تهديدات بوتين مجرد «تذكير» بعظمة «روسيا العظمى»

كبير خبراء «راند» يشرح لـ «الشرق الأوسط» مخاطر اللجوء إلى «النووي»

ديفيد شلاباك
ديفيد شلاباك
TT

تهديدات بوتين مجرد «تذكير» بعظمة «روسيا العظمى»

ديفيد شلاباك
ديفيد شلاباك

على الرغم من تهديداته المتكررة، يعتقد الخبراء الأميركيون في مجال التسلح النووي أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا ينوي حقاً استخدام الترسانة الضخمة التي تمتلكها بلاده. غير أنه يسعى على الأرجح إلى «تخويف» كبار المسؤولين في الغرب عموماً، وفي الولايات المتحدة تحديداً، و«تذكيرهم» بأن عليهم أن يأخذوا في الحسبان هيبة «الروسيا»، أي روسيا العظمى، التي يعيد بناءها.
بدأ زعيم الكرملين هذا النهج مع قراره غزو أوكرانيا في سياق تصحيح الأخطاء التي نجمت عن «أكبر كارثة شهدها العالم» في القرن العشرين متمثلة بانهيار الاتحاد السوفياتي. بيد أن الإخفاقات المتكررة للجيش الروسي منذ بدء الغزو، بما في ذلك عجزه عن اجتياح كييف وإسقاط حكومة الرئيس فولوديمير زيلينسكي، بل اضطراره إلى الانسحاب من محيطها، ثم التراجع عن مناطق واسعة في خاركيف، اضطرت القوات الروسية خلال الأسبوع الماضي، أيضاً إلى الخروج من مدينة ليمان الاستراتيجية أمام الهجوم المضاد الذي تنفذه القوات الأوكرانية بنجاح حتى الآن.
يعزو المسؤولون الروس هذه الإخفاقات الاستراتيجية عند جيشهم إلى الدعم الضخم الذي تقدمه الولايات المتحدة والدول الغربية وغيرها لأوكرانيا. وهذا ما دفع الرئيس بوتين خلال احتفالاته بضم أربع مناطق أوكرانية هي لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون لروسيا، إلى إطلاق أحدث تهديداته، متهماً «الأعداء» في الغرب وحلف شمال الأطلسي، بأنهم يسعون إلى انهيار روسيا، ومتعهداً بالتالي استخدام «كل الوسائل المتاحة» للدفاع عن الأراضي الروسية. وذكّر العالم بأن الرئيس الأميركي هاري ترومان قرر استخدام أسلحة ذرية ضد اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، مضيفاً أن الأميركيين «أوجدوا سابقة» عندما قصفوا هيروشيما وناغازاكي بهذا السلاح. وفي اليوم التالي، دعا زعيم جمهورية الشيشان الروسية الجنوبية رمضان قاديروف، الرئيس بوتين، صراحة، إلى التفكير باستخدام «أسلحة نووية منخفضة القوة» في أوكرانيا، ليصير أول مسؤول روسي معروف يدعو علناً إلى ضربة كهذه.
خلافاً للهجوم الأميركي على المدينتين اليابانيتين، لا يتوقع الخبراء الأميركيون أن تبدأ روسيا باستخدام سلاح نووي ضد مدينة ما في أوكرانيا. بل إن الكرملين سيسعى إلى تقليل الدمار الذي سيلحق بالأرواح والممتلكات المدنية من جراء استخدام سلاح نووي. ومع ذلك، يمكن حتى لسلاح واحد «صغير» أن يتسبب في مقتل وجرح الآلاف من العسكريين والمدنيين على حد سواء. يؤكد الباحث الدفاعي الرفيع لدى مؤسسة «راند كوربوريشن» الأميركية للدراسات ديفيد شلاباك لـ«الشرق الأوسط»، أن النتيجة «ستكون كارثة».
وأثارت هذه التصريحات والتهديدات مزيداً من التساؤلات عما إذا كان بوتين مستعداً بالفعل لاستخدام «خياراته النووية» في محاولته إعادة الاعتبار لـ«روسيا العظمى»، وكثيراً من الأسئلة الأخرى حول الترسانة التي تملكها.

