عشر الميلادي، وتحمل خلفها تاريخاً مجيدًا في وسط وغرب بوركينا فاسو، حيث أقامت إمارات وممالك متنفذة إبان العصر الوسيط، ولا تزال تحظى بنفوذ تقليدي، ولديها ملوك يعيشون في قصور وتتعامل معهم الدولة الحديثة.
كأي شاب حالم بمستقبل أفضل، توجّه إبراهيم تراوري إلى العاصمة واغادوغو ليكمل تعليمه الجامعي، فدرس الجيولوجيا في كلية العلوم والتقنيات بجامعة جوزيف كي زيربو؛ أكبر جامعة في البلاد. وحين وصل إلى هناك كان مرة يوصف بأنه «انطوائي وخجول»، ومرة بأنه «هادئ وذكي»، وهي صفات متداخلة جداً.
إلا أن شخصية الفتى الانطوائية بدأت تتغير بعد السكن في واغادوغو، التي تعدّ واحدة من أكثر مدن غرب أفريقيا حيوية ثقافية وسياسية، خصوصاً أنه ارتاد جامعة تحتضن بيئة شبابية ناشطة، تهيمن عليها الحركات الطلابية اليسارية الحالمة بالثورة. ولكن مع ذلك لم يُعرف للشاب أي مسار نضالي، قبل أن يقرر فجأة، عام 2010، إيقاف مساره الدراسي قبل الحصول على شهادته. وبالفعل خرج من الجامعة متوجهاً نحو «أكاديمية جورج ناموناو العسكرية» على الحدود مع دولة كوت ديفوار، في أقصى جنوبي البلاد. وكانت تلك الرحلة منعرجاً حقيقياً في حياة المراهق الذي فضّل الجيش على الجيولوجيا.
مسار عسكري
سريعًا تخرّج تراوري من الأكاديمية العسكرية، ضمن دفعة من الضباط حملت اسم «المواطنة»، ثم حصل فورًا على تكوين (إعداد) عسكري في المغرب بسلاح المدفعية، وعلى الأثر نال في عام 2012 رتبة ملازم ثانٍ، قبل أن يحصل على ترقية لرتبة ملازم أول عام 2014، ثم في عام 2020 رُقّي إلى رتبة نقيب.
خلال 10 سنوات في الجيش، واجه إبراهيم تراوري الحركات الإرهابية في بوركينا فاسو ومالي، وخصوصاً في منطقة «الساحل»؛ وهي محافظة في بوركينا فاسو محاذية للنيجر، يتمركز فيها تنظيم «الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى (داعش)».
وفي عام 2018 التحق تراوري وهو - يحمل آنذاك رتبة ملازم أول بوحدات بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في دولة مالي المجاورة. وتتحدث تقارير عن تصدّيه لهجوم مسلّح نفذته «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (القاعدة)» ضد وحدته، بالقرب من مدينة تمبكتو التاريخية، ومن هناك برزت قدراته القيادية، وبدأ يلفت أنظار رفاقه وقادته.
حين عاد الضابط الشاب إلى بلاده عام 2019، توجّه إلى جبهة القتال لمواجهة تنظيم «داعش» ضمن عملية عسكرية معقدة أطلقها الجيش ضد معاقل التنظيم استمرت لسبعة أشهر، وخرج منها بسمعة طيبة في أوساط الضباط وصغار الجنود. إذ كان يوصف بأنه «قائد عسكري قريب من جنوده، شجاع ومبادر، ومرتبط بالعمل الميداني»... غير أن معظم هذه الشهادات في حقّه لم تبرز إلا حين قاد الانقلاب العسكري الأخير.
ذلك أنه بعد عودة تراوري من جبهة القتال عام 2020، وجد الترقية لرتبة نقيب في انتظاره، غير أن الأهم من ذلك أنه أصبح أقرب إلى دوائر صنع القرار. وبالفعل ظهر اسمه ضمن قادة «انقلاب يناير (كانون الثاني)» الماضي، الذي أطاح بالرئيس المدني روش مارك كابوري، ودفع العقيد بول هنري داميبا إلى الحكم. ويومذاك لم يتأخر العقيد داميبا في مكافأة الضابط الشاب حين عيّنه، مارس (آذار) الماضي، قائدًا للمدفعية في وحدة الدعم المتمركزة في مدينة كايا؛ وهي مدينة استراتيجية قريبة من جبهات القتال.
انقلاب أكاديمي
حين قاد النقيب إبراهيم تراوري انقلابه العسكري الأخير على العقيد داميبا، قدّم مبرراً وحيدًا لتحركه؛ هو «فشل» داميبا في مواجهة الإرهاب، خصوصاً بعد هجوم تعرضت له قافلة إمداد عسكري يوم 26 سبتمبر (أيلول) الماضي، أي قبل أربعة أيام فقط من الانقلاب. وفي حينه، كانت القافلة متوجهة إلى جبهة القتال، لكن مسلّحين متطرفين حاصروها وقتلوا 27 جندياً واستولوا على الكثير من العتاد.
