الصعق الفكري وتاريخ المستقبل!

ينظر العالم  إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً من زاويتين متقابلتين (إ.ب.أ)
ينظر العالم إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً من زاويتين متقابلتين (إ.ب.أ)
TT

الصعق الفكري وتاريخ المستقبل!

ينظر العالم  إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً من زاويتين متقابلتين (إ.ب.أ)
ينظر العالم إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً من زاويتين متقابلتين (إ.ب.أ)

نعم... لدينا حلم قديم ومتجدد دوماً، في أن نكون شيئاً آخر غير ما نحن عليه.
ولعل هذا هو أحد أسباب جاذبية الحركات العابرة للإنسانية اليوم، لا سيما حركة «ما بعد الإنسانية»، التي تلقي اهتماماً كبيراً على المستوى الشعبي والنخب الفكرية والعلمية ورجال المال والأعمال في مناطق مختلفة من العالم**. ومع ذلك، فإن ردود الفعل على توجهاتها وأهدافها تتدرج من التفاؤل المبهج إلى التشاؤم البائس.
على حين تبنت أغلب اليوتوبيات والآيديولوجيات في القرون السابقة فكرة «الإنسان الجديد»، وطرحت رؤى مبتكرة لما اعتبرته نوعاً أفضل وأكثر أخلاقية وسعادة للإنسانية، عبر وسائل سياسية واجتماعية، فإن حركة «ما بعد الإنسانية» في القرن الحادي والعشرين تعتمد أساساً على «تحسين» وتعزيز الطبيعة البشرية باستخدام آليات جديدة مثل «تقنية الجينات» والأدوية الذكية وزراعة الأعضاء والروبوتات ودمج الإنسان مع الآلة، فقد يصبح الكومبيوتر في غضون سنوات قليلة «بديلاً للوعي الإنساني، أو كامتداد له»، حسب معظم المنظرين المتفائلين اليوم.
وينظر العالم إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً، من زاويتين متقابلتين: الأولى ترفض الفكرة من الأساس وتراها كابوساً مثيراً للفزع؛ لأنه «لا يوجد أفضل من الإنسان الحالي الذي عليه الارتقاء نحو إنسانيته».
والرؤية الأخرى تؤكد أنها أمر واقع لا فكاك منه. صحيح أن الإنسان الحالي ما زال يحتفظ بهويته الإنسانية «الخالصة» وقيمه الأخلاقية التقليدية، ولكنه يوشك على التحرك باتجاه الإنسان المعزز، من خلال التدخل الجيني والطب الحيوي والأجهزة القابلة للارتداء بهدف تعزيز قدراته الجسدية والعقلية.
(2)
السؤال الذي طرحه فرنسيس فوكوياما في مقاله «ما بعد الإنسانية»، في مجلة «السياسة الخارجية» عام 2004، هو الأهم حتى الآن؛ لأنه لامس الجدار المكهرب لمخاوف المستقبل، بقوله «إذا بدأنا في تحويل أنفسنا إلى شيء أعلى، فما هي الحقوق التي ستدعيها (وتمتلكها) هذه الكائنات المعززة، مقارنة بأولئك الذين تخلفوا عن الركب؟».
مقال فوكوياما - ربما - جاء رداً على ما أثير حول ورقة بحثية عام 2001 لأبرز رواد حركة ما بعد الإنسانية، الفيلسوف السويدي نيك بوستروم (14 صفحة) بعنوان «هل نحيا في محاكاة كومبيوتر؟»، وكانت أشبه بـ«الصعق الفكري» الذي نبّه الأذهان إلى أن «العقل الإنساني» يشبه قصيدة الشعر، سواء كتبت على الرق أو الحجر أو الورق، فإنها تحمل نفس المعنى، فما الذي يمنع مع التطور الهائل لقوة الكومبيوتر والذكاء الصناعي والمعلوماتية وعلم الأعصاب وفلسفة العقل*** من محاكاة «خريطة الدماغ الإنساني بالكامل» وتحميلها في أدمغة صناعية؟ إذ يأمل العلماء في تطوير وسيلة مبتكرة لنقل الوعي الإنساني إلى صورة ثلاثية الأبعاد، عبر تحميل الدماغ على جهاز كومبيوتر، قبل عام 2045. (تعرف بمبادرة 2045).
وإذا قُدّر لهذه المبادرة النجاح، فهل من الممكن أن يتواصل مع «أدمغتنا الصناعية» الأحفاد المعززون في المستقبل، بوسائل إلكترونية حديثة، لتحقيق نوع من الخبرة و«الحكمة الجماعية»، تفوق الحكمة الإنسانية الحالية، وتعلو عليها؟
(3)
أغلب رواد حركة ما بعد الإنسانية، يرون أن الإنسان في حالته البيولوجية الراهنة، هو في مرحلة مبكرة نسبياً من تحوله التطوري. وبالتالي، فإنه قابل للتحسين (التعزيز)، بل والاستبدال التدريجي أيضاً، ليصبح كائناً تكنولوجياً يجمع في جوفه بين ما هو طبيعي وما هو تكنولوجي. وفقاً لهذه النظرة «اليوتوبية» المتفائلة، فإن الألم والتعاسة وحتى الموت هي حالات قاصرة، الوقت كفيل بتجاوزها.
لكن نقاد هذه الحركة يجمعون على أننا: لا نعرف بعد ماهية هذا التعزيز المزعوم، فضلاً عن حدوده. فما الذي يعنيه كونك أطول عمراً وأقوى بدنياً وأذكى عقلياً، طالما لا يتوافر لدينا المعيار الذي نقيس عليه؟
وعلى سبيل المثال، لدينا حالياً النموذج الطبيعي الذي نتبعه لعلاج ما قد تلف في جسم الإنسان. فقد نعيد الذراع المكسورة استناداً إلى ذراع طبيعية سليمة تعمل بكفاءة. وقس على ذلك بقية أعضاء الإنسان؛ لأن الطبيعة توفر لنا – من باطنها - النموذج الأساسي لحدود التعزيز الطبيعي.
أضف إلى ذلك أننا لا نعرف من أين يستمد الإنسان الجديد المعزز «أخلاقياته»؟