فوائد قليلة وعواقب هائلة
يوضح شلاباك، وهو كبير الخبراء النوويين لدى «راند» التي أنشئت في الخمسينات من القرن الماضي كـ«خلية» تعمل لمصلحة وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، أن روسيا تمتلك «مجموعة كاملة تحت تصرفها» من الأسلحة النووية، من تلك المسماة «تكتيكية» أو أسلحة «ساحة المعركة» المخصصة للاستخدام ضد الأهداف العسكرية، مثل نقاط تمركز القوات، إلى الصواريخ «الاستراتيجية» العابرة للقارات التي يمكنها ضرب الولايات المتحدة. لكنه يعتقد أن تهديدات بوتين النووية «محسوبة لتذكير الجماهير في أوكرانيا والغرب بالعواقب المحتملة للضغط على روسيا أكثر من اللازم أو دفعها بعيداً جداً». لكن ضم روسيا للأراضي الأوكرانية بطريقة «غير قانونية»، وفقاً لتوصيف الأمم المتحدة، مع غيره من الأمور، يعطي هذه التهديدات مغزى، إذ إن الكتابات الروسية مفتوحة المصدر حول العقيدة النووية «تفيد صراحة بأن موسكو يمكن أن ترد بأسلحة نووية على الهجمات على الأراضي الروسية».
هل يعني ذلك أن الكرملين سيستخدم الأسلحة النووية رداً على الهجوم المضاد الذي تشنه القوات الأوكرانية في محاولة لاستعادة الأراضي المحتلة في لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون؟ يرد شلاباك: «لا أعتقد أن بوتين ينوي فعلاً استخدام الأسلحة النووية، لكنه يريد تذكير الجميع بأنه يمتلكها».
يتناغم هذا التقييم مع ما نقلته صحيفة «نيويورك تايمز» عن كبار المسؤولين الأميركيين من أنهم لم يروا أي دليل على أن بوتين ينقل أياً من أصوله النووية، علماً بأن أحدث تحليل علني لوزارة الدفاع (البنتاغون) يفيد بأن الفوائد العسكرية لاستخدام سلاح نووي «ستكون قليلة»، مقابل «تكاليف يمكن أن تكون هائلة» سيتحملها بوتين لجهة «الرد الدولي الغاضب المتوقع، حتى من الصينيين الذين يحتاج بشدة إلى دعمهم».
ولذلك، يرى شلاباك في رده على أسئلة «الشرق الأوسط»، أن «هناك احتمالاً منخفضاً» لأن يستخدم بوتين السلاح النووي التكتيكي بغية «فصل أوكرانيا عن داعميها الغربيين»، ومن أجل دفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي إلى «إجبار أوكرانيا على إنهاء الحرب بشروط أكثر ملاءمة لروسيا مما قد يبرره الوضع (العسكري) على الأرض»، لا سيما إذا واصلت القوات الأوكرانية طرد القوات الروسية من المناطق «المضمومة». ويضيف أنه في هذا السياق «يمكن لروسيا استخدام سلاح نووي صغير لتدمير نقطة أو قاعدة إمداد أوكرانية، أو لمهاجمة وحدة أوكرانية فردية».

