«السارد العليم» يعود من بوابة ما بعد الحداثة

عودته نكاية بسارتر والحداثيين وبَعْثٌ للمؤلف

«السارد العليم» يعود من بوابة ما بعد الحداثة
TT

«السارد العليم» يعود من بوابة ما بعد الحداثة

«السارد العليم» يعود من بوابة ما بعد الحداثة

في كتابة «فيْسْبوكية»، يبدي الروائي الكويتي طالب الرفاعي، استغرابه من السارد الذي يحيط علماً بكل شيء، ولا تغيب عنه أي شاردة وواردة ذات علاقة بالعوالم التخييلية التي يرويها، بما فيها من شخصيات وأحداث ووقائع وأفعال؛ وفي الوقت نفسه، لا أحد يعرف شيئاً عنه: «يستوقفني في الكثير من الروايات، العربية والأجنبية، أن الراوي يعلم كل شيء عن كل شيء! بينما لا أحد يعرف عنه أي شيء: لا عمره، ولا اسمه، ولا مكان وجوده، ولا علاقته بما يروي! وأتساءل: كيف يقص شخصٌ رواية لا علاقة له فيها؟!».
واضح أن الرفاعي يتحدث عن السارد العليم؛ والشيء الذي أعتقد أنه لا يحتاج إلى تأكيد هو معرفة الرفاعي أن ذلك عرف أجناسي ومن مواضعات الحكي في الرواية وحتى في «حزايات» الجدات، وبالتالي فإن سؤاله الذي اختتم به كتابته مجرد سؤال بلاغي، لا يتطلب إجابة، لأن الإجابة في «بطن» السائل! وربما كان الغرض من كتابته أن يقول بمواربة إنه لا يميل إلى السارد العليم أو حتى لا يحبه؛ أو بطريقة غير مباشرة، يُلَمّحُ إلى تفضيله للسارد بضمير المتكلم المشارك في العوالم التخييلية. لعل هذا التفضيل يَتَخَفى وراء توظيف الرفاعي ليس لساردٍ داخلي واحد فحسب، بل لمجموعة سُراد في روايته الأخيرة «خطفُ الحبيب» على سبيل المثال. لكن ما لفت انتباهي هو تعليق الروائي العراقي عواد علي، الذي أبدى فيه ندمه على توظيف سارد خارجي، كما يفهم منه كلامه، في روايته «نخلة الواشنطونيا» بدلاً من سارد داخلي. يقول في تعليق على ما ذكره الرفاعي: «أتفق معك تماماً أستاذ طالب. شخصياً فعلت ذلك في روايتي (نخلة الواشنطونيا)، وندمت بعد نشرها. الراوي يجب أن يكون شخصية داخل الرواية».
لمَ الندم؟! ولمَ تضييق الواسع بـ«يجب»؟! ففي بيت القص/السرد «the house of fiction» نوافذ كثيرة تطل على الحياة، فما على الكاتب سوى اختيار النافذة المناسبة. لا أتذكر عدد النوافذ في بيت السرد المجازي الذي بناه هنري جيمس. ليس مهماً أنني لا أتذكر. كما لن أشعر بالندم لأنني نسيت عددها، ولن أقول إنني يجب أن أتذكر العدد بدقة. المهم أنني تذكرت الفكرة.
من الممكن القول إن جيمس كان مثل الرفاعي لا يميل إلى السارد العليم الذي يعرف كل شيء، فَتَطَوُرُ أسلوب جيمس في الكتابة الروائية يعكس تَدَرُجه من توظيف هذا السارد ثم إلى العليم المحدود، أو السارد بضمير الغائب المحدود. لقد جرد جيمس السارد العليم من معرفته المطلقة، ومن حضوره المطلق، ومن خاصية التنقل والظهور في أماكن عدة، وذلك بربطه بما سماه الشخصية الوعي المركزي، أو الذكاء المركزي، أو العاكس؛ تقنية اجترحها جيمس نفسه وكان أول من استخدمها، كما في روايته «السفراء»، حيث لامبرت سترثر هو الوعي المركزي، أو الذكاء المركزي، أو العاكس الذي يُدركُ القارئ من خلاله المواقف والأحداث.
