فيصل دراج: القول إن العقل العربي طارد للفلسفة «لا معنى له»

الناقد الفلسطيني يقول إن المناهج المدرسية لا تزال تتجاهل الرواية العربية

فيصل دراج
فيصل دراج
TT

فيصل دراج: القول إن العقل العربي طارد للفلسفة «لا معنى له»

فيصل دراج
فيصل دراج

يعدّ الدكتور فيصل دراج أحد أكثر نقاد الأدب العربي صرامة وجدية، فهو يبحث في النص الأدبي عن مصادر توهجه الفلسفية، في إطار رؤية ثقافية مهمومة بالجماليات الأدبية. حصل على الدكتوراه في السبعينات من فرنسا حول «الاغتراب بين هيجل وماركس». ولعبت مؤلفاته في النظرية الأدبية دوراً تأسيسياً في خريطة النقد العربي، ومنها «الرواية وتأويل التاريخ»، و«الواقع والمثال» عن علاقة الأدب والسياسة، و«الشر والوجود» عن فلسفة نجيب محفوظ الروائية. وتناول مشروع طه حسين في كتابه «طه حسين وتحديث الفكر العربي»، وكتب عن التجارب الأدبية الجادة كما في كتابه «جبرا إبراهيم جبرا».
وهنا حوار معه حول معظم هذه الأعمال، ورؤيته النقدية للحياة الأدبية العربية:
> يحمل كتابك الأخير: «الشر والوجود... فلسفة نجيب محفوظ الروائية» تساؤلاً مركزياً عما إذا كان العمق الفلسفي هو سر توهّج الإبداع المحفوظي، فما الذي انتهيت إليه؟ وهل هناك أسباب أخرى منحت محفوظ تلك المكانة عربياً وعالمياً؟
- كان محفوظ شغوفاً بالفلسفة منذ أن كان طالباً في جامعة فؤاد الأول («القاهرة» فيما بعد)، وأراد التخصص في التصوّف، بيد أن الرواية في ذاتها لا تقوم على المعرفة الفلسفية؛ لأنها - كما يقال - جنس كتابي «يتوسّل» ألوان المعرفة جميعاً التي تتضمن الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ. وأكثر من ذلك، الرواية لا تنتج فلسفة مباشرة، وإلا فقدت تميّزها، إنما تُـنتج فلسفة روائية متسائلة؛ تشير إلى الوجود وتحجبه، تومئ إليه وتحوّله إلى سؤال.
والمعرفة الفلسفية وحدها لا تفضي إلى «توهّج إبداعي»، والدليل على ذلك أن الفرنسي جان بول سارتر كان فيلسوفاً عظيماً وروائياً محدوداً، كما أن فلسفة النمساوي روبرت موزيل قادت إلى روايته الكبيرة: «رجل بلا صفات» الرمادية القراءة.

