حسن مدن: الترويج لـ«زمن الرواية» ظلم كثيراً من الشعر العربي المهم

الناقد البحريني يرى التقاعد فرصة ذهبية لينجز الكاتب مشروعاته المؤجلة

حسن مدن: الترويج لـ«زمن الرواية» ظلم كثيراً من الشعر العربي المهم
TT

حسن مدن: الترويج لـ«زمن الرواية» ظلم كثيراً من الشعر العربي المهم

حسن مدن: الترويج لـ«زمن الرواية» ظلم كثيراً من الشعر العربي المهم

لم ينشغل الدكتور حسن مدن أحد أبرز الأصوات النقدية على الساحة الثقافية الخليجية بالتنظير النقدي البحت، الذي «قد يتحول معه المثقف إلى سجين أبراج عاجية تعزله عن الواقع الذي يفور بتغيرات متلاحقة». وقد حقق ذلك في مؤلفاته، ومنها «لا قمر في بغداد»، و«الكتابة بحبر أسود»، و«يوميات التلصص»، التي تناول فيها مختلف القضايا الراهنة في الساحة الثقافية العربية. هنا حوار معه بمناسبة صدور كتابه الجديد «حداثة ظهرها إلى الجدار»...
> حدثنا عن أهم التحولات في المشهد الثقافي الخليجي التي يرصدها كتابك «حداثة ظهرها إلى الجدار»؟
- حاولتُ في الكتاب تتبع التحولات الثقافية في مجتمعات الخليج والجزيرة العربية، بدءاً من مساعي النخب الثقافية الأولى في مطالع القرن العشرين للتغلب على العزلة الثقافية التي فرضتها الهيمنة الأجنبية، خاصة البريطانية منها على إمارات الخليج العربي، وحالت دون تواصلها مع محيطها العربي بالصورة المرجوة، وتوقفت عند روافع الحداثة الثقافية والاجتماعية في المنطقة كبدء التعليم الحديث بمبادرات أهلية في المقام الأول، وأثر الصحافة العربية الصادرة في الحواضر المتقدمة في مصر وبلاد الشام والعراق، ورحلات رواد النهضة العربية إلى بلدان المنطقة، وما تركته من أثر مهم في التفاعل مع الفكر النهضوي العربي بتجلياته المختلفة، ثم نشوء الصحافة المحلية في مختلف البلدان الخليجية، على ما في ذلك من تفاوت زمني بين بلد وآخر، والتي أصبحت منابر للمنتج الأدبي والثقافي في هذه البلدان.

سعيت كذلك إلى توضيح الفرق بين الحداثة والتحديث، وهو أمر تناوله مفكرون عرب بارزون، في نطاق تحليلهم لوضع الثقافة العربية الراهن، وأيضاً لمسار الحداثة العربية منذ بدايات ما تعارفنا على وصفه بـ«النهضة العربية» على يد روادها الأوائل، مثل رفاعة رافع الطهطاوي وشبلي شميل وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبي وسلامة موسى وطه حسين وسواهم.
> إلى أي حد يعد كتابك «ترميم الذاكرة» محاولة لاستعادة صورة البحرين الثقافية التي غادرتها ما يقرب من 3 عقود... وماذا عن ملابسات المغادرة والعودة؟
- يندرج «ترميم الذاكرة» في أدب السيرة الذاتية، وفيه سعيت لتناول صورة الوطن بعد غيبة طويلة عنه تجاوزت 25 عاماً، للمقارنة بين الصورة الباقية في الذاكرة لهذا الوطن، وما آل إليه بعد مضي كل هذه السنوات، التي شهدت تحولات كثيرة على مختلف الصعد؛ حيث وجدتني أبحث عن صورة الوطن التي حملتها عنه عند مغادرتي له في مطالع الشباب، فلم أجد كثيراً من ملامحها. وكانت هذه مناسبة لاستعادة المحطات التي مررت بها طوال سنوات الغربة، وجانب من ذكرياتي عن المدن التي عشت فيها، وانطوى الكتاب على حمولة من الأفكار والتداعيات والتأملات من وحي التجربة التي عشتها قبل العودة إلى الوطن.
هي تجربة حياتية طويلة في الغربة، أظهرت لي أننا نحمل الوطن أينما ذهبنا، وكلما طال زمن بعدنا عنه ترسخت صورة هذا الوطن التي كانت عندما غادرناه آخر مرة، حتى نخال أن تلك الصورة هي نفسها باقية سنراها عندما نعود إليه، ولكننا سنفاجئ أنها تغيرت كثيراً، لنقع في شيء من الحيرة ونحن نبحث عن الصورة العالقة في الذهن، التي لم يعد لها أو لكثير من ملامحها وجود.
> بماذا تفسر ظاهرة «خليج ما قبل النفط» التي يجسدها كثير من الروائيين وكتاب القصة والشعراء الخليجيين في أعمالهم...؟
- لا أعتقد أن كل الأدب في بلدان الخليج منشغل بصورة المنطقة قبل النفط، على الأقل في اللحظة الراهنة. ربما يصح ذلك في مجال السرد، سواء اندرج في جنس القصة القصيرة أو الرواية، خاصة في البدايات، ويبدو لي هذا مفهوماً جداً، كون الرواية، تحديداً، جنساً أدبياً حديث النشأة في المنطقة، بالمفهوم النسبي طبعاً، لذا توجهت أعمال روائية خليجية كثيرة للذاكرة المنجزة، أي للمرحلة السابقة للنفط، كون المرحلة التالية ما زالت في حالة صيرورة وتشكل، ولم تستقر بعد على حال.
وليس بعيداً اليوم الذي سنطالع فيه سرداً روائياً يتناول تحوّلات الحاضر، بل إن مثل هذا التناول بدأ يظهر في بعض الروايات والقصص الكثيرة لأدباء من بلدان الخليج.