وعلى النقيض من جيمس في تعبيره كتابياً وتطبيقياً عن نأيه عن السارد العليم، عبر جان بول سارتر عن نفوره من السارد العليم، أو بالأحرى عن رفضه، بإنكار أن «نهاية الليل» رواية، وأن فرنسوا مورياك روائي. لم يعد مورياك روائياً، ولا روايته رواية كما يقول سارتر في مراجعته لـ«نهاية الليل». إن سبب العنف المجازي والمعنوي الذي مارسه سارتر ضد مورياك وروايته هو باختصار توظيف الأخير للسارد العليم: «(نهاية الليل) ليست رواية.... السيد مورياك ليس روائياً.... ومثل غالبية كُتابِنا، حاول تجاهل حقيقة أن نظرية النسبية تنطبق بالكامل على عالم التخييل، وأنه لم يعد هناك مكان لمراقبٍ ذي حظوة في رواية واقعية ناهيك عن عالم آينشتاين.... لقد وضع السيد مورياك نفسه في البداية. اختار المعرفة الكلية والقدرة الإلهيين...» (فرنسوا مورياك والحرية، 24 - 25).
كان جيمس وسارتر والحداثيون الآخرون ينتمون إلى تيار يرفض السارد العليم امتداداً لرفضهم أو عدم إيمانهم بـ«المطلقيات»، فالمعرفة نسبية، وهذا السارد نفي لها. لهذا غاب السارد العليم من الرواية الحداثية في ذروة الحداثة، حل محله السارد المحدود في معرفته وحركته، وتقنيات تيار الوعي والمونولوج الداخلي. وما زال رفضه مستمراً حتى الآن عند البعض، فها هو يوجين قودهارت يصرح في 2004 بأن «السارد العليم عفا عليه الزمن، وينبغي تَقبُله عندما يُعثَر عليه في أعمال من الماضي، أو ازدراؤه عندما يظهر في عمل معاصر. لم يعد العلم المطلق حقاً للروائي». ويقول تيموثي أوبري عام 2008: «ابتكار حداثي في الأصل، أصبح رفض المعرفة الكلية مبدأً ثابتاً، لا سيما ضمن ما يشار إليه كثيراً باسم الأدب التخييلي متوسط الثقافة».
لكن على الرغم من النفي والتغييب اللذين مورسا ضده، عاد السارد العليم وبقوة من خلال الرواية الأميركية والبريطانية المعاصرة على سبيل المثال، خصوصاً خلال تسعينات القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة. وكانت عودته وأسبابها ودلالاتها موضوع كتاب بول دوسون الموسوم «عودة السارد العليم: التأليف والسلطة في الأدب التخييلي في القرن الواحد والعشرين». عاد السارد العليم، يقول دوسون، في روايات روائيين بارزين، وآخرين حاصلين على جوائز، وروائيين وروائيات جدد: زادي سميث، آدم ثيروِلْ، نيكولا باركر، جوناثان فرانزن، ديفيد فوستر والاس، وريك مودي، توم ولف، سلمان رشدي، مارتن إيمِس، دون ديليلو، غيل جونز وغيرهم.
وعلى نحو لافت، عاد السارد العليم عبر الروايتين الواقعية الهيستيرية و«الأقصوية». يقول ستيفانو إركولينو موضحاً أحد أسباب حضور السارد العليم في الرواية الأقصوية، أو المعرفة الكلية الفائقة، حسب تعريف دون ديليلو: «إن السارد العليم الأقصوي لا تمليه أو تفرضه الحاجة إلى السيطرة على الوفرة الفائضة من المعلومات السردية فحسب، بل يمكن اعتباره جزءاً من مجرة من الاستراتيجيات الخطابية التي ازدهرت في السنوات الأخيرة في محاولة لاسترداد دور المؤلف في نطاق التوصيل الأدبي بعد إعلان رولان بارت موته» (الرواية الأقصوية، 103).
إن عودة السارد العليم هي أحد مساعي الروائي المعاصر لاسترداد صوته، لاسترداد سلطة الروائي الثقافية التي تواجه راهناً تحديات عدة منذ بداية القرن العشرين، من التلفزيون والسينما والتكنولوجيات الجديدة ووسائط الميديا... إلخ. لقد أحدثت هذه التحديات المتزايدة والمتلاحقة الشعور بقلق الإهمال والإحساس بأزمة تهميش وجودية وفقدان السلطة الثقافية والمكانة اللتين كان يتمتع بهما الروائي في القرنين الثامن والتاسع عشر، حسب كاثلين فيتزباتريك في كتابها الموسوم «قلق الإهمال: الرواية في زمن التلفاز».
لقد مات جيمس وسارتر وبارت، ولم يمت السارد العليم الذي «يعلم كل شيء عن كل شيء! بينما لا أحد يعرف عنه أي شيء»، كما يقول الرفاعي!

