الغائبون عن «مسارات الحداثة»

ملاحظات على اختيارات شوقي بزيع

محمد بنيس - عبد العزيز المقالح - عبد الله البردوني
محمد بنيس - عبد العزيز المقالح - عبد الله البردوني
TT

الغائبون عن «مسارات الحداثة»

محمد بنيس - عبد العزيز المقالح - عبد الله البردوني
محمد بنيس - عبد العزيز المقالح - عبد الله البردوني

ليس أصعب من المؤلفات التي تقوم على الاختيار أو الانتخاب، فهي تفتح الباب على مصراعيه للنقد المبني على غياب أسماء، أو نصوص، أو غير ذلك مما تَعِد المختارات بأنها تحتويه، ثم يكتشف القارئ أنها لم تفعل. يعرف ذلك كل من أقدم على الاختيار، وأنا أحدهم، ففي كتابي «معالم الحداثة» (دار «روايات»، 2022)، الذي ترجمت فيه نصوصاً لمفكرين ونقاد وكتّاب غربيين، رأيت في نصوصهم ما يعين القارئ على التعرف على مسارات الحداثة الغربية عبر ثلاثة قرون، كنت أول المواجهين لمأزق الاختيار. لمعت الغيابات ربما بسرعة أكبر مما لمع الحضور، ووجد بعض القراء مدخلهم السريع لملاحظات مثل: لكنك لم تشر إلى فلان، وكان الأحرى ألا يغيب النص الفلاني، وهكذا.
ذلك المدخل وجدتني أدلف منه سريعاً إلى كتاب الشاعر الصديق شوقي بزيع (الذي يذكرني كلما التقيته بتلاقي جذور اسمينا عند «بزع»، وأجدني في كل مرة سعيداً بتلك الصدفة الجميلة)، لكن ما دفعني لشراء نسخة من كتاب شوقي «مسارات الحداثة: قراءة في تجارب الشعراء المؤسسين» («مسكيلياني»، 2021)، لم يكن بطبيعة الحال ما يصلني به من الأسماء، بل هو إعجابي به شاعراً أولاً، وهو بالتأكيد في طليعة شعراء جيله، وناقداً أيضاً من خلال مقالاته التي قرأت له هنا في «الشرق الأوسط» وغيرها. غير أن عنوان الكتاب، وهو عنوان ذكي بجاذبيته، كان سبباً رئيساً آخر لاقتناء الكتاب. هذا إلى جانب اهتمامي الشخصي بقضية الحداثة الأدبية وغير الأدبية.
حين تصفحت محتويات الكتاب، وهي عادة أول ما أتصفح من الكتب، وجدت السؤال المعتاد بانتظاري: لماذا هؤلاء، وليس أولئك؟ في كتاب شوقي بزيع دراسة لأربعة وعشرين شاعراً يبدأون باللبناني سعيد عقل، وينتهون بالعراقي سركون بولص. ولأن بزيع توقع أن يتوقف البعض عند اختياراته، أشار في ختام مقدمته الطويلة والمعمقة إلى الأسباب التي دفعته لاختيار هؤلاء، وليس أولئك. أشير إلى تلك الأسباب قبل أن أعبر عن رأيي في تلك الاختيارات، إنصافاً للمؤلف وتعاطفاً معه؛ لأني سبق أن وجدت نفسي في ذات المأزق. يقول إن «اختيار الشعراء المتناوَلين بالقراءة في هذا الكتاب، لم يكن وليد الصدفة أو الاستنساب المزاجي، بل بسبب الدور الطليعي والمؤثر الذي لعبوه، ولو بتفاوت ملحوظ، في نقل الشعرية العربية من طور إلى طور...»، ثم يشير بعد ذلك إلى أن الحداثة ليست حداثة واحدة، وأن هذا يبرر وضع شعراء متباينين في شعرهم ومواقفهم في مكان واحد، وأظن المثال واضحاً من جمع سعيد عقل بنزار قباني، ومحمود درويش بسعدي يوسف مثلاً. كل من يعرف أولئك الشعراء سيدرك مدى اختلافهم وصعوبة الجمع بينهم.
يشير في ختام تلك المبررات إلى أن السبب في غياب «أسماء لاحقة من جيلي الستينات والسبعينات» عن الكتاب، لا يعود لكونها «أقل جدارة بالقراءة، وبعضها يقف جنباً إلى جنب مع الصفوة من المؤسسين، بل لأنها تحتاج إلى دراسة مفصلة وكتاب مستقل»، ثم يَعِد بالعمل على ذلك لاحقاً.
في هذه المبررات كثير من الوجاهة دون شك، لكن فيها بعض الخلل أيضاً، وهو ما أود الوقوف عنده، وليتحمل الصديق شوقي بزيع ملاحظاتي بصدر رحْب.
ملاحظتي تتمحور حول سؤال واحد: لماذا غاب شعراء حداثيون ومؤسسون أيضاً من الجزيرة العربية وشمال أفريقيا عن «الصفوة» من المؤسسين؟ لا أقصد جيلي الستينات والسبعينات، وإنما جيل الخمسينات، وفيهم مَن عاصر أو سبق بعض زملائهم اللبنانيين والعراقيين والمصريين والسوريين والفلسطينيين، والسوداني الوحيد ممن ضمهم مجلس الحداثة!