ربما يكون مناسباً لفت النظر إلى أن التحولات الجارية في بلداننا الآن تتسم بسرعة كبيرة، تتغير خلالها ملامح المدن كثيراً، ما يجعل من الإمساك بصورة المكان صعباً، أو يحتاج إلى تأنٍ، على خلاف ما كانت عليه الحال قبل اكتشاف النفط؛ حيث كان التطور رتيباً وبطيئاً، وما تبع ذلك من اكتشاف آباره وتسويقه، وهناك أعمال أدبية مختلفة تناولت ذلك، من أهمّها على الإطلاق ما فعله عبد الرحمن منيف في خماسية «مدن الملح».
> يعد كتابك «الثقافة في الخليج... أسئلة برسم المستقبل» من أوائل المؤلفات التي طرحت مبكراً سؤال «المستقبل»، بينما انشغل كثيرون بسؤال الماضي، كيف ترى الأمر؟
- الأسئلة التي برسم المستقبل انطلقت من قراءة للتحديّات التي يواجهها المشهد الثقافي في مجتمعاتنا الخليجية، والكتاب عبارة عن 7 أوراق تناولت قضايا الثقافة في الخليج من منطلق الرغبة في فحص ونقد الظواهر السلبية التي يفرزها شيوع نمط الثقافة الاستهلاكية واختراقه لبنى الوعي والسلوك، وتسليط الضوء على إشكالات الراهن الثقافي في الخليج، وتسوده حرقة إثارة الأسئلة المفصلية حول القضايا التي يطرحها، وهي مبثوثة في ثنايا الأوراق السبع التي حواها، ولعلّ هذا كان باعث اختياري هذا العنوان، لكني أكدّت في مقدمة الكتاب أنه ليس أكثر من مدخل لمناقشة أكثر استفاضة وتفصيلا وعمقاً للقضايا التي يطرحها، وهذا ما سعيت لتحقيقه، أو تحقيق جزء منه على الأقل، في كتابي الأخير «حداثة ظهرها إلى الجدار».
> كنت تعقد الأمل على بلوغك سن التقاعد حتى تتفرغ لكثير من المشروعات النقدية والفكرية والقراءات المؤجلة، كيف الحال بعد أن بلغت تلك المرحلة العمرية؟ وهل الحياة يمكن أن تبدأ ثقافياً بعد الستين؟
- تقاعدت في العام 2016، وخلال السنوات المنقضية من ذلك الوقت صدرت لي 4 كتب، هي «الكتابة بحبر أسود»، «للأشياء أوانها»، «يوميّات التلصص»، «حداثة ظهرها إلى الجدار»، وأرى ذلك إنجازاً معقولاً، وأتمنى في التالي من السنوات أن أنجز مشروعات أخرى تمور في الذهن، وأخرى يمكن أن تتبلور في السنوات المقبلة.
ومن واقع تجربتي الشخصية خلال السنوات المنقضية منذ أن تقاعدت بوسعي القول إن متعة التقاعد كفرصة ذهبية بالنسبة للكاتب هي في أن ينصرف، وقد بات حراً من قيود الوظيفة، لإنجاز ما اعتمل في ذهنه من مشروعات، والتفكير في مشروعات أخرى جديدة، وهذا ما أحسّه وأعيشه الآن.
> تؤكد مراراً أن الافتنان بالرواية لا يعني نهاية الشعر، لكن بماذا تفسر انصراف القراء والناشرين عن القصيدة حتى إن شعراء كباراً باتوا يعانون لمجرد أن تظهر دواوينهم الجديدة إلى النور؟
- أعتقد أن الترويج لـ«زمن الرواية» ظلم كثيراً من الشعر العربي المهم الذي كُتب ويكتب في هذا الزمن، ونظرة على خريطة الرواج في معارض الكتب العربية تشير إلى هذه الحقيقة المؤسفة، ما يضع على عاتق المشتغلين بالنقد مسؤولية لفت الأنظار إلى كثير من الشعر المهم الذي ينشر.