- كاتب وأكاديمي سعودي


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

منع خبيرة تغذية علاجية «شهيرة» من الظهور في وسائل إعلام مصرية

دعاء سهيل عبر حسابها بموقع «فيسبوك»
دعاء سهيل عبر حسابها بموقع «فيسبوك»
TT

منع خبيرة تغذية علاجية «شهيرة» من الظهور في وسائل إعلام مصرية

دعاء سهيل عبر حسابها بموقع «فيسبوك»
دعاء سهيل عبر حسابها بموقع «فيسبوك»

قرّرت «نقابة الإعلاميين» في مصر منع ظهور دعاء سهيل، المعروفة إعلامياً بـ«خبيرة التغذية العلاجية»، على أي وسيلة إعلام محلية، وذلك لـ«ممارستها النشاط دون قيد أو تصريح من النقابة».

كما قرّر «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» في بيان، الخميس، وبناء على ما أسفرت عنه أعمال «الإدارة العامة للرصد» باستدعاء الممثل القانوني لقناة «النهار» المصرية، لعقد جلسة استماع بشأن ما تم رصده من مخالفات في برنامج «حياتك من الطبيعة»، الذي تم إذاعته، وتقدمه دعاء سهيل، وفق بيان «المجلس»، الذي قرر الإحالة إلى «نقابة الإعلاميين»، لاتخاذ الإجراءات اللازمة طبقاً لقانون النقابة رقم 93 لسنة 2016.

وقبل 3 سنوات، أعلنت وزارة الداخلية المصرية، توقيف دعاء على خلفية ظهورها على بعض القنوات الفضائية، والترويج لتركيبات دوائية تساعد على التخسيس وعلاج النحافة، وجاء في بيان «الداخلية» حينها، أن الإدارة العامة لمباحث المصنفات وحماية حقوق الملكية الفكرية بقطاع الشرطة المتخصصة قامت برصد وتتبع نشاط المذكورة، حيث قامت بإنشاء وإدارة قناة على «السوشيال ميديا»، من دون ترخيص من الجهات المعنية، والترويج لمنتجات علاجية تقوم بتصنيعها، والاتجار في أدوية تصنع من مكونات مجهولة دون اتخاذ الاشتراطات الصحية اللازمة.

وأمرت النيابة العامة بمصر حينها بحبس دعاء سهيل 4 أيام على ذمة التحقيقات، بينما قضت المحكمة الاقتصادية في القاهرة ببراءتها فيما بعد، عقب معاقبتها بالسجن 3 أشهر، وتغريمها مبلغ 100 ألف جنيه، وفق وسائل إعلام مصرية.

وقال استشاري التغذية العلاجية، الدكتور هشام العامري، إن مريض السمنة أو النحافة يتحمل المسؤولية كاملة عن أي أدوية يتناولها، بعد إعلامه بخطورتها ومضاعفاتها، وخصوصاً الأدوية مجهولة المصدر، و«غير المرخصة والمسجلة» بوزارة الصحة المصرية.

الملصق الترويجي لبيان نقابة الإعلاميين على «فيسبوك»

وأكد العامري لـ«الشرق الأوسط» أن بعض أدوية التخسيس مجهولة المصدر تتسبب في ارتفاع ضغط الدم، والصداع الشديد، ومضاعفات صحية خطيرة، خصوصاً لمرضى القلب، قد تؤدي إلى الوفاة، لافتاً إلى أن هذه الأدوية ربما تتعارض مع أدوية أخرى يتناولها المريض، مثل مريض السكري والضغط، وهذه الحالة يطلق عليها طبياً بـ«التفاعل الدوائي الكيميائي»، مما قد يؤدي للوفاة.

ورحب العامري بقرار منع دعاء من الظهور الإعلامي، في حال عدم حصولها على تصريح مزاولة المهنة من «نقابة الأطباء» بمصر، وكذلك ظهورها من دون تصريح «نقابة الإعلاميين»، حرصاً على المشاهدين، وحتى لا يتم الترويج لأدوية أو معلومات خاطئة من دون رقابة.

وتعرف دعاء سهيل نفسها عبر حسابها بموقع «فيسبوك» بأنها حاصلة على دكتوراه من جامعة نيوكاسل ببريطانيا، وماجستير من الجامعة الكندية، ودبلومة من المؤسسة البريطانية في «التغذية العلاجية»، وصاحبة مبادرات «مصر بلا سمنة»، و«أطفال بلا سمنة»، و«شباب أصحاء»، وأول مؤسسي فكرة التخسيس «أون لاين» في مصر.

ووفق حسابها بموقع «فيسبوك»، فقد ألفت دعاء كتاباً بعنوان «التغذية وأثر الوعي والممارسات الغذائية على النمو الجسمي»، كما تم تكريمها من مهرجاني «دير جيست»، و«الفضائيات العربية»، بينما تقدم برنامج «حياتك من الطبيعة»، كما ظهرت في برنامج «بنت البلد»، الذي تقدمه الفنانة نشوى مصطفى على قناة «النهار» المصرية.

وأنذر نقيب الإعلاميين المصريين، الدكتور طارق سعدة، في بيان النقابة، الخميس، الوسائل الإعلامية الرسمية والخاصة، والمرئية والمسموعة، بعدم السماح لأي شخص بممارسة النشاط الإعلامي بها دون قيد أو تصريح، وإلا تعرضت الوسيلة للغلق وفقاً للمادة (89) من قانون النقابة.