إن «عدم اليقين» بشأن فوائد وأضرار «التعزيز» هو أهم ملامح خريطة ما بعد الإنسانية «النقدية» اليوم، وتتخذ ثلاثة مسارات: الأول، متسامح يرى أن تكون هناك قيود قليلة على التعزيز، ويقدم حججاً قوية للفوائد المحتملة (لا سيما صحة الإنسان ورفاهيته). الثاني يرى أن تكون هناك قيود أكثر ويسوق حججاً دينية وغير دينية حول الكرامة الإنسانية. والثالث لا يقف ضد التعزيز من حيث المبدأ، لكنه يطرح بعض المخاوف، منها أن «التعزيز» لن يكون متاحاً للجميع وبالتساوي على كوكب الأرض، وبالتالي قد يسير في عكس الاتجاه الذي يهدف إليه أنصاره، بمعنى أن «التعزيز» قد يعزز (فقط!) التفاوت والظلم والصراع بين الأفراد والطبقات والشعوب.
من جهة ثانية، فإن «التعزيز» قد يغير فهمنا الإنساني حول ما اصطلح عليه حول «الاجتهاد والسعي» والتميز والازدهار، فماذا يعني أن تكون متميزاً في المستقبل؟ وهي إشكالية تمس سلوك الأفراد والممارسات الاجتماعية والعلاقات الدولية بالمثل، لا سيما أن من يملك مصادر «التعزيز» وإمكانياته سوف يملك مصادر القوة!
(4)
أول من تنبه إلى أن «المشكلات التكنولوجية الجديدة في حاجة إلى معالجة أنثروبولوجية فلسفية جديدة»، كان الفيلسوف الروسي نقولاي بيريائف (وُلد في كييف في أوكرانيا عام 1874). لكن الاستجابة لهذه الشذرة تأخرت 85 عاماً، حيث صدر في مايو (أيار) الماضي 2022 كتاب مهم حول «الإنسان الأعلى»**** للباحثة الألمانية آنا بوزبو،
وهو أول دراسة فلسفية تهدف إلى تطوير نهج جديد لأنثروبولوجيا التكنولوجيا، حيث تشارك مع شخصيات بارزة في هذا المجال، أمثال نيك بوستروم، وديفيد بيرس، وناتاشا فيتا مور، وغيرهم.
ترى بوزيو، أن حركة ما بعد الإنسانية تحوي تناقضاً يصعب حله «رؤية اختزالية للإنسان» (ص - 227)، و«فهم مزدوج للطبيعة الإنسانية» (ص 229)، وكلاهما يمنح الأولوية للدماغ والعمليات المعرفية على التكوين الطبيعي للإنسان؛ لذا تنظر الحركة إلى الجسد الإنساني على أنه قابل للاستبدال عن طريق التكنولوجيا.
لكن اختزال الأشخاص وتجاربهم الجسدية والعقلية يجعل منهم مجرد أدوات تقوم بعمليات آلية لمعالجة المعلومات، وبهذه الطريقة تصبح المعلومات هي «العامل الرئيسي» (ص - 264). ولأنها تقصي الأشخاص الطبيعيين «الحقيقيين» خارج مجالها، وتمنح الأولوية للتكنولوجيا على حساب المشاعر والعواطف الإنسانية فإنها تتناقض مع أهدافها المعلنة، وهي «تحرير الإنسان من قيوده الطبيعية».
إن حركة ما بعد الإنسانية – حسب بوزيو - لا تطرح أي موقف أساسي «يؤكد إنسانية الإنسان» (ص - 227)، وبالتالي لا تساهم في تقديم «تصور متماسك، دينامي وطليعي للإنسان في المستقبل» (ص - 348).
(5)
سواء كانت حركة ما بعد الإنسانية مجرد أضغاث أحلام أو إحدى حقائق الغد، علينا الاستعداد للتعامل معها؛ لأننا نواجه إشكالية غير مسبوقة، حيث لا يدور الصراع بين العلم والدين، أو الفلسفة واللاهوت، وإنما يدور أساساً بين العلماء أنفسهم والفلاسفة وأقرانهم، ووسط اللاهوتيين على تنوعهم.
الأهم هو أن «المال» ونظرية المعرفة في وادي السيلكون أصبحت – للمرة الأولى - لاعباً جديداً في هذا المضمار.
الملاحظة الثانية، حتى الآن يتحدث الجميع بعضهم عن بعض، وليس بعضهم مع بعض، لكنها مسألة وقت، وربما كانت هذه فرصة لنا، بأن ننخرط (ونشتبك) مبكراً مع هذه الإشكالية الزاحفة على تخومنا؟ لا أن نكتفي بالمتابعة فقط، أو نتقمص دور اللاعب الجالس على دكة الاحتياط الذي ينتقد فريقه دون أن يؤثر في نتيجة المباراة!
لا تنقصنا الإرادة السياسية الواعية ولا الشباب الطموح المتمكن من أدواته علمياً ولا المال ورواد الأعمال، فضلاً عن أساتذة الجامعات ومراكز الأبحاث، وأعني تحديداً المملكة العربية السعودية.
كيف نجتذب هذا الزخم العالمي باتجاهنا؟.. كيف نصبح أحد مراكز صناعة المستقبل في الشرق الأوسط؟
- باحث مصري
** «وول ستريت» و«وادي السيلكون» ورواد الأعمال (من ديمتري إيتسكوف الروسي إلى الأميركي إيلون موسك)، مروراً بأغلب رواد الأعمال في العالم، مهتمون بمسألة دمج الدماغ الإنساني بالكومبيوتر، ناهيك بالاستثمارات الضخمة: مختبرات وأبحاث واستشارات علمية، وصناعات جديدة في مجال الأدوية الذكية والمعززات المعرفية.
وقدّر أحد التقارير المنشورة في يونيو (حزيران) 2022 القيمة العالمية لأحد المنشطات الذهنية في عام 2026 بمبلغ 6.61 مليار دولار (سعر التقرير المكون من 175 صفحة،
يبدأ من 4000 دولار أميركي!).
*** وداعاً ديكارت، كوسمولوجيا جديدة للعقل الإنساني، المؤلف: كيث ديفلين، ترجمة: د. عصام عبد الله، الناشر: كتاب المجلة العربية (1)، المملكة العربية السعودية 1435هـ – 2014م.
•****Über - Menschen: Philosophische Auseinandersetzung mit der Anthropologie des Transhumanismus (Edition Moderne Postmoderne، by Anna Puzio، Publisher، ‎ Transcript; 1st edition
(May 2022).