وعلينا أن نتساءل؛ ألا يكشف هذا الإقبال الكبير على تجريب كتابة الرواية حدّ الاستسهال في كثير من الحالات عن صعوبة الشعر كفنٍ لا يقوى على ولوج عالمه كل من يخطر في باله أن يجرب، لأن الكشف عن انعدام أو ضحالة من يغامر باقتحام عالم الشعر، وهو ليس من أهله، أيسر بكثير من كشف من يفعلون ذلك في أجناس أخرى من الكتابة، بينها الرواية.
> تستلفت نظرك الرواية الشهيرة «الخبز الحافي» للمغربي محمد شكري باعتبارها نموذجاً نادراً لشجاعة البوح ضمن أدب السيرة الذاتية، ألا يوجد ما يلفت نظرك في هذا السياق بعد 40 عاماً على نشر تلك الرواية؟
- ما زلت أعتقد أن «الخبز الحافي» من أكثر السير الروائية العربية جرأة في المكاشفة والبوح، فالكاتب تحرر من كل الحسابات والاعتبارات التي يجد كثيرون أنفسهم محمولين على مراعاتها، وهو يكتب سيرته على شكل رواية، لكن هذا لا ينفي أن هناك سيراً ذاتية لكتّاب عرب هي أدب بامتياز، شأنها في ذلك شأن القصة القصيرة والرواية. ويمكن أن تُحكى السيرة الذاتية بصور مختلفة، أو للدقة نقول، إن بعض أشكال الكتابة يمكن أن تدخل في خانة السيرة الذاتية، بصورة من الصور، كاليوميات مثلاً، ولنا في كتاب الكاتب المغربي عبد الله العروي «خواطر الصباح» بأجزائها المختلفة مثالاً.
> كيف ترى الانقسام الذي باتت تثيره الجوائز الأدبية في المشهد الروائي العربي ما بين متحمس وناقم؟
- بعيداً عن هذا السجال، أرى أن الجوائز الأدبية والثقافية هي وجه من وجوه تقدير إبداع المبدعين، وهي تلفت القراء إلى أعمال أدبية كثيرة ما كان القراء العرب في كل مكان سيعرفون بأمرها، لولا تأهلها للقوائم الطويلة والقصيرة لهذه الجوائز، أو فوزها بها.
في ندوة أقيمت بالمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة قبل شهور بالمشاركة مع مؤسسة سلطان بن علي العويس تكريماً للمفكر والناقد الراحل جابر عصفور، اقترحت أن تسمى جائزة مقترحة تحمل اسمه «جائزة جابر عصفور للتنوير»، من أجل تشجيع وتحفيز الدراسات التنويرية التي نحتاجها في زمننا العربي الراهن، ولكي لا ينحصر الاهتمام بالجوائز الأدبية فقط.
> إلى أي حد يتحمل النقاد المسؤولية عن عدم القدرة على متابعة وإضاءة الإنتاج الروائي العربي، ما يصيب كثيراً من المبدعين بخيبة الأمل والإحباط؟
- النقد الأدبي في حال تراجع للأسف في بلداننا، وكثير من الأسماء التي ابتدأت بالنقد الأدبي انصرفت نحو الدراسات الثقافية أو ما يسمى النقد الثقافي، وهذا الأخير مهم جداً، لكنه لا ينفي الحاجة إلى الدراسات النقدية التي أوشكت أن تنحصر في الجامعات، على شكل أطروحات للماجستير أو الدكتوراه، إضافة إلى تراجع دور الصحافة الثقافية، ففي كثير من بلداننا اختفت الصفحات والملاحق الثقافية، التي كانت روافع إبداعية ونقدية مهمة، مع أن الإنصاف يقتضي توجيه التحية للصحف العربية، خاصة في بعض بلدان الخليج، التي ما زالت تولي العناية بصفحاتها الثقافية اليومية والأسبوعية.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