آمن محفوظ بقوة المعرفة الإنسانية وبمحدوديّتها أيضاً، فهناك دائماً ما لا سبيل إلى معرفته، وهذا الحوار المفتوح بين المعلوم والمجهول، في أشكاله الروائية، سرّ توهّج محفوظ الروائي.
> رغم الجهد المدهش الذي تضمنه الكتاب، فإن بعض الناس يردد أن «عميد الرواية العربية» قُتل بحثاً، وكان أولى بالدكتور درّاج أن ينتبه إلى الأجيال اللاحقة من الأدباء...
- كل إنسان حر فيما يذهب إليه، وأنا واحد من هؤلاء الناس. فالأستاذ محفوظ حالة خاصة في الإبداع الروائي ولا يشبه غيره؛ متعدد، متجدّد، متنوع، وتعدديّته الكتابية تترك مجالاً واسعاً للتأويل والاجتهاد. كما أن تنوّع المراجع المعرفية في مقاربة نصوصه يفتح آفاقاً جديدة في دراسات «النقّاد»، بعضها جيد، وآخر لصيق بـ«الملخّصات المدرسية»!
والحق يقال؛ إنني دخلت إلى عوالم محفوظ من باب «الإيمان»، وهي كلمة مُرهقة مُقلقة؛ ذلك أنني رأيته روائياً بصيغة الجمع؛ أعاد تأسيس الرواية العربية، جدّدها، وطوّر أشكالها، ومنحها أبعاداً كونية. ولا أظن أن محفوظ «قُتل بحثاً»، وأدوات القتل متعددة، وخلال مدة إعداد كتابي عنه (أربع سنوات) لم أعثر إلا على مراجع مفيدة قليلة.
> «الاغتراب بين ماركس وهيجل» كان موضوع رسالة الدكتوراه التي حصلت عليها من فرنسا عام 1974، ما الذي جذبك إلى هذا الموضوع؟
- حفظتُ من أمي صغيراً تعبير: «عُثار الغربة»، وعلمني أستاذي الرفيع المقام الدكتور عبد الكريم اليافي، في جامعة دمشق، كلمة: «الاغتراب»، وهو ليس مجرد كلمة. وأشعرني وضع اللجوء الفلسطيني باختلافي عن «الآخرين» وغربتي عنهم. جعلت وجوه الحياة موضوع الاغتراب حاضراً في روحي قبل القراءة عنه. شرحه لي ماركس الشاب باستفاضة في كتابه «المخطوطات الاقتصادية - الفلسفية»، وتعلّمت من كتاب هيجل «فينومينولوجيا الروح» الفروق بين الاغتراب، والتموضع، والتشيّؤ، والفكرة المطلقة، وتحوّلات الزمن. وعيتُ بعد هذا كله أن الاغتراب هو النقص، والسلْب، والتشوّه، و«فقدان الإنسان لجوهره». كان جوهري - وطنياً - مستلباً، وما زال النقص الذي يمليه الاغتراب يتابعني إلى اليوم!
> إذن كيف ترى حضور كل من هذين الفيلسوفين تحديداً في الثقافة العربية؟
- هو حضور مبتسر أو مجزوء؛ فقد قال هيجل بالديالكتيك؛ أي الحركة الذاهبة من شكل إلى آخر، وعالمنا العربي يتميّز - للأسف - بالجمود والمحافظة! وقال ماركس بالصراع الطبقي، وطبقات العالم العربي «غائمة»؛ لأنها تُختصر إلى مرجع أعلى يضع نفسه فوق الطبقات، ويصادر طبقة ويطلق أخرى! ورغم غياب الفضاء السياسي، بالمعنى المتعارف عليه بين الشعوب، فإن الفكر العربي أنتج محاولات مجتهدة لفهم وتحليل كل من هيجل وماركس، منها ما حاوله مجاهد عبد المنعم مجاهد وعبد الفتاح الديدي من مصر، وطيب تيزيني من سوريا، وحسين مروة ومهدي عامل من لبنان، والصديق الراحل حديثاً صادق العظم... وغيرهم من عرب آخرين.
> ما دامت الفلسفة تخصصك الأكاديمي طالباً وباحثاً، فلِمَ برأيك لم تفرز ثقافتنا العربية الحالية تياراً فلسفياً عميقاً يحظى بحضور لافت؟ وهل لسطوة التراث علاقة بالأمر؟
- أفرزت ثقافتنا العربية الإسلامية القديمة ظواهر فلسفية، مثل المعتزلة، وابن سينا، والفارابي، وابن رشد...