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


حين قابلت سجّاني... الطفل «الداعشي» الصغير

TT

حين قابلت سجّاني... الطفل «الداعشي» الصغير

أطفال من مخيم «الهول» في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا 12 نوفمبر 2020 (غيتي)
أطفال من مخيم «الهول» في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا 12 نوفمبر 2020 (غيتي)

لم يكن خالد يعلم أن مقابلته هذه ستعيد فتح باب من الماضي.

عندما بدأ يتحدث، كانت نبرة صوته مألوفة بطريقة غريبة، لكنني لم أستطع أن أحدد السبب على الفور. بدا خالد (اسم مستعار) متردداً في البداية، وكأنه يخشى أن يقول أكثر مما ينبغي، ثم انساب الحديث بحرية أكبر، حتى وصلت المقابلة إلى نقطة جعلت قلبي يخفق بقوة.

«كنت في الثالثة عشرة عندما أصبحت سجاناً. لم يكن لدينا خيار. كانوا يعطوننا أوامر، وإذا رفضنا، نتعرض للعقاب. كنت أفتح الأبواب، أقدم الطعام، وأراقب السجناء. بعضهم كان يبكي، بعضهم كان يصرخ، وبعضهم كان صامتاً طوال الوقت. كنا نعاملهم كأعداء، حتى لو لم نفهم لماذا كانوا هناك».

