(1)
فوز ائتلاف حزب «إخوة إيطاليا» الذي تمتد جذوره إلى بينيتو موسوليني، بزعامة جيورجيا ميلوني، أول رئيسة وزراء لإيطاليا، ليس «حدثاً في ذاته»، فأغلب استطلاعات الرأي توقعت هذه النتيجة مبكراً، حسب «رويترز»، وإنما «الحدث» هنا أقرب إلى المعنى الذي قصده جاك دريدا: «(الحدث) بالمعنى الفلسفي هو ما يفتح الباب أمام أحداث أخرى قادمة مستقبلاً لا يمكننا توقعها أو التنبؤ بها أو تعريفها»!
لذا، فإن مغامرة الخوض «فيما لا يمكن توقعه» تدفعنا من البداية إلى تجنب «منطق التشابه»، حتى لا نسقط تحت إغواء الفاشية نفسها!
بعبارة أخرى، تجنب التشابه بين الفاشية أمس واليوم، ميلوني ليست موسوليني، ومارين لوبان أو فيكتور أوربان ليسا هتلر، وإن تشابهت بعض السمات والقسمات، فالتاريخ لا يتكرر بنفس الطريقة، ولا يمكن النزول في نفس النهر مرتين، وفقاً لهيراقلطس.
من زاوية أخرى، من المفيد قراءة فوز حزب ميلوني على شاشة أكبر، لا تظهر فقط ابتهاج أحزاب اليمين في دول أوروبا، أو فرحة المحافظين في الولايات المتحدة وهم على بعد أسابيع من انتخابات الكونغرس، إنما لأنها تبرز أيضاً تداعيات الحرب في أوكرانيا وصولاً إلى تفجيرات خطوط نقل الغاز الروسي إلى أوروبا «نورد ستريم»، وما بعدها.
فقد دشّنت العولمة فكرتين يصعب الفصل بينهما: فكرة «الباب الدوار» بين الداخل والخارج؛ بمعنى أن أحداث العالم الخارجي طرف أصيل اليوم في الانتخابات الداخلية لأي دولة، وهذه النتائج المحلية تعود بدورها لتؤثر في سياسات العالم، مما يفسر جزئياً صدى «الترحيب أو الخوف» من صعود اليمين المتطرف.
الفكرة الثانية، أن «الاقتصاد المعولم» صار هو الداء والدواء معاً، فما يوحدنا في القرن الحادي والعشرين هو نفسه ما يفرقنا.
فإذا كانت الحرب هي السياسة بأدوات أخرى، فإن الاقتصاد هو «حرب» بلغة السياسة؛ لذا أصبح سلاح العقوبات الاقتصادية من جهة، واستخدام سلاح الطاقة والغذاء من جهة أخرى، أبرز الأسلحة – حتى الآن - لا سيما مع وصول الدول الكبرى إلى العتبة النووية.
(2)
لم يعاصر دريدا صعود حزب «إخوة إيطاليا» (تُوفي 2004)، لكنه استبق: كيف ستلغي الديمقراطية في المستقبل نفسها بنفسها؟ فقد حذر من منطق «الأخ» و«الشبيه» في السياسة الدولية؛ إذ قال: «لا خطر على الديمقراطية القادمة إلا من حيث يوجد الأخ، ليست بالضبط الأخوة كما نعرفها، ولكن حيث تصنع الأخوة القانون، وتسود ديكتاتورية سياسية باسم الأخوة».
«الفاشية»، تاريخياً وعملياً، تقوم على فكرة «الأخوة» التي تلغي «الآخر» و«الغريب»، وكل حق في الاختلاف حتى لو كان من المعارضة الوطنية. فبعد أن خسر حزب رئيس الوزراء المجري الحالي فيكتور أوربان عام 2002، صرح بأن «الوطن لا يمكن أن يكون مع المعارضة»، وهي نغمة يتردد صداها في خطاب اليمين المتطرف عبر الأطلنطي، فإذا لم تأت النتائج في صالحه يلجأ إلى التشكيك بالتزوير في نتائج الانتخابات، وزعزعة الثقة في النظام القائم، مما يؤدي في النهاية إلى تأكّل الثقافة السياسية الديمقراطية.
ما يجمع معظم زعماء الفاشية هو القدرة على منح الجماهير التي تشعر بالعجز إحساساً بالقوة والتضامن الأخوي: «نحن» ضد «هم»، وبكونهم «وحدهم» وطنيين أصلاء، على عكس الديمقراطيين والليبراليين واليساريين الذين – يرونهم - يدللون الأقليات والأجانب والمهاجرين والمثليين على حساب مصالح أهل البلد الأصليين. وعلى ذلك، فإن اليمين المتطرف هو وحده الممثل لـ«الشعب الحقيقي»، والمواطنون الذين لا يدعمون الزعيم الشعبوي لا ينتمون حقاً إلى الشعب.
وعَدّ كارل شميت أن «الآخر» و«المختلف» و«كل من ليس معنا» خطراً يجب التخلص منه. وتلك هي خلاصة الأفكار النازية والفاشية والأصولية التي مهّدت للجرائم الإنسانية على مدار القرن العشرين.
الفاشية في العقدين الأخيرين أضافت بصمتها الخاصة، المجاهرة علنا بالعنصرية، وانتقادها الحاد لكثير من شعارات العولمة ومؤسساتها، مع استخدامها لأدوات التكنولوجيا والميديا لنشر «الغضب» والاحتقان والاحتجاج عالمياً؛ حيث تمثل كل موجة لليمين المتطرف في بلد ما «إلهاماً» في بلد آخر، وبسهولة.