إن التراث في عالم عربي «أحاديّ القرار» لا يوجد مستقلاً في ذاته؛ فهو موجود في أجهزة السلطات التي تساوي بين الفلسفة وحرية الفكر «غير المرغوب» فيها. وكي لا نسهب في الإجابة، أقول إن الفلسفة تزدهر في مجتمع يعترف بتعددية العقول، ويساوي بين المعارف جميعاً، ولا يضع المعرفة الدينية فوق غيرها من المعارف، كما لو كانت «علماً للعلوم».
وباختصار؛ فإن الحاضنة الثقافية الاجتماعية التي تقبل بالنشاط الفلسفي أو تنهى عنه، هي في العالم العربي أثر من آثار «السياسة التربوية» التي تشرف عليها السلطات المختلفة، وهي سياسية؛ ولهذا فإن القول إن «العقل العربي في ذاته طارد للفلسفة» لا معنى له؛ فالعقل موزّع بين جميع البشر بنسب متساوية.
> منذ أواخر السبعينات حتى بداية الألفية الجديدة، انخرطت في العمل بعدد من مراكز الأبحاث في بيروت ودمشق... ما الذي يتبقى من تلك المرحلة؟ وهل ثمة مراجعات فكرية قمت بها إزاء أفكارك وتصوراتك؟
- تبقّت بعض الذكريات عن بعض البشر؛ فقد كانت «سياسات البحث العلمي» موسمية فقيرة المحتوى. لم تكن هناك حدود واضحة بين القضايا العملية و«المقاربات النظرية»، إضافة إلى تسلّط الآيديولوجي الزائف على العلمي المفيد. كما غابت الفروق بين مراكز الأبحاث ودور النشر العامة، وكان لكل مركز مرجع أعلى «ينصح» الباحث مرة واحدة. أستثني من ذلك تعاوني مع الليبرالي الفلسطيني الدكتور أنيس صايغ الذي تطلّع إلى سياسة بحثية فاعلة، تسهم في التعرّف على الوقائع الإسرائيلية، وقد سخر منه «إداريون فلسطينيون»، ونفوه بصفة: «ابن كمبردج»؛ الجامعة الإنجليزية التي تخرج فيها، وغادرت مركز الأبحاث الفلسطينية حين غادره «ابن كمبردج»!
يجب التذكير بأنني عملت في مراكز قومية وماركسية وليبرالية، وآثرت دائماً صفة: «باحث غير متفرّغ»، يقدم كماً من العمل متفَقاً عليه، ويغادر حين يريد. وراجعت نفسي في أمرين: التهاون في فهم الحاضر وعدم التدقيق في مدى سيطرة الماضي عليه، ووهمي بوجود فروق حقيقية بين «التقدمي» و«الرجعي»، وبين القومي والماركسي، إلى أن أدركت أن «المرتبة السلطوية» تمحو الفروق بين الآيديولوجيات، وأن المرتبة «الإدارية» تُجانس بين الأكاديمي والجاهل والفلاح وابن المدينة، والمنتمي إلى طرفة بن العبد، والآخر الذي «يلهو» باسم ماركس أو غرامشي!
لم يتهمني أحد منذ شبابي الأول إلى اليوم بالتفاؤل. ومع أنني كنتُ ماركسياً - ولا أزال على طريقتي - فإني لم أعتقد بتقدم التاريخ، ولا بدور «المثقف الرسولي» الواعد بأحلام كبيرة؛ ذلك أن دور المثقف أن يدافع عن العدل والحرية والاستقلال الوطني، بالكتابة طبعاً، وأن يلتحف بهامشيته، ويسائل «نظرية في الرواية العربية»، ويحرص على ألا تتطاير في الفضاء.
> عشتَ في سوريا مدة طويلة قبل أن تتركها منذ سنوات، كيف ترى تأثير الحرب على الرواية السورية حالياً ومستقبلاً؟ وهل تتوقع زخماً أدبياً على غرار ما خلفته الحرب الأهلية في لبنان؟
- عَرفتْ سوريا منذ زمن روائيين متميّزين، مثل هاني الراهب، وخير الذهبي، وحنا مينة، ونبيل سليمان، والدكتور خليل النعيمي الذي استقر في باريس منذ زمن طويل. هناك من أعطوا خلال الحرب الأهلية وبعدها نصوصاً متميّزة؛ حال: خليل صويلح، المتميّز بجدارة، وخالد خليفة وعبير إسبر، وهناك مغترب آخر لا تعوزه الموهبة هو فواز حداد الذي شاء مرة أن يكون «ذاكرة دمشق القديمة». أمّا ما يُدعى الزخم الأدبي المنتظر، فيحتاج إلى الاستقرار الاجتماعي الذي لم تحظَ به سوريا - للأسف - إلى اليوم.