عند هذه الجملة، شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. سجن الميادين. عام 2015. طفل في الثالثة عشرة مكلف بمراقبتي أنا وبقية السجناء. بدأت أتذكر تلك الفترة القاتمة من حياتي، عندما تم اعتقالي في سوريا لأنني رفضت العمل صيدلانياً مع تنظيم «داعش» الذي كان مسيطراً على المنطقة. شهدت تلك الفترة محاولات التنظيم الحثيثة لضمان الولاء الكامل، خاصة من أصحاب الاختصاصات الطبية. من لم يعلن ولاءه، كان مصيره الاضطهاد، الملاحقة، وأحياناً الاعتقال.

كنت واحداً ممن وقعوا في هذا المصير. لم يأتِ اعتقالي من العدم. في إحدى الليالي، طرقوا باب منزلي بعنف. لم يكن السبب معلناً في البداية، لكنني علمت لاحقاً أن جاري، وهو أحد عناصر التنظيم، وشى بي. ادّعى أنني أخالف الشريعة لأنني كنت أستمع إلى الأغاني. كانت تلك التهمة كافية ليقتادوني إلى السجن، وهناك التقيت بسجاني الصغير.

السجّان الصغير

اليوم وفيما أجري هذه المقابلة من ضمن 17 شهادة جمعتها حول «أشبال الخلافة» توالت الأسئلة في ذهني، فكبحت اندفاعها. لم أكن أريد أن أسأل مباشرة، لكن الفضول بدأ ينهشني.

طرحت أسئلة ملتوية، حاولت من خلالها أن أتأكد من شكوكي دون أن أثير انتباه خالد وقد بلغ منتصف العشرينات. ولكن عندما بدأ يصف السجن، وممراته، ووجبات الطعام القليلة التي كانت تُقدم للسجناء، والطريقة التي كان يُؤمر بها بفتح الأبواب وإغلاقها، قطعت الشك باليقين. لقد كان هذا الصبي سجاني. صراع داخلي انتابني، ولم أعرف كيف أتصرف. جزء مني أراد أن يواجه خالد بالحقيقة، أن يخبره أنني كنت هناك، وأنه كان أحد أولئك السجانين الذين وقف أمامهم صامتاً وهو يحمل المفاتيح. لكن جزءاً آخر مني رفض الفكرة.

كيف سأخبره بذلك؟ ماذا سيفيده أن يعرف؟ اليوم أدرك أن خالد لم يكن سوى طفل، مجرد أداة في يد قوة أكبر منه بكثير. أي غضب قد أشعر به، أي كراهية أو استياء، لا يمكن توجيهها إليه. لكن رغم كل هذه التبريرات، لم أستطع تجاهل الشعور المتناقض الذي اجتاحني. أنظر إلى خالد، وأحاول منطقياً أن أراه بمعزل عن ماضيه، لكنني عاطفياً لم أستطع الفصل بين الاثنين.

«هل كنتَ قاسياً على السجناء؟» سألته. تنهد وأطرق رأسه، كأنه يحمل ثقلاً لا يمكن احتماله: «أحياناً كنت أحاول أن أكون لطيفاً فأعطي بعضهم طعاماً أكثر، أو أترك الباب مفتوحاً لبضع ثوانٍ إضافية. لكن في أحيان أخرى... كنت قاسياً. كنت خائفاً أيضاً. فإذا تهاونت، كانوا سيضعونني في السجن معهم». كلماته ضربتني بقوة.

لم أعرف إذا كان خالد يتذكرني، أو أنني مجرد سجين من عشرات مروا عليه، لكنني أعرف الآن أنه كان هو أيضاً يعيش صراعاً داخلياً ربما لم يحسمه بعد.

شاب يعانق مسنًا بعد حصوله على موافقة لمغادرة «الهول» السوري (إ.ف.ب)

فوضى ومساومات

على رغم المصادفة الغريبة إلا أن قصة خالد ليست فريدة من نوعها. هي واحدة من 17 شهادة حية تم جمعها على مدار الأشهر الستة الماضية تقاطعت فيها تجارب الماضي المؤلمة بتحديات الحاضر والمستقبل، نركز فيها على مسار شخصيتين نرصد عبرهما مآلات التنظيم في سوريا اليوم؛ خالد، السجان الذي يحاول التعايش مع ماضيه وسامي (اسم مستعار) الفتى الذي عاش تجربة مواجهة الضحية في أضعف لحظاتها. تتقاطع هاتان الشهادتان مع شهادات أخرى تكشف عن أثر العنف الممنهج والتجنيد القسري على مستقبل هؤلاء الأطفال وتوثق تجربة جيل كامل سُرقت طفولته، لكنها أيضاً تطرح أسئلة ملحة حول هزيمة التنظيم فعلياً أو احتمالات نهوضه من جديد.