دراما السيرة الذاتية للمشاهير حق عام أم خاص؟

أحمد زكي مجسداً شخصية عبد الحليم حافظ (يوتيوب)
أحمد زكي مجسداً شخصية عبد الحليم حافظ (يوتيوب)
TT

دراما السيرة الذاتية للمشاهير حق عام أم خاص؟

أحمد زكي مجسداً شخصية عبد الحليم حافظ (يوتيوب)
أحمد زكي مجسداً شخصية عبد الحليم حافظ (يوتيوب)

تُعد دراما السيرة الذاتية للمشاهير والشخصيات العامة من أهم أنواع الدراما التي يُقبل عليها المشاهد عالمياً، لكن الأزمة الأساسية التي تواجه هذا النوع الدرامي تتعلق بالصراع مع الورثة حول أحقية تقديم العمل من عدمه، وفق متابعين ونقاد.

وفي الآونة الأخيرة، طالعتنا وسائل إعلام بتصريحات على لسان الممثل كريم نجل النجم الراحل محمود عبد العزيز أنه «يرفض تحويل حياة والده إلى عمل درامي».

في حين أن محمود عبد العزيز قدم أحد أشهر مسلسلات السيرة الذاتية وهو «رأفت الهجان» عن قصة عميل المخابرات المصرية الذي عاش في إسرائيل رفعت الجمال، وحقّق العمل الذي بُث الجزء الأول منه لأول مرة عام 1988 نجاحاً ساحقاً في أجزائه الثلاثة.

مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)

وعلى الرغم من أن الفنان الراحل أحمد زكي قدم 3 أفلام سيرة ذاتية عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر «ناصر 56» عام 1996، والرئيس الراحل أنور السادات «أيام السادات» عام 2001، والمطرب الراحل عبد الحليم حافظ «حليم» عام 2006، بيد أن شقيقته إيمان زكي رفضت رفضاً قاطعاً تقديم قصة حياته في مسلسل.

حق عام بضوابط

قال حسن حافظ الباحث في تاريخ مصر لـ«الشرق الأوسط»: إن «سيرة أي شخصية مشهورة هي ملكية عامة، ومن حق أي مبدع تقديمها في عمل فني». وتابع: «بيد أن هناك بعض المعايير، أهمها الاحتفاظ بالسياق التاريخي للأحداث دون تزييف، مع حق المبدع أن يتعمّق في دوافع الشخصية لفهم القرارات التي اتخذتها، وهنا يكون الورثة أحد مكونات عملية البحث، مع التدقيق في ما يقولونه».

أمر آخر لا بد من أخذه في عين الاعتبار حسب حافظ، وهو أن العمل الدرامي لا يحكي قصة الشخصية العامة كما جرت بالضبط، بل هو مبني في جزء منه على الخيال، بعكس العمل الوثائقي.

ويتفق معه الناقد الفني أمجد مصطفى، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إنه «لا يحق للورثة حتى طلب أموال مقابل السماح بتناول القصة، ولكن من حقهم الاطمئنان لخروج العمل الدرامي دون تشويه للشخصية، فهناك بعض كتاب الأعمال الدرامية الذين يتعمدون إضافة أشياء قد تكون غير حقيقية وربما جارحة من أجل التشويق والإثارة».