وفي تصريحات صحافية حول ما جرى، قال تراوري إنه قبل أسابيع من الانقلاب غادر ثكنته العسكرية متوجهاً نحو العاصمة واغادوغو، يريد لقاء الرئيس من أجل إطلاعه على مدى سوء أوضاع الجنود في الميدان، والخطر المُحدق بقوافل الإمداد العسكرية. وبعد كثير من المواعيد المؤجلة، قرر الانسحاب من العاصمة والتوجه نحو ثكنته العسكرية داخل البلاد، ومن هناك بدأ اتصالات انتهت بالتحرك نحو العاصمة وإسقاط الرئيس.
كذلك قال تراوري في حديث مع مسؤولين حكوميين بعد نجاح الانقلاب: «أدركُ أنني أصغر سناً من غالبية الموجودين هنا. نحن لم نكن نريد للأمور أن تسير بهذا الشكل وأن يحدث ما حدث، ولكن لم يكن أمامنا خيار آخر... الآن علينا النظر إلى الأمام وتجنب تضييع الوقت في الروتين البيروقراطي. ولذا أطلب منكم جميعاً حل مشاكل المواطنين وبسرعة».
صراع أجنحة و«أكاديميتين»
بينما تبدو مبررات النقيب تراوري مقنعة للشارع في بوركينا فاسو، يرى البعض أن لانقلابه خلفيات أخرى لا تخلو من صراع أجنحة داخل المؤسسة العسكرية؛ وهو صراع بين ضباط الجيش من خريجي أهم أكاديميتين عسكريتين في البلد. إذ ان تراوري خريج «أكاديمية جورج ناموناو العسكرية»، التي أسست عام 1984 لتكون بديلة لـ«الأكاديمية العسكرية في كاديوكو» - وهي الأكثر عراقة ونفوذاً - التي أسسها الفرنسيون عام 1951، وفيها تخرَّج الرئيس المُطاح به في الانقلاب الأخير؛ العقيد داميبا. ومن ثم فإن انقلاب تراوري يعيد إلى الواجهة صراعاً قديماً بين خريجي الأكاديميات العسكرية في البلد الأفريقي الهش.
إن الضباط الذين يتخرجون من «أكاديمية جورج ناموناو العسكرية» غالبًا ما يكونون أقل نفوذاً، بالمقارنة مع خريجي «الأكاديمية العسكرية في كاديوكو» التي طالما جسدت بقايا نفوذ الاستعمار الفرنسي، ولكنها في الوقت نفسه تضمن لخرّيجيها أفضل تكوين علمي وعسكري. ولهذا فإن ضباطها غالباً ما يرون أنفسهم أعلى قيمة من رفاقهم من الأكاديمية الأخرى.
وحين وصل الزعيم الثوري توماس سانكارا إلى الحكم في بوركينا فاسو، مطلع ثمانينيات القرن الماضي، بفضل حركة سرّية حملت آنذاك اسم «الضباط الشيوعيين»، فإنه بادر إلى إغلاق «الأكاديمية العسكرية في كاديوكو»، في إطار محاربته ما كان يسميه «النفوذ الإمبريالي الفرنسي»، وحاول أن يعوّضها بأكاديمية عسكرية جديدة لم تكن سوى «أكاديمية جورج ناموناو العسكرية».
ولكن بعد مقتل سانكارا في انقلاب عسكري قاده صديقه ورفيقه بليز كومباوري، المدعوم من الفرنسيين، بنهاية ثمانينيات القرن الماضي، أعاد كومباوري فتح «الأكاديمية العسكرية في كاديوكو» عام 1992، إلا أنه احتفظ بالأكاديمية التي فتحها سانكارا، مع أنها بقيت دوماً لا تحظى بالاهتمام الذي تتمتع به سابقتها.
اليوم يعود هذا الصراع إلى الواجهة، حين نجح نقيب شاب من خريجي «أكاديمية جورج ناموناو العسكرية» في الوصول إلى سُدة الحكم، والإطاحة بواحد من نخبة ضباط «الأكاديمية العسكرية في كاديوكو». بل إن تراوري لم يكتف بذلك فقط، وإنما اتهم العقيد داميبا علناً بـ«العجز والفشل» في مواجهة الإرهاب؛ إنه بذلك كان يوجه ضربة من تحت الحزام للأكاديمية التي تعمل منذ عدة عقود وفق التقاليد العسكرية الفرنسية.