الملمح الثاني أن الفاشية في دول أوروبا لم تسيطر بعدُ على الأحزاب اليمينية المعتدلة، على العكس مما حدث مع الحزب الجمهوري في انتخابات الولايات المتحدة عام 2016، ولا ندري ماذا ستكون عليه نتائج الانتخابات الرئاسية في 2024.
(3)
مع تصاعد الحرب في أوكرانيا، قال الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، إن «كلا الجانبين - اليسار العلماني واليمين الديني - يتصارع على غنائم النظام الرأسمالي العالمي الذي يسيطران عليه».
وهو أحد وجوه الحقيقة الغائبة – في ظل التشويش الإعلامي على الجانبين – فقد تحطمت الآمال في تحقيق التكامل الاقتصادي في عصر العولمة، وبعد أن تشابكت أجندات الأحزاب المحافظة والليبرالية معاً، وشكّلت حكومات ائتلافية تضم أحزاباً يسارية معتدلة وأخرى يمينية معتدلة؛ أصبحنا نواجه منذ الأزمة العالمية عام 2008 وتوابعها المتلاحقة، «فجوة تزداد اتساعاً» بين الرابحين والخاسرين لثمار العولمة وأعطابها، تمثلت في وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم أزمة جائحة «كورونا» والحرب في أوكرانيا، وحتى أحدث دراسة للبنك الدولي التي حذرت من سقوط الاقتصاد العالمي في ركود خلال عام 2023.
أضف إلى ذلك، أن عجز الديمقراطية و«بطأها» في تقديم حلول سحرية لمشكلات الجماهير المحبطة (بما في ذلك الطبقة الوسطى)، دفعها لتجريب مسكنات ليست آمنة أو غير صحية، أسهل وأسرع، وهذا قد يفسر أحد الأسباب القوية لتنامي «الحركات الشعوبية» واليمين المتطرف في العالم اليوم، لكن قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي نهاية 2016 – وإن كان يصب في الهدف نفسه، لكنه يختلف في العمق – عُدّ أول ثورة شعبية ضد سلبيات العولمة، مما يعني أن المسألة تتجاوز «اليمين المتطرف» والاقتصاد، إلى الأمن والحدود والسيادة، وتتعلق بتمركز السلطة السياسية في أيدي المؤسسات الأوروبية و«الدولية» على حساب سيادة الدول نفسها.
(4)
فوز حزب ميلوني في إيطاليا، وحصول اليمين المتطرف في فرنسا مع مارين لوبان على 89 مقعداً في البرلمان الفرنسي، وتزايد أصوات الديمقراطيين في السويد، وحزب اليمين في إسبانيا، إلى جانب رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان؛ يعطي دفعة وزخماً لتيارات اليمين المتطرف الأخرى بالتأكيد.
وعلى الرغم من أن الظروف تغيرت بين قرنين، فإنه لا يزال العِرق والدين وكراهية الأغيار (الأعداء)، قواسم مشتركة بين اليمينيين عموماً والمتطرفين منهم على وجه الخصوص.
ومثّل فشل النظام العالمي - حتى الآن - فرصة ثمينة استغلها الشعبويون اليمينيون في السنوات الأخيرة؛ إذ إن فقدان الثقة في قدرة الحكومات على حل المشكلات الاقتصادية والهجرة والأمن، يدفع إلى الاعتماد على «الهوية العميقة» – على مستوى الفرد والجماعة – بوصفه استجابة للشعور بعدم الأمان أو الظلم، ومن ثم يصبح منافساً قوياً لمركزية السلطة.
المشكلة في أوروبا أن فكرة الاتحاد تقوم على الوحدة، والفاشية تنتقد هذه الوحدة وتهددها، فقد هاجمت ميلوني عجز الاتحاد الأوروبي عن تأمين الطاقة والاعتماد على روسيا، وانتقدت بشدة الرئيس الفرنسي ماكرون – وردت له الصاع صاعين - إذ قالت: العار على من قصف ليبيا؛ لأنه كان يقلقه أن تحصل إيطاليا على امتيازات مهمة في مجال الطاقة مع القذافي، وتركونا نواجه فوضى الهجرة غير الشرعية.
وهكذا عدنا إلى مثلث «الاقتصاد» و«الأمن» و«الهجرة». وعلى الرغم من مواقف ميلوني من الحرب في أوكرانيا، وترحيبها بفرض العقوبات ضد روسيا، فإن «ما قبل» الانتخابات قد يختلف عما بعدها، وتحت وطأة الأزمات الداخلية في إيطاليا قد تتراجع ميلوني بدرجة ما، لكن ذلك لا يعني «الانقلاب» على توجهات الغرب. صحيح أن إيطاليا هي ثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، لكن ديونها ثقيلة، ولن تضحي بالمليارات التي تتلقاها من الاتحاد الأوروبي، مما يعني أن مسار إيطاليا قد لا يتغير من منظور الأسواق، أو شركاء البلاد الدوليين على المستوى المنظور والقريب، لكنه يؤشر إلى شيء ما «في الأفق» زُحزح من مكانه. فمع استمرار حالة «عدم اليقين»، وتصاعد المخاوف من المستقبل، فإن الباب بات مفتوحاً على «ما لا يمكن توقعه»، بلغة جاك دريدا. وبمعنى أقرب للوضوح، فإن عدم حسم الحرب في أوكرانيا بالتزامن مع تنامي صعود اليمين المتطرف، قد يدفع بعض دول أوروبا إلى الاقتراب من عدم الانحياز في النظام الدولي، وعندئذ يصدق مفهوم «الحدث» بالمعنى الفلسفي!
* باحث مصري