معادلة «الصاع بالصاع»
إذا اتخذ بوتين مثل هذا القرار، سيطلق العنان عملياً لجزء من مخزونه الذي يصل إلى نحو ألفي سلاح نووي تكتيكي كطريقة من أجل انتزاع تنازلات لم يتمكن من الحصول عليها في ساحة المعركة. وتضم هذه الأسلحة التكتيكية رؤوساً حربية أصغر بكثير وأقل قوة من تلك المستخدمة في الصواريخ الاستراتيجية التي يمكن أن تدمر مدناً بأكملها. واقترح بعض المحللين الروس استخدام مثل هذا السلاح التكتيكي لـ«الاستعراض» في مكان بعيد مثل البحر الأسود، أو ربما في الواقع ضد قاعدة عسكرية أوكرانية.
يقول خبير «راند» إن الرد على مثل هذا الإجراء «ربما يتمثل باستخدام سلاح واحد على هدف عسكري - بعيد المدى، وسياسياً أكثر من كونه فورياً وعسكرياً، وبخاصة أن الرد العسكري المتناسب يصعب تصوره ما لم تكن كييف على استعداد لقبول هجوم نووي مضاد ينفذه حلف شمال الأطلسي ضد هدف روسي مشابه في الأراضي الأوكرانية - فيما يُطلق عليه أحياناً استراتيجية الصاع بالصاع».
ولئن كانت التحليلات مختلفة بين استبعاد احتمال استخدام السلاح النووي وترجيحه على نطاق ضيق، هناك إجماع على أنه بمجرد استخدام سلاح نووي، سينتقل العالم إلى «منطقة مجهولة ومظلمة وخطيرة للغاية»، إذ إنه بعد ذلك «سيكون أي توقع بمثابة تكهنات ليس إلا». ولا بد من التذكير بأنه منذ عام 1945، لم يتجاوز أحد هذا الخط المعياري، وكان الشعور العام بأن «المحرمات» ضد استخدام الأسلحة النووية لعبت دوراً مهماً في الوصول إلى هذه النتيجة. ما إن يتم تجاوز هذا الحاجز، «سنعيش في عالم جديد مخيف»، وفقاً لتقييم شلاباك.

السيناريو المعقول
يعتقد شلاباك أن «الاستخدام» النووي «الأكثر احتمالاً» من روسيا هو معاودة التجارب النووية في انتهاك لاتفاقية حظر التجارب النووية، معتبراً أن «هذا سيكون استفزازاً كبيراً، لكنه يبقى أقل من أن يتطلب استجابة واسعة النطاق» من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول الغربية.
تختلف هذه اللحظة في العلاقات الدولية تماماً عن أي تطور مر العالم به منذ نهاية الحرب الباردة، وربما منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. تستبعد وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية أن تؤدي الهزائم الحالية للجيش الروسي إلى سقوط مفاجئ لبوتين. غير أن مؤلف كتاب «جوهر القرار» لعام 1971 عن أزمة الصواريخ الكوبية غراهام أليسون يستشهد بما قاله الرئيس الأميركي سابقاً جون كيندي آنذاك عن «السيناريو المعقول»، وهو أن «يضطر القائد إلى الاختيار بين الإذلال الكارثي ودحرجة النرد التي يمكن أن تؤدي إلى النجاح».
ولهذا السبب، تبدو الأسابيع القليلة المقبلة خطيرة بشكل خاص. فقبل أن يستخدم بوتين أي سلاح نووي، يحتمل أن تشمل خطواته الأولية حملة تخريب في أوروبا، أو مهاجمة البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا أو استهداف كبار المسؤولين في كييف.


مقالات ذات صلة

روسيا: وجّهنا ضربات مكثفة للقوات الأوكرانية في منطقة كورسك

أوروبا رجال إنقاذ في موقع مبنى سكني ضربته غارة جوية روسية في قرية سفيسا، وسط هجوم روسيا على أوكرانيا بمنطقة سومي بأوكرانيا في 4 يناير 2025 (رويترز)

روسيا: وجّهنا ضربات مكثفة للقوات الأوكرانية في منطقة كورسك

قالت وزارة الدفاع الروسية إن قواتها وجّهت ضربات مكثفة لوحدات أوكرانية في منطقة كورسك بغرب روسيا، حيث أفاد الجيش الأوكراني بتصعيد القتال خلال اﻟ24 ساعة الماضية.

