السياسة تتسلل إلى حصون الأحاديث النبوية

TT

السياسة تتسلل إلى حصون الأحاديث النبوية

تتوق روح البليد إلى الشعور بأنه مخدوم وألا حاجة إلى التفتيش والبحث العلمي، وأن كل شيء على ما يرام ومُحكم، وأن ما عنده كله، دِقه وجلّه، صحيح لا شك فيه. ولهذا؛ لا يريد أن يطرح حول ذلك سؤالاً، وقد يكره من يطرح السؤال. وحده الحكيم هو من يدرك في قرارة نفسه، أن الحقيقة غالية وأن الوصول إلى الحقائق، الخاصة والعامة، يحتاج إلى كثير من التمزق والألم. قراءة هذا المقال تحتاج إلى شيء من هذا من قِبل القارئ؛ فالحديث هو عن تاريخنا وكيف تمت كتابته.
بدأ التدوين الحقيقي متأخراً جداً في منتصف القرن الهجري الثاني؛ فالعرب قبل الإسلام وخلال قرنه الأول وبعض الثاني لم يكونوا أهل كتب، بل أصحاب ثقافة شفهية. ينبغي ألا يكون هناك شك اليوم في أن العباسيين هم مَن أشرف على كتابة تاريخ المسلمين، فآثار أصابع بني العباس ظاهرة في كل مكان. وفي القرن الثالث الهجري خرجت كتب الحديث، مسند أحمد والكتب الستة ومستدرك الحاكم وكتب ابن خزيمة وابن حبان، وكتب اللغة وكتب التفسير. ما مدى ثقتنا بأن بني العباس لم يتدخلوا في التدوين فيزيدوا وينقصوا؟
كل تاريخنا وآدابنا دُوّنت تحت إشراف السلطة العباسية، وهذا لا يعني أبداً أن ندعو لحرق هذا التراث، بل لا بد أن يبقى؛ فهو تاريخنا، لكن لا بد من الشك النسبي في التفاصيل. تنظر في تاريخ ميلاد أصحاب الحديث فتجد أن أكبرهم سناً أحمد بن حنبل مات في سنة 241، والبخاري مات سنة 257، ومات مسلم سنة 261، ومات أبو داود سنة 275 ومات الترمذي سنة 279، أي أنهم كلهم ماتوا في القرن الثالث للهجرة، وهذه هي مرويات القرن الثالث، وهي تختلف عما كان معروفاً في القرن الأول، والأسماء الأخرى التي جاءت بعدهم أتت بأشياء لم يذكروها. هذه الكتب اجتهاد ومحل اجتهاد، ليست كلها صحيحة وليست كلها باطلة، لكنها قامت بدور التشكيل الثقافي الفكري للأمة.
أول ما خلص إليه بحثي في هذه القضية وأول كِذبة مكشوفة دسها العباسيون في الإسلام، حديث الرايات السود قبل أن يتولوا الحكم. فكلنا يعرف أنهم هم أصحاب الرايات السود والملابس السود. يقول الحديث «يُقتل عندَ كنزِكم ثلاثة، كلُّهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحدٍ منهم، ثم تطلع الرايات السود من قِبَلِ المشرقِ، فيقتلونَكم قتلاً لم يَقتله قومٌ - ثم ذكر شيئاً لا أحفَظُه فقال - فإذا رأيتموه فبايِعوه ولَو حبواً علَى الثلج فإنه خليفة اللَّهِ المهدي». وفي رواية «إذا رأيتم الراياتِ السود خرجت من قبَلِ خراسانَ فأْتوها ولَو حَبواً». هذا الحديث خرج إلى الدنيا مبشراً ومهدداً بين يدي ثورة بني العباس على بني أمية وانتزاع الحكم منهم، ولا شك عندي في أن دعاتَهم هم من كذبه، والإشارة إلى خراسان، لا تعني شيئاً سوى التبشير بثورة أبي مسلم الخراساني الذي نجح في زمن قياسي في الهيمنة على خراسان، في حين واصلت الجيوش العباسية زحفها نحو العراق، وبويع أبو العباس السفاح بالخلافة في الكوفة، وهُزم الخليفة الأموي مروان بن محمد في موقعة الزاب، ثم قُتل في أواخر سنة 132 للهجرة، وزالت الدولة الأموية. هذا الحديث المكذوب كان مجرد إعلان عن شعار ورمز سياسي وتبشير بأحداث سياسية جسيمة، ويبدو أنه لا يزال صالحاً للاستعمال، فالحزب الإرهابي «داعش» يزعمون أنهم هم أهل السواد المذكور ويدعون السذج للالتحاق بهم.