> أنت أحد أكثر نقادنا الذين تابعوا الرواية العربية تنظيراً وتطبيقاً... كيف ترى المشهد الروائي حالياً؟ ولماذا تبدو متحفظاً على المقولة التي أطلقها صديقك الراحل الدكتور جابر عصفور: «زمن الرواية»؟
- لا أدّعي الآن مطلقاً أني أتابع الرواية العربية، كما كنتُ أفعل سابقاً؛ لذا أتقدم بأحكام جزئية. في فترة سبقت، كنا نقرأ جديد الرواية العربية في أسماء روائية مركزها القاهرة. انتقلت الآن الرواية من أحادية المركز إلى تعددية المراكز؛ هناك الظاهرة اللبنانية، وروايات من المغرب العربي جديرة بالقراءة، وروايات تأتي من اليمن والسعودية والبحرين والكويت، وغيرها من البلدان. وهناك أيضاً «التحرّر من النهج الواقعي»، واختيار مناهج سلبية أو إيجابية. وهناك طبعاً اتساع «تسويق الرواية» اعتماداً على معايير «الإعلانات والدعاية والنقد المسلوق»، والتباهي بالكمّ، وهو معيار متخلّف!
وبالنسبة إلى قول الدكتور جابر عصفور عن «زمن الرواية»، أختصره بما يلي: إذا كانت الرواية واقعة اجتماعية - كما نقول في النقد الأدبي - وكان الواقع العربي مراوحاً في قديمه، أو يتقهقر «مطمئناً»، فمن أين يأتي «زمن الرواية» إن كان زمن المجتمع كله لا تغيير فيه؟!
فسّر جابر «الظاهرة الروائية» بـ«الظاهرة الروائية»، ونسي أن الحديث عنها يستلزم الحديث عن تطور الوعي الاجتماعي؛ فالرواية جنس أدبي حديث تلازمه ظواهر حديثة، لكننا نلاحظ ألا تبدّل في الذوق الفني والأدبي في العالم العربي، ولا تراجع للثقافة التقليدية التي «تتطيّر» من كل جديد. ولا تزال الرواية «مطرودة» من المناهج المدرسية المختلفة، وأقرب ما تكون إلى جنس أدبي مغترب يكتبه مغتربون.
> تقول إن الرواية العربية في العَقد الأول من الألفية الثالثة لم يتجاوز مستواها إبداع الستينات؛ لأنه لا يوجد من تجاوز نجيب محفوظ، أو تجريب صنع الله إبراهيم، أو إميل حبيبي... ألا تخشى أن يتهمك بعض الناس بالتجنّي أو التعميم؟
- يرفض حكمي «النرجسيون الفقيرو الثقافة»، ويقبل به المبدعون الجادون. لم يتجاوز محفوظَ أحد، وهذا بداهة عاقلة. كما أن عَقد الستينات من القرن الماضي أنتج علامات روائية فارقة، أو لنقلْ «اقتراحات»: قام جمال الغيطاني بترهين الموروث روائياً، واجتهد صنع الله في تجديد المعمار الروائي، ومزج إميل حبيبي بين الرواية والمقامة، ورسم غالب هلسا «سيرة الحياة اليومية»... لا وجود لهذه الاقتراحات، ولا ما هو أقل منها في رواية الأجيال الجديدة. والحق أنه يوجد أفراد مبدعون لا يمكن اختصارهم في «عمومية الأجيال الجديدة»؛ فلا وجود لـ«أجيال» مبدعة، الذي هو تعبير يلبي «النوايا الطيبة»، فما يوجد يتمثّل بـ«الأفراد».
> كيف ترى المشهد الأدبي الفلسطيني؟ وهل النظر إليه بوصفه «توثيقاً» لمأساة أضرّ به؟
- فرضت الاستثنائية الفلسطينية ربطاً عضوياً بين الصعود الوطني السياسي وصعود الأدب الفلسطيني المرتبط به، وآية ذلك ستينات القرن الماضي التي شهدت «تألقاً» في الشعر والرواية. أمّا اليوم، فلا ينافس «تواضع الأدب الفلسطيني» إلا تراجع الأداء الإداري السلطوي. يظل هناك أفراد يكسرون القاعدة.
أما بالنسبة إلى دور «التوثيق» الضار، فأنا أذهب في اتجاه معاكس؛ فقد تراجع الأدب الفلسطيني حين اكتفى بـ«الفكرة» والميلودراما، وصعد حين صيّر «التوثيق» متخيلاً أدبياً خصيباً... «غسان وجبرا وإميل وحسين البرغوثي». المشهد الأدبي الفلسطيني اليوم لا يدعو عامة إلى المسرّة.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك
TT