الشعراء الأربعة وعشرون في الكتاب مقسمون كالآتي: 6 لبنانيين، و3 سوريين، و8 عراقيين، و4 مصريين، وفلسطينيان، وسوداني واحد هو محمد الفيتوري. الأسماء كلها معروفة، وكلها مهمة، لكن هل هي متساوية في الأهمية، أو في الانتماء إلى الصفوة، لا سيما إذا قارناهم ببعض الغائبين؟ أشك في ذلك.
مَن هم الغائبون إذاً؟ هم كثر بالطبع، لكن ليس المطلوب من أية مختارات أن تضم الجميع؛ لأنها عندئذٍ لن تكون مختارات، ومع ذلك فالمختارات مطالبة بتبرير ما اختارته، والأسباب التي ذكرها المؤلف ليست كافية، بل إن بعضها ينقض بعض تلك الأسباب.
لا شك أن معرفة بزيع بشعر مَن اختارهم، وأُلْفته لعطائهم، تفسر بعض اختياراته، لكن مَن يتصدى لمسارات الحداثة الشعرية العربية عليه أن يتعرف على خريطة تلك الحداثة بصورة أكثر توازناً. ومع ذلك فإني أستبعد أن بزيع لا يعرف عبد الله البردوني، وعبد العزيز المقالح من اليمن، أو محمد بنيس من المغرب، أو المنصف الوهايبي ومحمد الغزي من تونس، أو قاسم حداد من البحرين. بعض هؤلاء ينتمون إلى جيل يسبق جيل الستينات والسبعينات الذين استثناهم (البردوني والمقالح في المقام الأول). لن أذكر شعراء سعوديين لكي لا يظن أن المسألة انتصار للبلد الذي أنتمي إليه، مع أن فيه مَن يستحق الذكر بكل تأكيد.
لقد نهضت الحداثة الشعرية العربية بمعظم مَن تضمنهم كتاب شوقي بزيع، ومعظمهم أعلام لا يشك أحد في قيمتهم وأدوارهم، لكني أشك في أن عصام محفوظ أهم من البردوني، أو أن شوقي أبي شقرا أهم من المقالح، أو أن سركون بولص أهم من بنيس أو قاسم حداد. الأقرب هو أن بزيع يعرف اللبنانيين والعراقيين أكثر من معرفته باليمنيين والبحرينيين، فكان الاختيار أسهل (أستبعد بالطبع أنه لا يعرف بنيس).
لا أود أن أقول إن شوقي بزيع انساق وراء المقولة الراسخة لدى كثير من المثقفين العرب في التقليل من شأن الجزيرة العربية، والخليج تحديداً، ذلك الموقف المتعالي القائل إن هناك مناطق تمثل «المراكز»؛ لأنها الأهم والقائدة، في حين أن البقية مَقودون مقلدون. لا أود قول ذلك؛ لأني أعرف أن شوقي بزيع شاعر ومثقف قريب منا في السعودية، وفي الخليج عامة؛ لأنه كثيراً ما يحل ضيفاً على المنطقة، وأنه على صلة وثيقة بشعراء الجزيرة العربية، مثلما أنه على صلة وثيقة بالمغرب العربي. فما الذي يبرر استثناء مَن استُثنوا؟ لِمَ لمْ يمنح بزيع للجزيرة العربية والمغرب العربي مساراً صغيراً يقارب ذلك الذي منحه للسودان، بإدراج شاعر واحد على الأقل من ذات الجيل الذي أنتج قباني والبياتي وعبد الصبور؟ مع أن السودان جدير بأكثر من شاعر واحد. المسألة ليست مِنحاً توزع، أو تفضلاً من أحد، وإنما هي استحقاق إبداعي أنجزته قامات شعرية شكّلت بعض مسارات الحداثة الشعرية العربية. البردوني كرّمته محافل الشعر العربي في العراق والقاهرة، وكرّمته «اليونيسكو» كما لم تكرم كثيراً ممن أدرجهم شوقي بزيع، لأذكر مثالاً واحداً من الغائبين الكبار.
يقول بزيع في مقدمته إنه اختار شعراء من الجيل الأصغر لجيل الرواد؛ لأن «الأسبقية أو التأخر الزمنيين ليسا بأي وجه المعيار الصالح للحكم على تجارب الشعراء وأحجامهم الحقيقية، بل اللغة والفرادة وإعادة اختراع الحياة». هذا رائع، لكن بالمعيار ذاته يمكن اعتبار مَن ذكرتُ ومن لم أذكر من شعراء الجزيرة العربية والمغرب جديرين بالانضمام إلى زملائهم من المناطق العربية الأخرى. شعراء اليمن أحدثوا نقلة معروفة في لغة القصيدة ومخيالها، ولقاسم حداد دور كبير في تطور الحداثة في شعر الجزيرة العربية، ويمكن قول مثل ذلك عن آخرين غابوا عن «مسارات الحداثة»، كما رآها شوقي بزيع.


