«الحارس الليلي»... موزاييك من الحكايات تتقاطع مصائر أصحابها

لويز إردريك توظف سيرة جدها في روايتها الفائزة بجائزة «بوليتزر»

لويز إردريك
لويز إردريك
TT

«الحارس الليلي»... موزاييك من الحكايات تتقاطع مصائر أصحابها

لويز إردريك
لويز إردريك

في روايتها «الحارس الليلي» الفائزة بجائزة «بوليتزر» 2021، تعود الروائية لويز إردريك إلى العام 1953 الذي شهد دخول العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والقبائل الهندية في مرحلة جديدة من التوتر والتأزم، أدرك خلالها المواطنون الأصليون عزم الحكومة على تجريدهم من البقية المتبقية من أراضيهم «المحميات» وتقويض مجتمعاتهم بترحليهم إلى المدن بعد تخليها عن مسؤوليتها تجاههم وإيقاف الخدمات التي كانت تقدمها لهم بموجب معاهدات سابقة. في الحقيقة كان إيقاف الخدمات يعني إلغاء المعاهدات.
في ذلك العام استطاع السيناتور من المورمون من ولاية يوتا آرثر واتكنز تمرير مشروع قانون يمثل أساساً لسياسة هندية جديدة، أو حلاً لما يعرف بالمشكلة الهندية. وقد جادل بأنه بينما تنفق الحكومة الفيدرالية البلايين في محاربة الشيوعية، إلا أنها تدعم الاشتراكية في المحميات الهندية. وقد شرع واتكنز في تفكيك نظام المحميات وبرامج الخدمات التي تدعمه والبيروقراطية الفيدرالية التي تديره، مُطلِقاً على برنامجه الجديد اسم «برنامج الحرية الهندية». وقد ترجم هذا البرنامج في تشريع للإنهاء العام لقبائل معينة ومستوطنات للهنود في ولاية يوتا وعدد من الولايات الأخرى.
وبعودتها إلى هذا الحدث الذي يشكل منعطفاً خطيراً للغاية في العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والمواطنين الأصليين، ويهدد بتقويض مجتمعاتهم وثقافاتهم وتذويب هوياتهم وتشتيتهم بترحليهم من المحميات إلى المدن، تعود إردريك في الوقت نفسه إلى التاريخ الذاتي الخاص بأسرتها، لتستلهم قصة الشخصية المحورية في روايتها من سيرة جدها لأمها باتريك غورنو. فالشخصية المحورية توماس واجاشك أحد الرؤساء في قبيلة تشيبوا في محمية جبال السلحفاة في نورث داكوتا وحارس ليلي في أول مصنع في المنطقة، هو مثل جدها باتريك غورنو الذي كان رئيساً قبلياً وحارساً.
تمثل مقاومة مشروع قانون الإنهاء «termination bill» الحدث الرئيس في الرواية، بيد أن حكايته ليست الحكاية الوحيدة التي ترويها الساردة العليمة؛ لأن الخطاب السردي في «الحارس الليلي» موزاييك من الحكايات التي تتقاطع حيوات أصحابها مع حياة توماس واجاشك، ومصائرها مهددة بالإنهاء مثل مصيره ومصائر جميع أفراد القبيلة.