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

قليلاً ما يتحول حفل تكريم مبدع كبير إلى احتفاءٍ بكل الحلقة الخلاّقة التي تحيط به. هذا يتطلب رقياً من المكرّم والمنظمين، يعكس حالةً من التسامي باتت نادرة، إن لم تكن مفقودة.

فمن جماليات حفل تكريم الشاعر الفذّ طلال حيدر على «مسرح كركلا»، برعاية وزير الإعلام اللبناني زياد المكاري وحضوره، الأحد الماضي، هذا التحلق اللافت لجمع من الشعراء وأهل الفكر والثقافة والفنانين والإعلاميين، حول شاعرهم الذي رفد الأغنية اللبنانية بأجمل القصائد، وأغنى الشعر بصوره المدهشة وتعابيره المتفجرة.

طلال حيدر قبل التكريم مع الفنان عبد الحليم كركلا ووزير الإعلام زياد المكاري

طربيه ودور البطل

قدم الحفل الممثل القدير رفعت طربيه الذي هو نفسه قيمة فنية، معتبراً أن حيدر «كان دائماً البطل الأول على (مسرح كركلا). فهو ابن الأرض، وابن بعلبك، لكنه في الوقت عينه واكب الشعر العالمي ودخل الحداثة فكراً وصورةً وإيقاعاً، راكباً صهيل الخيل». فليس شائعاً أن يترجم شاعر بالعامية إلى لغات أجنبية كما هي دواوين المكرّم وقصائده.

عبد الحليم كركلا مع الشاعر نزار فرنسيس (خاص - الشرق الأوسط)

ومن أرشيف المايسترو عبد الحليم كركلا، شاهد الحضور فيلماً قصيراً بديعاً، عن طلال حيدر، رفيق طفولته ودربه طوال 75 عاماً. قال كركلا: «لقاؤنا في طفولتنا كان خُرافياً كَأَسَاطِيرِ الزَمَان، غامضاً ساحراً خارجاً عن المألوف، حَصَدنَا مَواسم التراث معاً، لنَتَكَامل مع بعضنا البعض في كل عمل نبدعه».

فيلم للتاريخ

«طلال حيدر عطية من عطايا الله» عنوان موفق لشريط، يظهر كم أن جيل الستينات الذي صنع زهو لبنان ومجده، كان متآلفاً متعاوناً.

نرى طلال حيدر إلى جانبه كركلا، يقرآن قصيدة للأول، ويرسمان ترجمتها حركةً على المسرح. مارسيل خليفة يدندن نغمة لقصيدة كتبها طلال وهو إلى جانبه، وهما يحضّران لإحدى المسرحيات.

لقطات أثيرة لهذه الورشات الإبداعية، التي تسبق مسرحيات كركلا. نمرّ على مجموعة العمل وقد انضم إليها سعيد عقل، ينشد إحدى قصائده التي ستتحول إلى أغنية، والعبقري زكي ناصيف يجلس معه أيضاً.

عن سعيد عقل يقول حيدر: «كنا في أول الطريق، إن كان كركلا أو أنا، وكان سعيد عقل يرينا القوى الكامنة فينا... كان يحلم ويوسّع حلمه، وهو علّمنا كيف نوسّع الحلم».

في أحد المشاهد طلال حيدر وصباح في قلعة بعلبك، يخبرها بظروف كتابته لأغنيتها الشهيرة «روحي يا صيفية»، بعد أن دندن فيلمون وهبي لحناً أمامه، ودعاه لأن يضع له كلمات، فكانت «روحي يا صيفية، وتعي يا صيفية، يا حبيبي خدني مشوار بشي سفرة بحرية. أنا بعرف مش رح بتروح بس ضحاك عليي».

في نهاية الحوار تقول له صباح: «الله ما هذه الكلمات العظيمة!»، فيجيبها بكل حب: «الله، ما هذا الصوت!» حقاً ما هذا اللطف والتشجيع المتبادل، بين المبدعين!

كبار يساندون بعضهم

في لقطة أخرى، وديع الصافي يغني قصيدة حيدر التي سمعناها من مارسيل خليفة: «لبسوا الكفافي ومشوا ما عرفت مينن هن»، ويصرخ طرباً: «آه يا طلال!» وجوه صنعت واجهة الثقافة اللبنانية في النصف الثاني من القرن العشرين، تتآلف وتتعاضد، تشتغل وتنحت، الكلمة بالموسيقى مع الرقصة والصورة. شريط للتاريخ، صيغ من كنوز أرشيف عبد الحليم كركلا.