فبعد التغيرات الكبيرة التي شهدتها سوريا، على أثر سقوط نظام بشار الأسد واستلام «هيئة تحرير الشام» عبر الإدارة الجديدة زمام المرحلة، يواجه هؤلاء الشباب تحديات جديدة في ظل بيئة مضطربة تزداد تعقيداً، إذ تثير الفوضى الأمنية والفراغ الناجمين عن إعادة توزيع السيطرة بين الفصائل المختلفة مخاوف من عودة نشاط التنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم «داعش»، في وقت لا تزال «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي تسيطر على شمال شرقي سوريا، تمسك بملف بالغ الحساسية، هو معتقلي التنظيم من رجال ونساء وأطفال لديها.

ويعد هذا الملف ورقة مساومة سياسية تستخدمها «قسد» للضغط على القوى الدولية والإقليمية لضمان استمرار الدعم العسكري والسياسي لها. ومع غياب حلول واضحة أو خطط فعالة للتعامل مع هذه الفئة، يظل الخطر قائماً من استغلالهم مستقبلاً لتحقيق مكاسب سياسية أو لتعزيز نفوذ عسكري في المنطقة، خصوصاً مع احتمالات تفكيك معتقل «الهول» وخروج أعداد إضافية منهم إلى المجهول.

«داعش» يهدد سوريا الجديدة

مع إصدار التنظيم بياناً حديثاً يهاجم فيه الحكومة السورية الجديدة ويتوعدها إذا «حادت عن طريق الصواب»، تتزايد المخاوف من أن هذه التهديدات ليست مجرد تصريحات دعائية، بل جزء من استراتيجية أوسع لإعادة فرض نفسه على المشهد السوري.

ولا تزال جيوب تنظيم «داعش» نشطة في البادية السورية والعراقية، حيث تنفذ خلاياه عمليات اغتيال وتفجيرات متفرقة، إلا أن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في هذه العمليات المحدودة، بل في قدرة التنظيم على الاستفادة من الثغرات المتزايدة لإعادة ترتيب صفوفه.

ولعل الأكثر إثارة للقلق هو أن بعض القوى المحلية، سواء من فلول النظام السوري السابق أو حتى قوات سوريا الديمقراطية، قد تجد في استمرار التهديد الداعشي أداة يمكن استخدامها لزعزعة الاستقرار الهش وللحصول على دعم إضافي، سواء من التحالف الدولي أو من الجهات الفاعلة في المشهد السياسي السوري حيث قد يُسمح للتنظيم بتنفيذ عمليات معينة، أو يتم التغاضي عن تحركاته، أو يتم تكليف أفراد منه بمهام في سياق صراعات النفوذ والضغوط السياسية المتبادلة.

سيارة شرطة تابعة للحكومة السورية الجديدة تعبر شارع بجوار مسجد الساحة في تدمر بوسط سوريا في 7 فبراير 2025 (أ.ف.ب)

ويمتلك التنظيم من جهته دافعًا قويًا للانتقام من هزائمه السابقة، خصوصاً أن قياداته تدرك أن خسارة الأرض لا تعني بالضرورة نهاية الآيديولوجيا. ولذلك، يسعى التنظيم إلى إعادة بناء نفسه عبر استغلال عدة عوامل، من بينها المظالم المحلية، والانقسامات العشائرية، والتدهور الاقتصادي، وحالة الإحباط واليأس التي يعيشها الكثير من مقاتليه السابقين، بمن فيهم أولئك الذين تم تجنيدهم أطفالاً تحت راية «أشبال الخلافة».

هؤلاء، الذين نشأوا في بيئة الحرب والعنف، يواجهون اليوم واقعاً قاسياً: مجتمعاتهم الأصلية ترفضهم، والفرص الاقتصادية تكاد تكون منعدمة، بينما تلاحقهم وصمة الماضي أينما ذهبوا. ومع غياب برامج إعادة تأهيل فعالة، يظل خطر عودتهم إلى التنظيم قائماً، خاصة في ظل استمرار محاولات «داعش» استقطابهم، إما عبر الإغراءات المالية، أو عبر استغلال شعورهم بالعزلة وانعدام المستقبل.

فهل يشكل هؤلاء الشباب، الذين كبروا بين فوهات البنادق، قنابل موقوتة تهدد استقرار سوريا؟

أو أنهم ضحايا ظروف قاسية، تعلّموا منها وينتظرون إعادة دمجهم في المجتمع ليكونوا جزءاً من الحل بدلاً من المشكلة؟

كابوس الماضي الثقيل

«أستيقظ كل ليلة على صراخي. أرى وجوههم في أحلامي. أطفال مثلي، اختفوا واحداً تلو الآخر. بعضهم قتل في المعارك، وبعضهم حاول الهرب فأُعدم. كنت أتظاهر بالنوم حتى لا أسمع بكاءهم في الليل». يقول سامي الذي يبلغ اليوم 24 عاماً عن رحلته المؤلمة ضمن «أشبال الخلافة» في سوريا، وهو بعمر لم يتجاوز الخامسة عشرة، رحلة لم تنتهِ بسقوط التنظيم، بل تحولت إلى كابوس مستمر يطارده في نومه ويقظته على حد سواء ويعيش معركة يومية مع نفسه دون أن يدري إن كان سينجو أم لا.