كم من الأحاديث المكذوبة ذات المضامين السياسة تم إدخالها في السنّة النبوية؟ هذا غير معلوم، إلا أن عباقرة الفكر الإسلامي كانوا يُلمحون إلى هذه القضية دون تعميم لكيلا يتهموا بمعاداة السنّة والإسلام. من ذلك، أننا وجدنا أبا المعالي الجويني قد أعلن عن رفضه حديث «الأئمة من قريش»، مع أنه مروي في كتاب البخاري وفي كتاب مسلم. ومع أن هذا النص قد أخذ به أهل السنّة لقرون، وجدنا الجويني قد كتب في كتابه «غياث الأمم في التياث الظُلَم»: «الذي يوضح الحقَّ في ذلك أنّا لا نجد من أنفسنا ثلَجَ الصدور واليقين المبتوت بصَدَر هذا من فَلْق رسول الله، كما لا نجد ذلك في سائر أخبار الآحاد، فإذن لا يقتضي هذا الحديث العلم باشتراط النسب في الإمامة». الفلق هو الفم، أي لم ينشرح صدري لقبول هذا الحديث وأنه خرج من فم رسول الله. البرهان على أن هذا الحديث موضوع مكذوب هو أن الحكم والمُلك - نظرياً وعملياً - لا يستقر إلا للأصلح، الأصلح للحكم وليس الأصلح بالمعنى الأخلاقي، أي أن من يحكم سيكون هو المُركّب من صراع الأضداد، ومن يستطيع أن يحتفظ بأفضل مزايا كل من سبقه. من الناحية العملية هذا ما حدث في كل التاريخ فلم يتول الإمامة العظمى أحد مِن أحفاد علي - رضي الله عنه -، ولا من أبنائه. هذا الرأي التنويري من أبي المعالي الجويني لم يجد صدى عند السلفيين وأهل الحديث، بل على النقيض من هذا وجدناهم يصححون أحاديث الأئمة في قريش ما بقي منهم اثنان، وأنه لا ينازعهم في ذلك أحد إلا أكبه الله في النار. مع أن هذا الحديث واضح الوضع وبيّنٌ أنه مدسوس مكذوب، فمعناه لا يوافق عليه العقل السليم. إنه يقرر أن لو تنازع على إمامة المسلمين العامة رجلان، أحدهما قد اجتمعت فيه كل مواصفات النقص والضعف والفشل لكنه من قريش، والآخر قد اجتمعت فيه كل صفات الكمال والقوة والنجاح، لكنه ليس بقرشي، لتعيّن على المسلمين مبايعة القرشي لمجرد أنه قرشي، حتى وإن أدى ذلك إلى ضعف الكيان السياسي وتهديد استقرار الدولة وفشلها في حماية أرضها ومواطنيها ومصالحها.
كل هذا غائب تماماً عن فهم السلفيين وكأنهم لم يتجاوزوا قط ذلك الحلف التاريخي بين الخليفة العباسي المتوكل وأحمد بن حنبل الذي كانت محنته مع المعتزلة سبباً جوهرياً في قربه الاضطراري من السياسة وتحالفه مع الحاكم في زمنه. فعل هذا من باب سد الذرائع، وإغلاق الباب أمام تكرار استئثار من يسميهم الحنابلة بأهل البدع، بالسلطان؟ منذ تلك اللحظة التاريخية التي انتصر فيها ابن حنبل على المعتزلة، أصبح هناك نوع من التخادم بين رجال السياسة والحنابلة الذين كانوا فيما مضى يتواصون بالبعد عن البلاط، فتغير الحال وألقت فتنة «خلق القرآن» بالحنابلة وأهل الحديث مباشرة في حضن السلطان العباسي. هو بلا شك يحتاج إليهم لأنهم أقرب منه إلى نبض الشارع، يخدمونه بالتأكيد على المبدأ الإسلامي في السمع والطاعة وترك الخروج عليه بالسيف والتحذير من مناهج الخوارج، وهو يغدق عليهم العطايا ويجري عليهم الأرزاق ويسلم لهم الوظائف الدينية والخطابية.
ختام المقال: سيظل الناس في حاجة إلى تلك المرويات التاريخية التي لا نعلم على وجه اليقين مدى صحتها ودقتها، لا ينبغي أن يكون ثمة خلاف، ولكن لا ينبغي أن يكون ثمة خلاف أيضاً على أن الأحاديث ذات المضامين السياسية يجب أن توضع في دائرة الشك وأن توضع بعدها علامة استفهام.
- باحث ومترجم سعودي


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!