وهنا يمكن القول إن انقلاب تراوري كان أكثر من مجرد انقلاب للوصول إلى سُدة الحكم، وإنما انقلاب على التقاليد العسكرية في بلد يحكمه ضباط الجيش منذ عقود. وبالإضافة إلى كون زعيمه نقيبًا من الرتب الدنيا في الجيش، فهو خريج مدرسة عسكرية ليست هي الأكثر عراقة في البلد، إن تراوري بذلك يقلب الموازين داخل الجيش.
تحديات في الأفق
زعيم بوركينا فاسو الجديد بوجهه الدائري وملامحه الطفولية، ظل يرتدي كامل زيه العسكري في جميع لقاءاته وظهوره أمام الصحافة، بقبعته الحمراء وخصره المحاط بالرصاص، وصدره المثقل بأجهزة الاتصال اللاسلكي. وهو يسعى إلى ترسيخ صورة الجندي المقاتل في أذهان مواطنيه، ولكن المعركة التي تنتظره أكثر تعقيداً من أن يحسمها جندي مدجج بالسلاح. وهذا ما يؤكده إسماعيل يعقوب الشيخ سيديا، الباحث الموريتاني في الشأن الأفريقي، خلال حديث مع «الشرق الأوسط»، إذ يقول إن أمام النقيب تراوري فرصة ذهبية لإيجاد حلول إذا تمتع بـ«الذكاء والمرونة».
ويضيف الباحث الموريتاني: «فيما يبدو هو شخص هادئ ومرن ومتّزن، والظاهر أنه يمتلك القدرة على مخاطبة مشاعر الناس واستمالة الشركاء الدوليين. وحسب ما لدينا من معطيات أولية، فإنه قد ينجح في تحقيق مستوى معين من الأمن؛ لخبرته العسكرية... ولكن أيضًا لأن الجماعات المتطرفة المسلحة قد تخفّف من هجماتها في انتظار معرفة توجهه».
ولكن الباحث الموريتاني يذهب أبعد من ذلك حين يقول: «لأنه مسلم قد تخفُّ هجمات الإسلاميين من قبائل الفولاني المتحالفين مع الطوارق». ثم يوضح الباحث في الشأن الأفريقي فكرته قائلاً: «إسلامه وخلفيته الاجتماعية، لا شك من الأمور التي قد تساعده، بالإضافة إلى أنه سبق أن واجه هذه الجماعات ويعرف قياداتها، كما أنه كان من ضباط ينادون بالحوار مع الجماعات المسلحة للتوصل إلى تسوية سلمية. وهذا يعطينا لمحة عن الطريقة التي قد يدير بها الملف، وهي في الغالب استراتيجية مزدوجة تمزج بين حل أمني - عسكري وحل آخر سلمي - تنموي».
في المقابل يشدد الباحث الموريتاني على أن الوضع معقد جداً، والقرارات الأولى التي سيتخذها النقيب تراوري هي التي ستحدد إن كان سينجح أم لا. وتوقّع الباحث، في هذا السياق، أن تحمل قراراته إشارات «ذكية» موجهة للجماعات الإسلامية والمتطرفة، لعلّ من أهمها «أن يحل ميليشيات مدنية سلّحتها الدولة، وأن يعيد الثقة إلى أئمة المساجد ويُفرج عن بعضهم في السجن، بالإضافة إلى إبراز هوية بوركينا فاسو الإسلامية».
في غضون ذلك، يعتقد الباحث الموريتاني أن التحدي الأكبر أمام الرئيس الشاب هو «تسيير العلاقة مع المجموعة الدولية، التي يتوجّب عليه أن يبتعد عنها مرحلياً، ولكن دون أن يقطع الصلة بها، لأن الحل الحقيقي لا بد أن يكون حلاً محلياً». ثم يضيف أن تراوري «قد يحصل على مساعدة رئيس مالي العقيد آسيمي كويتا، خاصة فيما يتعلق بالشراكة مع روسيا، إذ إن الفرنسيين كشركاء لا يوفرون له ما يكفي من المعلومات الاستخباراتية، كما أنهم لا يتحمسون لتسليح جيوش المنطقة، ومن ثم، يُتّهمون بقلة الرغبة في تسوية الأزمة الأمنية بشكل نهائي».
لكن النقيب تراوري في سياق حديثه عن الشركاء الدوليين قال صراحة: «أعرف أن فرنسا لا يمكنها التدخل مباشرة في شؤوننا (..)، أما الأميركيون فهم شركاؤنا حالياً، ولكن يمكننا أيضاً أن نقيم شراكة مع روسيا». هذه التصريحات أظهرت رغبة واضحة لدى تراوري في أن يسلك الطريق التي سلكها غويتا في مالي، حين استعاض عن الفرنسيين بالروس، غير أنه دفع ثمن ذلك باهظاً، فهل سيكون تراوري أكثر حكمة، وهو القادم من أعرق مجتمعات «أرض الرجال الأحرار (معنى اسم بوركينا فاسو)».