وعلى رغم أن كلا من خالد وسامي خرجا من كنف التنظيم، لكن حياتهما لا تزال تحمل آثار الماضي.

يعيش خالد في إحدى قرى إدلب، يعمل في محطة وقود، بالكاد يستطيع تأمين قوت يومه. وبعدما اضطر للعيش مع خاله والزواج من ابنته، وجد نفسه في دوامة فقر لا مخرج منها. فهو لم يكمل تعليمه ولم يكتسب صنعة تعينه.

أما سامي، فيعيش في ريف دير الزور الشرقي الخاضع لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، حيث يحاول إعادة بناء حياته في ظل تحديات اقتصادية وملاحقات أمنية مستمرة.

سوق «الهول» في الحسكة شمال شرقي سوريا 30 يناير 2025 (أ.ب)

كثيرون ممن خرجوا من تجربة «أشبال الخلافة» توزعوا في أماكن مختلفة، تتفاوت فيها ظروفهم المعيشية بين الصعوبة والاستقرار. سامي القادم من حماة اضطر لتغيير اسمه والسكن في ريف دير الزور الشرقي خوفاً من الانتقام والوصمة الاجتماعية. بعضهم يعيش في شمال شرقي وشمال غربي سوريا، يواجهون البطالة وانعدام الاستقرار، بينما اضطر آخرون إلى تغيير أماكن سكنهم بسبب الخوف من محيطهم الاجتماعي.

في تركيا وإقليم كردستان، يعمل الناجون في مهن شاقة، مثل البناء ومعامل النسيج أو التنظيف، لساعات طويلة وفي ظروف قاسية.

وبدأ بعض هؤلاء الشباب بتلقي الدعم النفسي، والبعض القليل وجد طريقه في العمل أو الدراسة، محاولين ترك الماضي وراءهم خصوصاً إذا ما حظوا بدعم أسرهم.

لكن التحدي الأكبر يبقى في نظرة المجتمع لهم كقنبلة موقوتة، لا كأطفال سرقت طفولتهم، ويستحقون فرصة حياة.

يقول سامي: «عندما يعرف الناس قصتي، أرى الخوف في أعينهم. لا يريدون الاقتراب مني، رغم أنني لم أختر تلك الحياة».

أما خالد، فيجد صعوبة حتى في الحديث عن ماضيه: «كيف يمكنني أن أشرح؟ كيف أقول إنني لم أكن أملك خياراً؟».

ورغم اختلاف مصائرهم، فإن القاسم المشترك بينهم جميعاً هو صعوبة التخلص من الظلال الثقيلة للماضي وهم يتأرجحون بين كونهم ضحايا أو جلادين أو تهديدات أمنية محتملة.

أن تأخذ سبية أو تشهد إعداماً

يتذكر سامي حين جُنّد وهو طفل، يوماً محدداً غيّر مجرى حياته بالكامل. يوم لم تفارقه تفاصيله حتى بعد سنوات من هروبه، ويقول:

«كنت في الخامسة عشرة عندما طلبوا مني الذهاب إلى غرفة وأخذ سبية. لم أفهم تماماً ما يريدون مني فعله. كنت أشعر بالخوف والارتباك، ولكن لم يكن مسموحاً لي بأن أسأل. عندما دخلت، رأيت فتاة صغيرة تبكي. كانت طفلة، أصغر مني بسنة أو سنتين. نظرنا إلى بعضنا، وبدأنا بالبكاء معاً. لم أستطع تحمل الموقف وشعرت بأنني أختنق. تلك الليلة لم أنم، كنت أرى وجهها في كل مكان. كنت أتساءل: هل ما زالت هناك؟ هل أنقذها أحد؟».

ما زال سامي يعيش في تلك الليلة، وكأن الزمن توقف عندها. كلما تذكرها، تتجدد مشاعره كما لو أنه ما زال ذلك الصبي الخائف الذي لم يفهم العالم.

أما خالد، فكان أصغر من سامي عندما جُند، ويتذكر أول عملية إعدام شهدها، ولا تزال تفاصيلها محفورة في ذاكرته كأنها حدثت أمس:

«كنت في الخامس الابتدائي. كان أمامنا رجل مقيد على ركبتيه، وعيناه معصوبتان. القائد أمر أحد الفتيان بالتقدم. لم يرفض، لم يتردد. وكأنه آلة مبرمجة. رفع السكين وقطع رأس الرجل. لم أتحرك. لم أستطع حتى أن أرمش».

