مرة أخرى، تجد باريس نفسها مدعوة للغوص في الملف اللبناني ومحاولة فك~ العقد المتداخلة على خلفية استمرار اهتراء الأوضاع السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية. ورغم إجهاض المبادرة الإنقاذية التي حاول الرئيس الفرنسي مباشرة عقب انفجار المرفأ إقناع السياسيين اللبنانيين عبثاً السير بها، فإن تخوف باريس اليوم من الفراغ المؤسساتي يدفع وزيرة الخارجية كاترين كولونا للتوجه إلى بيروت يوم الجمعة المقبل، في أول زيارة لها للبنان ولمنطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
تصل الوزيرة الفرنسية إلى لبنان في اليوم التالي للمحاولة الثانية الفاشلة حكماً لانتخاب رئيس جديد للجمهورية يحل محل الرئيس ميشال عون الذي تنتهي ولايته في 31 الشهر الحالي. ووفق الدستور اللبناني، ففي الأيام العشرة الأخيرة من الولاية الرئاسية، يتحول مجلس النواب إلى هيئة ناخبة تجتمع حكماً لملء الفراغ. بيد أن غياب التوافق حتى اليوم على شخص الرئيس العتيد يدفع الجميع إلى الاعتقاد أن ملء الفراغ لن يتم ضمن المهلة الدستورية، وأن هناك احتمالاً كبيراً لبقاء المنصب شاغراً لفترة قد تطول أو تقصر. وتجدر الإشارة إلى أن عون انتُخب بعد عامين ونصف العام من الشغور. لكن ما يميز الوضع اليوم عما كان عليه في الدورة الماضية، أن الحكومة اللبنانية الحالية التي يرأسها نجيب ميقاتي هي حكومة تصريف أعمال الدولة. وسبق لعون التأكيد أنه لن يسلم السلطة إلا لحكومة «كاملة الأوصاف»، وفق تعبيره، وبالتالي ثمة تخوف من أزمة إضافية تزيد إرباك الوضع اللبناني. والحال، أن محاولات تشكيل حكومة جديدة تواجه مطالب يرفض ميقاتي التجاوب معها. وحتى اليوم، لم تنجح «الوساطة» التي يقوم بها «حزب الله» في التوفيق بين الطرفين.
بالنظر إلى هذه المعطيات، سيكون الملف السياسي رئيسياً في اللقاءات التي ستجريها كولونا في بيروت. وحتى اليوم، لم تعلن وزارة الخارجية الفرنسية رسمياً عن الزيارة. وأكثر من مرة، عبّرت باريس عن موقفها من الانتخابات، مشددة على الحاجة إلى انتخاب رئيس جديد ضمن المهلة الدستورية، يكون قادراً على ملء الفراغ المؤسساتي، وعلى السير بالإصلاحات الاقتصادية والمالية التي يتمسك بها صندوق النقد الدولي بحيث تشكل «التأشيرة» الضرورية للدول الداعمة للبنان والمساهمة في إنقاذ اقتصاده وتمكينه من استعادة عافيته الاقتصادية. وتؤكد المصادر الفرنسية، أنه ليس لباريس مرشح للرئاسة وهي مستعدة لدعم الشخصية التي تنال أكبر موافقة. وتنسق فرنسا مواقفها مع المملكة السعودية والولايات المتحدة الأميركية. وجاء البيان الثلاثي المشترك الذي صدر عن الأطراف الثلاثة، عقب اجتماعات حصلت على هامش أعمال الأسبوع الأول للجمعية العامة للأمم المتحدة ليشكل أساسا لتحرك الأطراف الثلاثة. وإذ اعتبر البيان الوزاري أن المبتغى المحافظة على سيادة لبنان وأمنه واستقراره، فقد حضّ على انتخاب «رئيس جديد يمكنه توحيد الشعب اللبناني والعمل مع الجهات الإقليمية والدولية لتجاوز الأزمة الحالية». والمقصود بذلك، أن يكون قادراً على الانفتاح على الدول العربية عامة والخليجية خاصة وليس رهينة لإيران. كذلك، حضّت الأطراف الثلاثة على تشكيل حكومة «قادرة على تطبيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية خاصة المتعلقة بصندوق النقد الدولي» مع الوعد بدعم لبنان لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
ولأن انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية له امتداداته الإقليمية والدولية، فقد وعدت فرنسا التي هي على تواصل مع الأطراف كافة بمن فيها «حزب الله»، بالمساعدة على توفير «البيئة الخارجية» التي من شأنها تسهيل انتخاب الرئيس العتيد. وأرسلت الخارجية الفرنسية مديرة دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا آن غيغين إلى بيروت في «جولة استكشافية»، علماً بأن السفيرة آن غريو ناشطة ميدانياً وعلى تواصل مع جميع الأطراف وقامت مؤخراً بزيارة لـ «حزب الله» واجتمعت مع رئيس المجموعة النيابية للحزب محمد رعد. كما أن مصادر الإليزيه أفادت سابقاً بأن الرئيس ماكرون بحث الملف اللبناني مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. ويسير الملف اللبناني بالتشارك بين الإليزيه ووزارة الخارجية. ويلعب مستشار الرئيس ماكرون لـ«الشرق الأوسط» وشمال أفريقيا باتريك دوريل في هذا السياق، دوراً محورياً.