فبالإضافة إلى قصة توماس واجاشك وتزعمه معارضة مشروع قانون الإنهاء، يلتقي القارئ في «الحارس الليلي» بقصص روز واجاشك وباتريس بارانتو، وجغي بلو، وفيرا بارانتو، وود ماونتين، ولويد بارنز (الأميركي من أصل أوروبي)، ولوي بايبستون، وفيرنون وإلناث (مبشران من المرمون)، ودوريس لودر، وهاري روي، وميلي كلاود، وموسى مونتروز. في الفصول التي تروي أطرافاً من حياة هذه الشخصيات، يتوارى توماس واجاشك الشخصية المحورية أو يرد اسمه كأي شخصية أخرى، فكل واحد من تلك الشخصيات هو المحوري في حكايته. تروي الساردة هذه الفصول بما يبدو عشوائية مقصودة؛ إذ لا يمكن للقارئ حين يقرأ فصلاً خاصاً عن واحدة من تلك الشخصيات التنبؤ بالشخصية التي سيروي الفصل التالي حكايتها.
يسهم هذا المركب الفيسفسائي من الحكايات الفردية الخاصة في منع الرواية من الانزلاق نحو الرتابة والجفاف اللذين يميزان بعض الروايات التاريخية في العادة. كما أن «الحارس الليلي»، وبتقديمها صوراً لمواطنين أصليين ممكنين، مختلفين ومتابينين في سلوكاياتهم وطبائعهم وأمزجتهم وأهوائهم، تحطم قوالب الصور النمطية المُجَانِسَّة التي كثيراً ما يتعرض المواطنون الأصليون إلى الإقحام فيها.
لقد تطلب سرد هذا العدد من الحكايات وتنقل الشخصيات من أمكنة ومدن إلى أخرى، توظيف ساردة عليمة؛ لأنها التقنية المناسبة التي تجعل من السهولة بمكان لملمة وحبك الخيوط السردية العديدة في نسيج خطاب سردي متماسك. كما تتيح هذه التقنية إمكانية الانتقال من السرد على المستوى الكبير المتعلق بالصراع بين المواطنين الأصليين والحكومة الفيدرالية إلى السرد على المستويات الصغيرة، مستويات القصص الفردية للشخصيات.
فعلى المستوى الكبير، على سبيل المثال، ترافق الساردة العليمة وفد قبيلة تشيبوا برئاسة توماس واجاشك من نورث داكوتا إلى العاصمة واشنطن في محاولة لإقناع الكونغرس في إلغاء مشروع قانون الإنهاء، الذي ليس سوى مشروع إبادة طويلة المدى للمواطن الأصلي، لا يختلف في نتائجه القاتلة والمدمرة عن المذابح والمعارك غير المتكافئة بين سكان الأصليين والمستعمرين الأوروبيين، أو القوانين التي أريد بها تجريد المواطنين من أراضيهم أو تدمير ثقافاتهم مثل قانوني التخصيص والدمج، والإدخال القسري للأطفال في المدارس الداخلية بهدف القضاء على «الهندي» بعد تعذر تصفيته ومحوه من على وجه الأرض.
في واشنطن تكون الساردة العليمة مرافقة للوفد تنقل تفاصيل ووقائع لقائه بلجنة الكونغرس وتقديم شهادة على الفقر والأوضاع المتردية في مجتمعات السكان الأصليين. وتنقل الحدث الذي لم يتوقعه أحد، وهو إطلاق امرأة من بورتوريكو النار على اللجنة وهي تهتف: تحيا بورتوريكو. وتدخل بصحبة توماس واجاشك مكتب واتكنز ليشكره - وسط دهشة الأخير - على اهتمامه بشعبه «أود أن أشكرك على اهتمامك بشعبنا. من الواضح أنك قد أخذت موقفنا على محمل الجد، لقد أدهشني اللطف الذي لمسناه في استماعك باهتمام وتقييمك بتمعن لشهادتنا ضد مشروع قانون الإنهاء». فما كان من واتكنز المندهش إلا أن أجاب «في كل أيامي كعضو في مجلس الشيوخ، لم يشكرني أحد على الاستماع إلى شهادتهم».
وعلى المستوى الصغير، أو الفردي الخاص، مثلاً، تركب الساردة العليمة القطار في صحبة باتريس بارانتو عندما تقرر السفر إلى مدينة منيابوليس للبحث عن شقيقتها فيرا بارانتو التي غابت بطريقة غامضة، وغابت معها أخبارها، واختفت من عالم أمها جَنَاتْ وشقيقها بوكي وشقيقتها باتريس. وظلوا لا يعرفون عنها شيئاً سوى اعتقادهم أنها أنجبت طفلاً قبل ذهابها إلى منيابوليس. وعادت باتريس بابن شقيقتها من المدينة وعالمها المخيف دون أن تعثر على أثر لأختها. وعادت معها الساردة العليمة.
رغم أن الساردة العليمة في «الحارس الليلي» من النوع المتدخل التي تتمتع بامتياز التعليق والتعجب وإظهار موقفها الذاتي أحياناً، فإنها لا تفعل ذلك كثيراً، وإن فعلت فبنبرة صوت خافتة هادئة، وتراوح في سردها بين الجمل القصيرة والطويلة إلى حد ما، في أسلوب رشيق وسلس، مطرز بمفردات من لغة قبيلة تشيبوا.

* كاتب وأكاديمي سعودي


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

سلوفينية تبلغ 12 عاماً تُنقذ مشروعاً لإعادة «الزيز» إلى بريطانيا

أحدثت الفارق وغيَّرت النتيجة (صندوق استعادة الأنواع)
أحدثت الفارق وغيَّرت النتيجة (صندوق استعادة الأنواع)
TT

سلوفينية تبلغ 12 عاماً تُنقذ مشروعاً لإعادة «الزيز» إلى بريطانيا

أحدثت الفارق وغيَّرت النتيجة (صندوق استعادة الأنواع)
أحدثت الفارق وغيَّرت النتيجة (صندوق استعادة الأنواع)

عندما سافر علماء بيئة بريطانيون إلى سلوفينيا هذا الصيف على أمل التقاط ما يكفي من صراصير «الزيز» المغرِّدة لإعادة إدخال هذا النوع إلى غابة «نيو فورست» في بريطانيا، كانت تلك الحشرات صعبة المنال تطير بسرعة كبيرة على ارتفاع بين الأشجار. لكنَّ فتاة تبلغ 12 عاماً قدَّمت عرضاً لا يُفوَّت.

