ماركيز: أنا طفل خجول يحتمي بالعزلة التي يوفرها الأدب ليصنع السحر

كتاب عن ذكريات طفولته وسنوات الصبا وروايته الأشهر

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

ماركيز: أنا طفل خجول يحتمي بالعزلة التي يوفرها الأدب ليصنع السحر

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

لم يكن «ماركيز» مجرد كاتب حصل على جائزة نوبل، بل هو ظاهرة أدبية شديدة العمق اتخذت من أميركا اللاتينية، وكولومبيا تحديداً، نافذة أطل منها هذا المبدع الاستثنائي على الروح الإنسانية في كل مكان. وعلى غير ما هو معتاد في معظم ما نشر عنه، يحكي هو بنفسه في كتاب «ماركيز - لن أموت أبداً» عن ذكريات طفولته وسنوات الصبا والمراهقة في بيت جدته، فضلاً عن الحكايات والملابسات الخاصة بتأليف وصدور عدد من أشهر رواياته مثل «مائة عام من العزلة».
الكتاب من تأليف الكاتب الكولومبي «كونرادو زولواجا»، وهو أيضاً محرر ثقافي وأستاذ لمادة الأدب في العديد من الجامعات، وصدرت ترجمته عن دار «العربي» بالقاهرة لسمير محفوظ بشير، مراجعة وتحرير هدى فضل. يقول ماركيز: إن اسمي أيها السنيور هو جابريل جارثيا ماركيز، آسف أنا أيضاً لا أحب هذا الاسم لأنه عبارة عن خيط من أسماء عادية لم أتمكن قط من الارتباط به، ولدت في بلدة أراكاتاكا في كولومبيا، من مواليد برج الحوت، وزوجتي اسمها مرسيدس وهما - زوجتي وبلدتي - أهم شيئين في حياتي ﻷنني بسببهما تمكنت من استخدام الكتابة للنجاة أو على الأقل النجاة حتى الآن»، ويضيف: «أنا كاتب لأنني إنسان خجول، إن صنعتي هي السحر لكن طول المدة التي استغرقتها في صناعة سحري تصيبني بالاضطراب فأضطر إلى أن أحتمي بالعزلة التي يوفرها لي الأدب».
في كنف الجد
كان أقوى دوافع ماركيز للقيام بأي شيء هو أن يحبه أصدقاؤه أكثر ومن أجل هذا الهدف وحده برع في أثناء طفولته في الرسم على حائط ورشة صائغ الفضة ثم برع في الخدع السحرية، وفي مراهقته أصبح لاعب بيانو وأكورديون ماهراً ثم بائع موسوعات وشاعراً وصانع أفلام وحكاءً للقصص ثم كاتباً لها.
نشأ ماركيز في بيت جده لأن أباه ركض وراء أحلامه فاستقال من وظيفته وقرر أن يستقر في مدينة «بارانكيا» بوصفه صيدلياً خبيراً في تحضير الأدوية منزلياً. أصر الجدان أن يظل جابرييل معهما في «أراكاتاكا» ولمدة سبعة أعوام كان تحت رعاية جده «باباليلو»، الكولونيل من حرب الألف يوم. ربته جدته «مينا» أيضاً فنشأ وحوله قريباتها وبنات زوجها غير الشرعيات أو إخوته وشارك في تربيته أيضاً الخدم وهم من هنود الـ«جواخيراس» والذين عوملوا وكأنهم أفراد من العائلة. كان من ضمن الذين نشأ وسطهم أيضاً مجموعة من النسوة كن مسؤولات عن المطبخ ويصنعن له الحلوى على شكل حيوانات ويدرن كل شؤون المنزل، بما في ذلك ميزانية البيت.