ويتداخل الملف الانتخابي مع الملف الإصلاحي. ويشكو صندوق النقد علناً من «بطء الإصلاحات» الأربعة الاقتصادية والمالية المطلوبة من لبنان وقد أصبحت معروفة، وأولها قانون «الكابيتال كونترول» وإعادة هيكلة المصارف والسرية المصرفية وقانون النقد. وما يقوله صندوق النقد يتطابق مع الموقف الفرنسي الذي يأخذ على اللبنانيين تبديدهم الفرص العديدة التي وفّرتها فرنسا ولم يعمدوا إلى السير بها، ولعل أبرزها مؤتمر «سيدر» للعام 2018 الذي ضمن للبنان مساعدات وقروضاً بقيمة 11 مليار دولار، شرط السير بالإصلاحات. إلا أن شيئاً من هذا لم يتحقق بسبب الخلافات اللبنانية - اللبنانية.
وكان من المتوقع أن يكون ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل أحد الملفات الرئيسية التي ستثار خلال زيارة كولونا. إلا أن الاتفاق الذي توصل إليه الوسيط الأميركي أموس هوكشاتين بمساعد فرنسية، وفق ما تؤكد المصادر المطلعة في باريس، سيجعل التركيز ينتقل إلى دور شركة «توتال أنرجي» الفرنسية التي ستقوم بعملية التنقيب في حقل قانا اللبناني بحثاً عن الغاز. وليس من المستبعد أن يثير الطرف اللبناني ملف اللاجئين السوريين في لبنان بالنظر لوضعه الاقتصادي وللعبء الذي يشكله هؤلاء. ويوم 4 الحالي، استقبلت اجتمعت كولونا بالمفوض الأعلى لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي في باريس، وكان وضع اللاجئين في لبنان أحد العناصر التي كانت موضع بحث بين الطرفين إلى جانب أوضاعهم ي سوريا وليبيا والساحل وأفغانستان. ويقدر عدد اللاجئين في العالم اليوم وفق الوكالة الدولية بمائة مليون لاجئ. ويتماهى موقف باريس مع الموقف الدولي الذي لا تتفهمه السلطات اللبنانية؛ إذ يعتبر أن «شروط العودة الطوعية والكريمة والآمنة» غير متوافرة.
في كلمتها بمناسبة اجتماع السفراء الفرنسيين عبر العالم بتاريخ 2 سبتمبر (أيلول) الماضي، قالت كولونا متحدثة عن لبنان، إن هذا البلد «الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها غير مسبوقة ومسؤولية فرنسا دعم الشعب اللبناني المنهك، ولكن أيضاً استخدام نفوذنا لوضع حد لسوء الإدارة والاستغلال». لكنها أردفت بالتعبير عن أن «دوافع الأمل متوافرة» من أجل إنهاض لبنان. فهل ستساهم هذه الزيارة بالدفع في هذا الاتجاه، أم أنها ستنضم إلى لائحة الزيارات التي كانت واعدة لكن أثرها الحقيقي ضاع في دهاليز السياسة اللبنانية؟
وزيرة الخارجية الفرنسية في لبنان الجمعة والملف الرئاسي على رأس اهتماماتها
وزيرة الخارجية الفرنسية في لبنان الجمعة والملف الرئاسي على رأس اهتماماتها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة