تجددت الاحتجاجات في كبريات المدن الإيرانية، الخميس، غداة ليلة صاخبة عاشتها أكثر من 100 مدينة إيرانية، وسط هتافات غاضبة استهدفت المسؤول الأول في النظام علي خامنئي، وقالت منظمة حقوقية إن عدد القتلى في صفوف المحتجين وصل إلى 31، في وقت حذر فيه «الحرس الثوري» من الاحتجاجات، مطالباً القضاء بمواجهة «من ينشرون الإشاعات»، وصعدت القوات الإيرانية من مستوى التأهب في مواجهة الغضب الشعبي إثر موت الشابة مهسا أميني أثناء احتجازها لدى الشرطة.
وأطلق الموت المأساوي لأميني العنان لغضب عارم بين السكان وأدى لاندلاع أسوأ احتجاجات تشهدها إيران منذ عام 2019، وأظهرت تسجيلات فيديو صباح الخميس انتشاراً واسعاً للقوات الأمنية في كبريات المدن؛ بما فيها طهران وقم وتبريز شمال غربي البلاد. ومع حلول الظلام عادت الاحتجاجات إلى طهران ومدن أخرى. واستمرت مناوشات عنيفة بين قوات الأمن والمحتجين لوقت متأخر الأربعاء في عشرات المدن الإيرانية؛ غالبيتها في محافظتي مازندران ورشت الشماليتين. وأظهرت مقاطع الفيديو قيام حشود مسلحة بهراوات وحجارة بمهاجمة فردي أمن على دراجة نارية وسط ترديد للهتافات. وذلك بعدما انطلقت من المناطق الشمالية الغربية، ذات الأغلبية الكردية التي تتحدر منها مهسا أميني.
كما أعرب المحتجون عن غضبهم إزاء المرشد الإيراني علي خامنئي. وشوهد حشد يهتف في طهران: «مجتبى... نتمنى أن تموت قبل أن تصبح زعيماً أعلى»، في إشارة إلى نجل خامنئي الذي يعدّ مرشحاً لخلافة والده على رأس المؤسسة السياسية الإيرانية.
وشهدت منطقة «ولي عصر» ومحيط جامعة طهران وسط العاصمة، كراً وفراً بين قوات مكافحة الشغب وحشود المحتجين. كما عكس بعض التسجيلات من المدن الإيرانية حرق مراكز ومركبات للشرطة بعدما أجبر المتظاهرون قوات الأمن على التراجع. وقدرت «رويترز» حرق مركزين للشرطة، أحدها بمدينة مشهد؛ مسقط رأس المرشد الإيراني علي خامنئي. واشتعلت النيران في مركز شرطة آخر بالعاصمة طهران.
وأظهر مقطع فيديو نشره حساب «تصوير 1500»، الذي يركز على احتجاجات إيران ووصل عدد متابعيه إلى نحو مائة ألف على «تويتر»، قيام محتجين في منطقة أحمد آباد بمدينة مشهد، بالهتاف: «نموت نموت وتعود إيران» بالقرب من مركز للشرطة تشتعل فيه النيران.
من جهتها، أفادت وزارة الصحة الإيرانية، في أول موقف لها منذ اندلاع الاحتجاجات، بأن 61 سيارة إسعاف تعرضت لـ«التخريب» على يد المحتجين، دون الإشارة إلى عدد القتلى والجرحى في الاحتجاجات العامة.
وتدوول مقطع فيديو يظهر تصاعد ألسنة لهب من سيارة إسعاف، ويتضح من الفيديو اقتراب المتظاهرين من البوابة الخلفية لإنقاذ معتقلين، في تأكيد لمعلومات سابقة عن استخدام قوات الأمن سيارات الإسعاف في عملية نقل الموقوفين.
ويسمع في بعض تسجيلات الفيديو، التي نشرها ناشطون على شبكات التواصل، دوي إطلاق نار ممتد في طهران وبعض المدن الإيرانية. وكانت اللوحات الإعلانية العملاقة واللافتات التي ترفع عادة أمام المقار الحكومية، هدفاً للحرق أو التمزيق على يد المحتجين الغاضبين.
وقالت «رويترز» إن «الاضطرابات» امتدت أيضاً إلى ما لا يقل عن 50 مدينة وبلدة في أنحاء البلاد، فيما أشارت «بي بي سي» الفارسية، التي تتابع الأحداث من كثب، إلى 80 مدينة. واستخدمت الشرطة القوة لتفريق المتظاهرين.
ارتفاع الضحايا
وقالت «منظمة حقوق الإنسان» في إيران، التي تتخذ من أوسلو مقراً لها، إنها رصدت مقتل 31 شخصاً حتى نهاية اليوم الخامس من الاحتجاجات إثر موت الشابة مهسا أميني أثناء احتجازها لدى الشرطة.
وقالت مصادر محلية للمنظمة إن 11 من المحتجين سقطوا بنيران قوات الأمن في مدينة آمل الشمالية مساء الأربعاء. وأشارت المصادر إلى اعتقال 66 متظاهراً بينهم 6 نساء. كما أشارت المنظمة إلى مقتل 6 آخرين في مدينة بابُل في محافظة مازنداران.
وناشدت المنظمة في بيان لها المجتمع الدولي ممارسة الضغوط على الحكومة الإيرانية لمنع ارتفاع عدد الضحايا.
وقبل ساعات من بيان المنظمة، أفادت وكالة الصحافة الفرنسية، نقلاً عن التلفزيون الرسمي الإيراني، بأن «17 شخصاً؛ من بينهم متظاهرون وشرطيون، لقوا حتفهم في أحداث الأيام الأخيرة». وارتفع عدد قتلى قوات الأمن إلى 5 بعدما أكدت السلطات مقتل 4 منهم ليلة الأربعاء. وأفادت تقارير لمنظمة «هه نغاو» الكردية الحقوقية، لم يتسن لـ«رويترز» التحقق منها، بأن عدد القتلى في المناطق الكردية ارتفع إلى 15 شخصا كما ارتفع عدد المصابين إلى 733. وينفي المسؤولون أن تكون «قوات الأمن هي من قتلت المحتجين، ويقولون إنهم ربما قُتلوا برصاص مسلحين معارضين»، لكن العديد من تسجيلات الفيديو تظهر قوات الأمن أثناء الإطلاق المباشر على المحتجين. وقال مسؤول من مازندران إن 76 من أفراد قوات الأمن أصيبوا في المحافظة خلال الاحتجاجات، بينما أعلن قائد شرطة كردستان إصابة أكثر من 100 فرد من قوات الأمن.
رواية «الحرس الثوري»
وصعدت قوات من الشرطة، وتساندها قوات الباسيج و«الحرس الثوري»، من القمع ضد المحتجين.
وفي غضون ذلك، دعا جهاز «الحرس الثوري» السلطة القضائية إلى محاكمة «الذين ينشرون أخباراً كاذبة وإشاعات» عن واقعة موت مهسا أميني التي «فارقت الحياة بعد إصابتها بأزمة قلبية أثناء احتجازها لدى الشرطة». وقالت السلطات إنها ستفتح تحقيقاً للوقوف على سبب الحادث.
وقال «الحرس الثوري» في بيان: «طلبنا من السلطة القضائية تحديد من ينشرون أخباراً وإشاعات كاذبة على وسائل التواصل الاجتماعي وكذلك في الشارع، والذين يعرضون السلامة النفسية للمجتمع للخطر، والتعامل معهم بكل حسم». وتحدث بيان «الحرس الثوري» عن «فتنة» و«مؤامرة للأعداء»، متهماً تلك الأطراف التي لم يحددها بأنها «وراء حشد وتنظيم وتدريب كل الطاقات المهزومة والمبعثرة وتسليحها بالعنف والسلوك الداعشي».
يأتي ذلك في وقت واصلت فيه وسائل الإعلام الرسمية الإصرار على التقليل من حجم الاحتجاجات، ووصفتها بالمحدودة والمتقطعة وبمشاركة قليلة.
وبالتزامن مع قطع الإنترنت، ظهرت مؤشرات على لجوء السلطات إلى حشد أنصارها ضد الاحتجاجات. وانتشرت فيديوهات تظهر عدداً من الأشخاص في مشهد يرددون أناشيد مؤيدة للنظام. وأفادت وسائل إعلام إيرانية بأنه من المقرر أن تخرج مظاهرات مؤيدة للحكومة اليوم الجمعة. ونشرت شبكات «تلغرام» مرتبطة بـ«فيلق القدس» ملصقات من شعارات؛ دعت أنصار النظام إلى ترديدها أثناء الاحتجاجات. وتستهدف غالبيتها وسائل الإعلام التي تغطي الاحتجاجات بشكل مستقل.
وقالت افتتاحية صحيفة كيهان المتشددة: «إرادة الشعب الإيراني هي: لا تتركوا المجرمين». وقالت الصحيفة؛ التي يختار رئيس تحريرها المرشد الإيراني، إن «الشعب الثوري سينزل إلى الساحة قريباً». وقالت إن «مواصفات الاضطرابات تشير إلى أن مثيري الشغب منظمون ومدربون». وأضافت أن «من يديرون المشهد يحاولون تنشيط الدواعش المحليين المشاركين في فتنة 2009 واضطرابات نوفمبر 2019».
ونقلت «رويترز» عن وكالتي «تسنيم» و«فارس» التابعتين لـ«الحرس الثوري» أن أحد أعضاء منظمة «الباسيج» شبه العسكرية الموالية للحكومة، قُتل طعنا في مدينة مشهد بشمال شرقي البلاد الأربعاء. ونشرت الوكالتان تقارير حادث الطعن على موقع «تلغرام»؛ إذ لا يمكن الوصول إلى موقعيهما الإلكترونيين. وقالت «تسنيم» أيضاً إن عضواً آخر من «الباسيج» قُتل الأربعاء في مدينة قزوين نتيجة إصابته بعيار ناري على أيدي «مثيري الشغب والعصابات».
وقال محافظ طهران، محسن منصوري: «سنتعامل بقوة مع كل من يريد إضعاف الشرطة»، مضيفاً أن تلك القوات «من أركان النظام».
ونقل موقع «خبر أونلاين» الإيراني عن منصوري قوله إن قضية موت أميني «يجب ألا تتحول إلى ذريعة لتضعيف قوات الشرطة»، وأضاف: «حتى الآن؛ لا توجد وثيقة أو دليل على إهمال وذنب قوات الشرطة، على الرغم من أن القضية ما زالت قيد التحقيق من قبل الجهات المسؤولة».
تقييد الإنترنت
وفي ظل غياب مؤشرات على تراجع حدة الاحتجاجات، قامت السلطات بتقييد الوصول إلى الإنترنت. وقالت مجموعة «نتبلوكس»، المعنية بمراقبة تعطيلات خدمات الإنترنت، على «تويتر» إنه تم تسجيل تعطل جديد للإنترنت عبر الهاتف الجوال في إيران، في إشارة محتملة إلى أن السلطات قد تخشى من اشتداد حدة الاحتجاجات.
وقالت وكالة «فارس» التابعة لـ«الحرس الثوري» إن «لجنة الأمن القومي» قررت حجب «إنستغرام» و«واتساب» منذ ليلة أول من أمس. وذكرت الوكالة أنه «لم يتضح كم يستغرق تنفيذ القرار، لكن الإجراءات المتضادة مع الأمن القومي في هذه الشبكات على يد المعادين للثورة وعدم تعاون هذه المنصات، من بين أسباب اتخاذ القرار».
بدوره، رد تطبيق «واتساب» للتراسل على الاتهامات التي طالته من ناشطين إيرانيين بالتعاون مع السلطات. وقال التطبيق إنه يعمل على إبقاء المستخدمين الإيرانيين على اتصال عبر التطبيق، وإنه سيفعل كل ما هو متاح في قدراته الفنية لمواصلة الخدمة والحفاظ على استمراريتها. وأضاف التطبيق أنه لا يقوم بحجب أي أرقام هاتف إيرانية.
ولليوم الثالث على التوالي، أعلنت مجموعة «أنونيموس»، أمس، على «تويتر» عن اختراق نحو ألف كاميرا مراقبة تابعة للمؤسسات الحكومية الإيرانية، وذلك بعد هجمات واسعة أعلنتها المجموعة ضد المواقع الحكومية الإيرانية.
تنديد أممي وعقوبات
ولعبت النساء دوراً بارزاً في الاحتجاجات؛ إذ يقمن بالتلويح بأغطية رؤوسهن وحرقها، وقامت بعضهن بقص شعرهن في الأماكن العامة.
فرضت الولايات المتحدة أمس عقوبات على «شرطة الأخلاق» في إيران واتهمتها بالإساءة للنساء واستخدام العنف ضدهن وانتهاك حقوق المتظاهرين السلميين. وحملت «شرطة الأخلاق» مسؤولية موت أميني. وأعلنت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، في بيان، أن هذه العقوبات تستهدف «(شرطة الاخلاق) الإيرانية وكبار المسؤولين الامنيين الإيرانيين المسؤولين عن هذا القمع». وشدّدت يلين على أن «مهسا أميني كانت امرأة شجاعة يشكّل موتها خلال توقيفها على يد (شرطة الأخلاق) عملاً وحشياً إضافياً مارسته قوات أمن النظام الإيراني ضد شعبه». وشدد وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في بيان منفصل، على «وجوب أن تضع الحكومة الإيرانية حداً لاضطهادها الممنهج للنساء، وأن تسمح بتنظيم مظاهرات سلمية. الولايات المتحدة مستمرة في دعم حقوق الإنسان في إيران ومحاسبة أولئك الذين ينتهكونها».
ودعت مجموعة من الخبراء في الأمم المتحدة إلى محاسبة المسؤولين عن موت أميني. ومن بين هؤلاء الخبراء جاويد رحمان؛ المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في إيران، وماري لولور؛ المقررة الخاصة المعنية بحالة المدافعين عن حقوق الإنسان.
وقال الخبراء في بيان: «نشعر بالصدمة وبحزن بالغ إزاء وفاة السيدة أميني. إنها ضحية أخرى للقمع المستمر والتمييز الممنهج في إيران ضد النساء، و(ضحية) فرض قواعد اللباس التمييزية التي تحرم المرأة من الاستقلال الجسدي ومن حرية الرأي والتعبير والاعتقاد».
في نيويورك؛ أعلنت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، اعتزام بلادها إحالة واقعة أميني إلى مجلس حقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة، بحسب وكالة الأنباء الألمانية. وحذرت بيربوك من أنه «إذا لم تكن النساء آمنات، فإنه لن يكون هناك مجتمع آمن في هذا العالم، ولهذا السبب؛ فإن الهجوم الوحشي على النساء الشجاعات في إيران هو هجوم على الإنسانية»، معربة عن اعتقادها بأن «الواقعة هي انتهاك لحقوق المرأة ومخالفة من جانب إيران لحقوق الإنسان».