وذكرت «الغارديان» أنّ كريستينا كيندا، ابنة الموظّف في شركة «إير بي إن بي»؛ الموقع الذي يتيح للأشخاص تأجير واستئجار أماكن السكن، والذي وفَّر الإقامة لمدير مشروع «صندوق استعادة الأنواع» دوم برايس، ومسؤول الحفاظ على البيئة هولي ستانوورث، هذا الصيف؛ اقترحت أن تضع شِباكاً لالتقاط ما يكفي من صراصير «الزيز» لإعادتها إلى بريطانيا.

قالت: «سعيدة للمساعدة في هذا المشروع. أحبّ الطبيعة والحيوانات البرّية. الصراصير جزء من الصيف في سلوفينيا، وسيكون جيّداً أن أساعد في جَعْلها جزءاً من الصيف في إنجلترا أيضاً».

كان صرصار «نيو فورست» الأسود والبرتقالي هو النوع الوحيد من الصراصير الذي وُجِد في بريطانيا. في الصيف، يصدح الذكور بأغنية عالية النغمات لجذب الإناث التي تضع بيضها في الأشجار. وعندما يفقس الصغار، تسقط إلى أرض الغابة وتحفر في التربة، حيث تنمو ببطء تحت الأرض لمدّة 6 إلى 8 سنوات قبل ظهورها على شكل كائنات بالغة.

صرصار «نيو فورست» الأسود والبرتقالي (صندوق استعادة الأنواع)

اختفى هذا النوع من الحشرات من غابة «نيو فورست»، فبدأ «صندوق استعادة الأنواع» مشروعاً بقيمة 28 ألف جنيه إسترليني لإعادته.

نصَّت الخطة على جمع 5 ذكور و5 إناث من متنزه «إيدريا جيوبارك» في سلوفينيا بتصريح رسمي، وإدخالها في حضانة صراصير «الزيز» التي تضمّ نباتات محاطة في أوعية أنشأها موظّفو حديقة الحيوانات في متنزه «بولتون بارك» القريب من الغابة.

ورغم عدم تمكُّن برايس وستانوورث من التقاط صراصير «الزيز» البالغة، فقد عثرا على مئات أكوام الطين الصغيرة التي صنعها صغار «الزيز» وهي تخرج من الأرض بالقرب من مكان إقامتهما، وتوصّلا إلى أنه إذا كانا يستطيعان نصب خيمة شبكية على المنطقة قبل ظهور صراصير «الزيز» في العام المقبل، فيمكنهما إذن التقاط ما يكفي منها لإعادتها إلى بريطانيا. لكنهما أخفقا في ترك الشِّباك طوال فصل الشتاء؛ إذ كانت عرضة للتلف، كما أنهما لم يتمكنا من تحمُّل تكلفة رحلة إضافية إلى سلوفينيا.

لذلك، عرضت كريستينا، ابنة مضيفيهما كاتارينا وميتشا، تولّي مهمّة نصب الشِّباك في الربيع والتأكد من تأمينها. كما وافقت على مراقبة المنطقة خلال الشتاء لرصد أي علامات على النشاط.

قال برايس: «ممتنون لها ولعائلتها. قد يكون المشروع مستحيلاً لولا دعمهم الكبير. إذا نجحت هذه الطريقة، فيمكننا إعادة أحد الأنواع الخاصة في بريطانيا، وهو الصرصار الوحيد لدينا وأيقونة غابة (نيو فورست) التي يمكن للسكان والزوار الاستمتاع بها إلى الأبد».

يأمل الفريق جمع شحنته الثمينة من الصراصير الحية. الخطة هي أن تضع تلك البالغة بيضها على النباتات في الأوعية، بحيث يحفر الصغار في تربتها، ثم تُزرع النباتات والتربة في مواقع سرّية في غابة «نيو فورست»، وتُراقب، على أمل أن يظهر عدد كافٍ من النسل لإعادة إحياء هذا النوع من الحشرات.

سيستغرق الأمر 6 سنوات لمعرفة ما إذا كانت الصغار تعيش تحت الأرض لتصبح أول جيل جديد من صراصير «نيو فورست» في بريطانيا.