«الشرق الأوسط» (موسكو - كييف)
أوروبا دبابة روسية مدمرة في منطقة كورسك (أ.ب)

زيلينسكي: مقتل 15 ألف جندي روسي خلال القتال في كورسك

أكد مسؤول عسكري أوكراني، الاثنين، أن قواته تكبّد قوات موسكو «خسائر» في كورسك بجنوب روسيا، غداة إعلان الأخيرة أن أوكرانيا بدأت هجوماً مضاداً في هذه المنطقة.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يلقي كلمته أمام السفراء الفرنسيين 6 يناير 2025 بقصر الإليزيه في باريس (رويترز)

ماكرون يدعو أوكرانيا لخوض «محادثات واقعية» لتسوية النزاع مع روسيا

قال الرئيس الفرنسي ماكرون إن على الأوكرانيين «خوض محادثات واقعية حول الأراضي» لأنهم «الوحيدون القادرون على القيام بذلك» بحثاً عن تسوية النزاع مع روسيا.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أوروبا جندي روسي خلال تدريبات عسكرية في الخنادق (لقطة من فيديو لوزارة الدفاع الروسية)

روسيا تعلن السيطرة على «مركز لوجيستي مهم» في شرق أوكرانيا

سيطرت القوات الروسية على مدينة كوراخوف بشرق أوكرانيا، في تقدّم مهم بعد شهور من المكاسب التي جرى تحقيقها بالمنطقة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا صورة تظهر حفرة بمنطقة سكنية ظهرت بعد ضربة صاروخية روسية في تشيرنيهيف الأوكرانية (رويترز)

روسيا تعلن اعتراض 8 صواريخ أميركية الصنع أُطلقت من أوكرانيا

أعلن الجيش الروسي اليوم (السبت)، أنه اعترض 8 صواريخ أميركية الصنع أطلقتها أوكرانيا في اتجاه أراضيه.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

رئيس الوزراء الكندي يقول إنه سيستقيل من رئاسة الحزب الحاكم

رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو يلقي كلمة في أوتاوا، 6 يناير 2025 (أ.ب)
رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو يلقي كلمة في أوتاوا، 6 يناير 2025 (أ.ب)
TT

رئيس الوزراء الكندي يقول إنه سيستقيل من رئاسة الحزب الحاكم

رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو يلقي كلمة في أوتاوا، 6 يناير 2025 (أ.ب)
رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو يلقي كلمة في أوتاوا، 6 يناير 2025 (أ.ب)

قال رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو خلال خطاب جرى بثه على الهواء مباشرة اليوم الاثنين إنه يعتزم الاستقالة من رئاسة الحزب الليبرالي الحاكم، لكنه أوضح أنه سيبقى في منصبه حتى يختار الحزب بديلاً له.

وقال ترودو أمام في أوتاوا «أعتزم الاستقالة من منصبي كرئيس للحزب والحكومة، بمجرّد أن يختار الحزب رئيسه المقبل».

وأتت الخطوة بعدما واجه ترودو في الأسابيع الأخيرة ضغوطا كثيرة، مع اقتراب الانتخابات التشريعية وتراجع حزبه إلى أدنى مستوياته في استطلاعات الرأي.

وكانت صحيفة «غلوب آند ميل» أفادت الأحد، أنه من المرجح أن يعلن ترودو استقالته هذا الأسبوع، في ظل معارضة متزايدة له داخل حزبه الليبرالي.

رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو متحدثا أمام مؤتمر للحزب الليبرالي الوطني 16 ديسمبر الماضي (أرشيفية - رويترز)

ونقلت الصحيفة عن ثلاثة مصادر لم تسمها لكنها وصفتها بأنها مطلعة على شؤون الحزب الداخلية، أن إعلان ترودو قد يأتي في وقت مبكر الاثنين. كما رجحت الصحيفة وفقا لمصادرها أن يكون الإعلان أمام مؤتمر للحزب الليبرالي الوطني الأربعاء. وذكرت الصحيفة أنه في حال حدثت الاستقالة، لم يتضح ما إذا كان ترودو سيستمر في منصبه بشكل مؤقت ريثما يتمكن الحزب الليبرالي من اختيار قيادة جديدة.

ووصل ترودو إلى السلطة عام 2015 قبل ان يقود الليبراليين إلى انتصارين آخرين في انتخابات عامي 2019 و2021.

لكنه الآن يتخلف عن منافسه الرئيسي، المحافظ بيار بواليافر، بفارق 20 نقطة في استطلاعات الرأي.