ولفت إلى أن ذلك لا يعني أن العمل الدرامي يجب أن يُركّز فقط على الجوانب الإيجابية في حياة الشخصية، فهناك أمور قد لا تفيد في رصد حياة الشخصية، وفق مصطفى.

تخليد للشخصية وشركائها

من أهم السير التي قّدّمت وخلقت حالة في مصر، مسلسل «أم كلثوم» (إنتاج 1999)، وحقق نجاحاً كبيراً، وفق نقاد، ومع ذلك يقول حسن حافظ إن «هذا المسلسل قدم سيرة بيضاء لأم كلثوم، ولم ينخرط مثلاً في صراعاتها مع نجوم عصرها».

في حين يرى أمجد مصطفى أن «مسلسل (أم كلثوم) إلى جانب أنه يخلّد سيرتها، فإنه كذلك يرصد حياة جميع من شاركوا في قصة نجاحها من ملحنين وشعراء، ولكن هذا المسلسل مثلاً تجاهل دور الموسيقار محمد الموجي في حياة أم كلثوم، ومن هنا يجب على كاتب دراما السيرة الذاتية أن يكون أميناً في الرصد».

سيرة أم كلثوم في مسلسل من بطولة صابرين (يوتيوب)

الجدية شرط النجاح

على المستوى العالمي هناك انفتاح لتقديم دراما السيرة الذاتية سواء في أميركا أو أوروبا، مثل مسلسل «كليوباترا» الذي عرضته منصة «نتفليكس» الأميركية في مايو (أيار) 2023 وأثار الجدل لأنه قدم الملكة المصرية الفرعونية ذات بشرة سمراء، وهو ما عدّته السلطات المصرية «تزييفاً للتاريخ»؛ لأن المصادر تؤكد أن كليوباترا كانت بشرتها فاتحة اللون.

في حين أن مسلسل «التاج» (The Crown)، الذي يتناول سيرة الملكة إليزابيث الثانية، حقق نجاحاً كبيراً.

ويُرجع حافظ سبب نجاحه إلى «ما لمسه المشاهد من جدية القائمين عليه لتقديمه في أحسن صورة وأدق تفاصيل».

وشدّد على أن «غياب الجدّية والدقة تسبب في فشل مسلسلات عن سير المشاهير في مصر خلال السنوات الأخيرة، مثل مسلسلات (العندليب) عن سيرة عبد الحليم حافظ، و(السندريلا) عن سيرة سعاد حسني، و(الضاحك الباكي) عن سيرة نجيب الريحاني».

ويرى أمجد مصطفى كذلك أن «فيلم حليم لأنه كان في آخر أيام أحمد زكي وقت مرضه أُنجز بسرعة ولم يكن متّقناً بالقدر اللازم لنجاحه».

تصبح المهمة أسهل حينما تكون للشخصية المشهورة مذكرات كتبتها قبل وفاتها، وهذا ما حدث في فيلم «أيام السادات» الذي كتب السيناريو له من واقع مذكراته الكاتب الراحل أحمد بهجت، الذي يقول نجله الشاعر محمد بهجت لـ«الشرق الأوسط»: «لم يواجه والدي مشكلات مع الورثة عند كتابة الفيلم لأنه اعتمد على كتاب البحث عن الذات للرئيس السادات، وكذلك بعض كتب الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، وأيضاً مذكرات جيهان السادات التي كانت على قيد الحياة وقتها وأثنت على سيناريو الفيلم قبل تصويره حينما عرضه عليها والدي والفنان أحمد زكي».

أحمد زكي في فيلم «أيام السادات» (فيسبوك)

موقف القانون

وعن موقف القانون من دراما السيرة الذاتية يقول المحامي بالنقض محمد إصلاح في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «وفق المبادئ القانونية المستقرة في القانون المدني المصري فإن مجرد التجسيد لا يرتب حقاً قانونياً للورثة في الاعتراض، ولكن لهم رفع دعوى تعويض إذا أثبتوا أن النشر والتجسيد قد أضرّ بسمعة المتوفى، ولا يستطيعون رفع دعوى منع ما لم يتمكنوا من إثبات تحقّق هذا الضرر للمحكمة من واقع العمل الفني».