بعد سنوات، ما زال خالد يعاني من آثار بعد الصدمة التي أحدثتها تلك اللحظة، مشاهد الدماء، الصوت الخافت الأخير للضحية، النظرات المذعورة، كلها مطبوعة في ذاكرته. لم يكن وحده في ذلك، فقد أظهرت الشهادات التي جمعناها أن معظم «الأشبال» الذين شهدوا عمليات الإعدام الأولى كانوا يعانون من حالة من الصدمة العاطفية الصامتة، حيث كان يُطلب منهم عدم إظهار أي تأثر، بل وتشجيعهم على الإعجاب بالمشهد بعدّه «تنفيذاً لحكم الله».

يقول ناصر، أحد الناجين من هذه التجربة: «كنا مجموعة من الأطفال، لا نعرف ماذا يحدث حقاً. في البداية، كنت أظن أن كل شيء مجرد تمثيل، حتى أدركت أن الدماء حقيقية. كنت أحاول ألا أنظر، لكن القادة كانوا يجبروننا على المشاهدة. يقولون: هذا مصير المرتدين، وهذا سيكون مصيركم إذا خالفتم الأوامر».

كان الهدف واضحاً: تحويل الأطفال إلى آلات قتل، ونزع إنسانيتهم تدريجياً عنهم وتحويلهم إلى أدوات في ماكينة الموت الجماعي.

بعد سنوات من الفرار من التنظيم، لا يزال سامي يستيقظ كل ليلة على صراخه. يقول إنه يرى الفتاة الصغيرة في أحلامه باستمرار: «أحياناً أراها تصرخ، أحياناً تكون صامتة، لكن نظرتها تطاردني. لا أستطيع الهروب منها، كما لم تستطع هي الهروب مني حينها».

أما خالد، فمشكلته مختلفة، لكنها متجذرة في صدمته ذاتها. يقول بصوت منخفض وكأنه يخشى أن يسمعه أحد: «كلما رأيت سكيناً، أشعر برعشة. لا أستطيع حتى تقطيع الخبز دون أن تعود لي الصور. حتى حين أشاهد فيلماً عادياً فيه مشهد عنف، أشعر أنني أختنق».

تظهر شهادات أخرى أن العديد من «الأشبال السابقين» يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة بدرجات متفاوتة. يقول ياسر، أحد الناجين: «أحلم دائماً بأنني أركض في ممر طويل لا نهاية له، وفي نهايته أرى وجوه القتلى تنظر إليّ. لا أستطيع الهروب، لا أستطيع حتى الصراخ».

جيل من الأطفال يولد في مخيم غالبية سكانه من أسر «داعش» (الشرق الأوسط)

رسالة تجنيد من مجهول

على الرغم من انهيار دولة «الخلافة»، لم يتوقف تنظيم «داعش» عن محاولاته لاستعادة نفوذه عبر حواضنه السابقة نفسها. لكن الأساليب تغيّرت، وأصبحت أكثر تعقيداً ولا مركزية، ما يجعل من الصعب تتبعها أو القضاء عليها تماماً. فمع ظاهرة التكليف بمهام محددة خارج الإطار التنظيمي أو قيادة مركزية، أصبح هناك عمل مستقل، ودون تنسيق مباشر أحياناً، لدرجة أن بعض الأفراد المستهدفين قد يتلقون أكثر من عرض للتجنيد من جهات مختلفة تابعة للتنظيم، دون أن يعرفوا أيها أكثر ارتباطاً بهيكل القيادة السابق.

يقول خالد: «وقعت في الأسر وبعد فترة من خروجي، جاءني شخص لا أعرفه، بدا ودوداً جداً. لم يقل لي مباشرة إنه من التنظيم، لكنه كان يلمّح دائماً إلى أن الماضي لم ينتهِ، وأن هناك فرصة للعودة إلى العائلة. وبدا أنه يعرف تفاصيل عن حياتي، وعن سجني، وحتى عن الأشياء التي لم أخبر بها أحداً. فمن أين حصل على هذه المعلومات؟».

مثل خالد، تلقى سامي أيضاً عروضاً غير مباشرة، لكنها كانت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يستخدم التنظيم حسابات مزيفة على «تلغرام» و«واتساب» لاستدراج الشباب. ويقول: «ذات يوم، وصلتني رسالة من مجهول عبر تلغرام. قال لي إنه يعرف ما مررت به، وإن هناك طريقة لأجد مكاني في الحياة من جديد. بدأ بالحديث عن الظلم، وكيف أننا مجرد أدوات تم استغلالها ثم رُميت جانباً. كان بارعاً جداً في اختيار كلماته، كأنه طبيب نفسي يعرف كيف يصل إلى نقاط ضعفي».