المقطع الأخير جوهرة الفيلم، طلال حيدر يرتجل رقصة، ويترجم بجسده، ما كتبه في قصيدته ومعه راقصو فرقة كركلا، ونرى عبد الحليم كركلا، أشهر مصمم رقص عربي، يرقص أمامنا، هذه المرة، وهو ما لم نره من قبل.

عبد الحليم كركلا يلقي كلمته (خاص - الشرق الأوسط)

روح الألفة الفنية هي التي تصنع الإبداع. يقول حيدر عن تعاونه مع كركلا: «أقرأه جيداً، قرأنا معاً أول ضوء نحن وصغار. قبل أن أصل إلى الهدف، يعرف إلى أين سأصل، فيسبقني. هو يرسم الحركة التصويرية للغة الأجساد وأكون أنا أنسج اللغة التي ترسم طريق هذه الأجساد وما ستذهب إليه. كأن واحدنا يشتغل مع حاله».

طلال حيدر نجم التكريم، هو بالفعل بطل على مسرح كركلا، سواء في صوغ الأغنيات أو بعض الحوارات، تنشد قصائده هدى حداد، وجوزف عازار، وليس أشهر من قصيدته «وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان» التي غنتها فيروز بصوتها الملائكي.

أعلن رئيساً لجمهورية الخيال

طالب الشاعر شوقي بزيع، في كلمته، بأن ينصّب حيدر «رئيساً لجمهورية الخيال الشعري في دولة لبنان الكبير» بصرف النظر عمن سيتربع على عرش السياسة. ورغم أن لبنان كبير في «الإبداعوغرافيا»، كما قال الشاعر هنري زغيب، فإن طلال حيدر «يبقى الكلام عنه ضئيلاً أمام شعره. فهو لم يكن يقول الشعر لأنه هو الشعر».

وقال عنه كركلا: «إنه عمر الخيام في زمانه»، و«أسطورة بعلبك التي سكبت في عينيه نوراً منها، وجعلت من هيبة معابدها حصناً دفيناً لشعره». وعدَّه بطلاً من أبطال الحضارة الناطقين بالجمال والإبداع. سيعيش دوماً في ذاكرة الأجيال، شعلةً مُضيئةً في تاريخ لبنان.

الفنان مارسيل خليفة الذي تلا كلمته رفعت طربيه لتعذّر حضوره بداعي السفر، قال إن «شعره مأخوذ من المتسكعين والباعة المتجولين والعاملين في الحقول الغامرة بالخير والبركة». ووصفه بأنه «بطل وصعلوك في آن، حرّ حتى الانتحار والجنون، جاهليّ بدويّ فولكلوريّ خرافيّ، هجّاء، مدّاح، جاء إلى الحياة فتدبّر أمره».

وزير الإعلام المكاري في كلمته توجه إلى الشاعر: «أقول: طلال حيدر (بيكفّي). اسمُك أهمّ من كلّ لقب وتسمية ونعت. اسمُك هو اللقب والتسمية والنعت. تقول: كبروا اللي بدهن يكبروا، ما عندي وقت إكبر. وأنا أقول أنتَ وُلِدْتَ كبيراً»، وقال عنه إنه أحد أعمدة قلعة بعلبك.

أما المحامي محمد مطر، فركزّ على أن «طلال حيدر اختار الحرية دوماً، وحقق في حياته وشعره هذه الحرية حتى ضاقت به، لذا أراه كشاعر فيلسوف ناشداً للحرية وللتحرر في اشتباكه الدائم مع تجليات الزمان والمكان».

الحضور في أثناء التكريم (خاص - الشرق الأوسط)

وفي الختام كانت كلمة للمحتفى به ألقاها نجله علي حيدر، جاءت تكريماً لمكرميه واحداً واحداً، ثم خاطب الحضور: «من يظن أن الشعر ترف فكري أو مساحة جمالية عابرة، إنما لا يدرك إلا القشور... الشعر شريك في تغيير العالم وإعادة تكوين المستقبل».