مقالات ذات صلة

إصابة مصورَين صحافيَين بنيران إسرائيلية في جنوب لبنان

المشرق العربي جنود إسرائيليون يقودون مركباتهم في منطقة قريبة من الحدود الإسرائيلية اللبنانية كما شوهد من شمال إسرائيل الأربعاء 27 نوفمبر 2024 (أ.ب)

إصابة مصورَين صحافيَين بنيران إسرائيلية في جنوب لبنان

أصيب مصوران صحافيان بجروح بعد إطلاق جنود إسرائيليين النار عليهما في جنوب لبنان اليوم الأربعاء.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي نازحون في أثناء عودتهم إلى قراهم بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» الذي دخل حيز التنفيذ يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024... الصورة في أبلح شرقي لبنان (أ.ب)

«انتصار للبيت الأبيض»... صحف تحلل اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان

رأى موقع «بوليتيكو» أن اتفاق وقف إطلاق النار «انتصار كبير للبيت الأبيض»، وقالت «نيويورك تايمز» إن بايدن يريد تذكّره بأنه وضع الشرق الأوسط على طريق تسوية دائمة.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
آسيا خلال احتجاج نظمته حركة «طالبان» في أفغانستان (رويترز - أرشيفية)

إحصاء 336 اعتداءً ضد الصحافيين في 3 سنوات من حكم «طالبان» في أفغانستان

أفادت الأمم المتحدة، الثلاثاء، بأنها سجّلت 336 اعتداءً على صحافيين وعاملين في وسائل إعلام منذ عودة «طالبان» لحكم أفغانستان في أغسطس 2021.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
شمال افريقيا مبنى التلفزيون المصري في ماسبيرو (الهيئة الوطنية للإعلام)

تشكيلة جديدة للهيئات الإعلامية بمصر وسط ترقب لتغييرات

استقبلت الأوساط الإعلامية والصحافية المصرية، التشكيلة الجديدة للهيئات المنظمة لعملهم، آملين في أن تحمل معها تغييرات إيجابية.

فتحية الدخاخني (القاهرة)
المشرق العربي المسؤول الإعلامي في «حزب الله» محمد عفيف خلال مؤتمر صحافي بالضاحية الجنوبية لبيروت (أ.ف.ب) play-circle 00:40

محمد عفيف... صوت «حزب الله» وحائك سياسته الإعلامية

باغتيال مسؤول العلاقات الإعلامية في «حزب الله» محمد عفيف تكون إسرائيل انتقلت من اغتيال القادة العسكريين في الحزب إلى المسؤولين والقياديين السياسيين والإعلاميين.

بولا أسطيح (بيروت)

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.