وبالإضافة إلى الأساليب التقليدية للتجنيد، يستغل التنظيم التكنولوجيا الحديثة، وألعاب الفيديو التي تروج للأفكار الجهادية والمنتديات المغلقة. في بعض الأحيان، يتم إرسال روابط مشفرة تحتوي على رسائل دعائية، أو فرص تعليمية ومنح دراسية تبدو عادية، لكنها في الواقع وسيلة استدراج إلى مناطق النفوذ.

وبدأ التنظيم في فترة من الفترات الاعتماد على أشخاص لم يكونوا مقاتلين بالضرورة، بل عملوا في مجالات مدنية ولهم قبول بين الناس مثل عمال الإغاثة أو الخدمات اللوجيستية أو غيرها من القطاعات المدنية التي كانت تابعة للتنظيم في فترة سيطرته. ويقول خالد: «أخبرني صديق قديم بأنه يعمل مع شخص ميسور يقوم بتوزيع الأموال والسلال الغذائية والبطانيات للقرى الفقيرة، وقال لي إنه بإمكاني الانضمام والعمل معه. لاحقاً، عرفت أن هذا العمل ليس سوى غطاء، وأن بعض العاملين فيه هم في الحقيقة من أفراد التنظيم السابقين».

سجن الصناعة الذي يضم عناصر «داعش» في شمال شرقي سوريا الخاضع لحراسة «قسد» (رويترز)

المجتمع يرفضنا والحكومة لا تثق بنا

تشكل الظروف الاقتصادية، كما الوصمة الاجتماعية، عاملاً رئيساً في استمرار نجاح التنظيم في تجنيد الشباب. يعيش كثير من هؤلاء الفتية في مناطق تفتقر إلى فرص العمل، ويعانون من التهميش الاجتماعي، ما يجعلهم عرضة للإغراءات المالية التي يقدمها التنظيم.

يقول سامي: «عندما خرجت، لم أجد أي عمل. حاولت أن أبدأ من جديد، لكن الجميع كان ينظر إليّ كتهديد. لم أكن أملك شيئاً، ولا مستقبلاً. في لحظات اليأس، فكرت: ماذا لو عدت؟ على الأقل سأحصل على شيء مقابل المخاطرة. لا أحد يقبل توظيفي هنا، الجميع يراني تهديداً».

أما خالد، فيتحدث عن شعور آخر يلازم معظم الناجين من تجربة «أشبال الخلافة»: العزلة. «المجتمع لا يريدنا، والحكومة لا تثق بنا. نحن عالقون في مكانٍ لا نعرف إلى أين نذهب منه. عندما يأتي شخص ويقول لك: نحن لم ننسَك، نشعر أنك ما زلت واحداً منا، فإنك قد تفكر في الأمر».

أحد الشهود الآخرين قال: «عندما لا تجد طعاماً، وعندما يرفض الجميع توظيفك لأنك كنت يوماً جزءاً من التنظيم، تبدأ في التفكير في الخيارات المتاحة أمامك. بعضنا قوي بما يكفي لرفض العودة، لكن البعض الآخر قد لا يملك القدرة نفسها».

حرب طويلة

من الأمور التي زادت من ارتباك الناجين أن التنظيم يبدو وكأنه يعرف كل تحركاتهم. لم يكن الأمر يقتصر على مجرد رسائل أو محاولات لقاء، بل في بعض الأحيان كانوا يجدون أنفسهم محاطين بأشخاص يعرفون عنهم تفاصيل لم يشاركوها مع أحد.

يقول خالد: «بعد خروجي بفترة، كنت أعيش في مكان بعيد عن أي شيء له علاقة بالتنظيم. لكن فجأة، ظهر شخص في المسجد الذي كنت أصلي فيه. كان يتحدث عن كيف أن بعضنا قد ضلّ الطريق، لكنه يستطيع العودة. عندما اقتربت منه وسألته عن قصده، قال لي شيئاً جعل الدم يتجمد في عروقي: أنت كنت هناك، أنت تعرف ما أعنيه».

قد تكون دولة «الخلافة» قد سقطت، لكن أفكارها لم تختفِ، وأساليبها تتطور دائماً لتتلاءم مع أي واقع جديد. بالنسبة لخالد وسامي وغيرهما من «الناجين»، فإن الصراع لم يكن يوماً مجرد معركة سلاح، بل هو حرب نفسية مستمرة، حيث يحاولون الحفاظ على هويتهم الجديدة، بينما يواجهون أشباح الماضي ومحاولات التنظيم لاستعادتهم، بينما سوريا اليوم مفتوحة على خيارات لا تحصى.