حول تلك الحقبة في حياته، يقول: «أؤمن أن الفضل في طريقتي في التفكير يعود إلى النسوة في عائلتي وكل الذين عملوا في خدمتنا وأثروا في طفولتي جميعهم تمتعوا بشخصيات قوية وقلوب رحيمة وعاملوني بتقائية جعلتني أشعر وكأن الجنة قد وجدت على الأرض». كانت النساء اللاتي تعاملن معه ذوات تأثير كبير فيه منذ أيام طفولته كما كن مسؤولات عن العديد من أقوى اعتقاداته مثل أن النساء هن اللاتي يحافظن على تماسك العالم بقبضاتهن الحديدية. ولكن يبدو أن تلك العلاقة لم تكن وردية طوال الوقت، فعندما اكتشف أن لديه موهبة الرسم، قرر فجأة أن يرسم على جدران المنزل فغضبت نساء المنزل ومنعن من فعل ذلك. هنا اشتعل غضب جده ﻷنهن منعنه من الرسم فأمر، وكان حينها جالساً في ورشة صائغ الذهب والتي كان يستخدمها أيضاً مكتباً له، أن يدهن أحد الجدران باللون الأبيض وأن يشتروا لحفيده الألوان، فقد آمن بأن هذا الطفل سيصبح رساماً. ومن مظاهر اعتزازه وحبه لحفيده أنه كان يجلسه إلى جانبه على رأس المائدة وباقي الضيوف على الجانبيين.
الصعلوك الشاب
اعترف ماركيز بأنه يدين بالفضل للكاتب الأميركي ويليام فوكنر خلال حواره الشهير مع كاتب البيرو الأشهر «ماريو بارجاس يوسا» بعد ثلاثة أشهر من صدور «مائة عام من العزلة» قائلاً: «إن الأسلوب الفوكنري مؤثر وفعال عند حكي أي قصة واقعية في دول أميركيا اللاتينية، وهو ما اكتشفناه في فوكنر دون أن نعي هذا الاكتشاف، وهو أننا رأينا الواقعية وأردنا وصفها وأدركنا بأن الأساليب الأوروبية لم تسعفنا في ذلك، ولا حتى الأساليب الإسبانية التقليدية، فجأة وجدنا أن الأسلوب الفوكنري هو المناسب لحكي القصة الواقعية».
لم يتأثر ماركيز بأسلوب فوكنر فقط، بل يبدو أنه أعجب بفكرة البوهيمية والصعلكة التي تنطوي عليها نصائحه في الحياة عندما قال ذات مرة ساخراً: «إن الفن لا يهتم بالمكان الذي سيعبر عنه وإذا كنت تقصدني بكلامك فإن أفضل وظيفة عرضت علي هي أن أكون مديراً لبيت سيئ السمعة، أرى أن هذه هي أفضل بيئة يمكن لفنان أن يعمل بها فهي توفر له حرية اقتصادية كاملة فيتحرر من خوفه من الجوع ويجد فوق رأسه سقفاً وليس عليه القيام بشيء سوى بعض الحسابات البسيطة وأن يذهب شهرياً إلى الشرطة ويدفع الإتاوة».
عاش ماركيز في شبابه حياة الصعلكة، حيث قضى عدة أشهر في فندق رخيص أطلق عليه هو وأصدقاؤه اسم «ناطحة السحاب» اعتاد رهن مخطوطاته لدى مكتب استقبال الفندق عندما لا يكون معه المال الكافي لتغطية نفقاته حتى أن بعض الفتيات سيئات السمعة أشفقن عليه وسمحن له بأن يشاركهن معجون الأسنان والصابون.
في تلك الفترة، بدا الشاب الموهوب وكأنه يبحث عن نفسه، فالتحق بالعمل الصحافي مراسلاً لإحدى الجرائد كما وقع في غرام السينما، وكان جاداً في دراسة الفن السابع. غطى ماركيز المحرر الصحافي وهو في إيطاليا الحالة الصحية المتدهورة للبابا «بيوس الثاني عشر» في الفاتيكان، وغطى كذلك ما حدث في مؤتمر جنيف 1954 الذي حضره ممثلون للدول الأربع العظمى. ملأت تلك الأحداث وقت المراسل الكولومبي في البداية، بالإضافة إلى شعوره بخيبة الأمل عندما اكتشف أن المراعي خارج باريس لا تختلف كثيراً في خضرتها عن مرتفعات بلاده في بوغوتا. بعد مرور عدة أسابيع رحل إلى البندقية لتغطية حدث استولى على كل اهتمامه وهو مهرجان البندقية السادس عشر للفن السينمائي، حيث قضى أسبوعين يشاهد الأفلام في كل الأوقات صباحاً وحتى وقت متأخر من الليل. كان مبهوراً بكل ما يراه لدرجة أنه شاهد القليل من تلك المدينة التي تتحمل بشكل عجيب موجات وتحركات القوارب الميكانيكية في قنواتها المختلفة. سارع بالتوجه إلى روما حيث حضر عروض مركز الأفلام التجريبية الإيطالي، وظل لعشرة أعوام اللاحقة شغوفاً بالكتابة للسينما لكنه حين يسجل نفسه للدراسة في استوديوهات «شينشيتا» شعر بالملل من الجانب الأكاديمي فصرف نظر عن الموضوع برمته.
الرواية الأشهر
وينتقل المؤلف إلى سرد كواليس وملابسات عدد من روايات ماركيز الشهيرة ومنها «مائة عام من العزلة» بعد أن أصبح كاتباً معروفاً ومتزوجاً، غير أن لعنة الظروف المادية السيئة ظلت تلاحقه. تسلمت زوجته «مرسيدس» مسؤولية إدارة المنزل بالكامل بالخمسة آلاف دولار التي أعطاها لها زوجها، كما باعت السيارة التي اشتروها بأموال الجائزة التي حصل عليها عن روايته «في ساعة نحس» لتنفق على المنزل. بعد مرور عام وتصف وبعد انتهاء ما كان معها من أموال اضطرت إلى أن تلجأ إلى مصادر أخرى مثل إقناع الجزار وصاحب البيت بأن تتعامل معهم بالآجل. وبحلول الوقت الذي انتهى فيه ماركيز من كتابة الرواية كانا في حالة مادية صعبة لدرجة أنهما اضطرا أن يقسما صفحاتها الـ600 لنصفين ثم رهنا آخر ما يمتلكان من أثاث منزلي ليتمكنا من إرسالها إلى «بونيس آيرس» حتى أن «مرسيدس» قالت: «لا ينقصنا الآن سوى أن تفشل هذه الرواية».
وحول الأسلوب الذي اتبعه ماركيز في إنجاز «مائة عام من العزلة»، فهو يختلف عن «هيمنغواي»، الذي كان يفضل أن يكتب وهو واقف على قدميه وأن يكتفي بنقل وزنه من ساق إلى أخرى، وعندما سئل عن سبب قيامه بذلك أجاب: «كي أتعب سريعاً فلا أكتب أي هراء» أما «فوكنر» فقال إن كل ما يحتاج إليه هو الورق والقلم والشراب والسجائر. أما ماركيز فكانت لديه طريقة عملية وفعالة ساعدته على أن يظل متصلاً بالقصة وألا يفقد ترابطها أو زخمها. كانت إحدى الصعوبات التي واجهته في أثناء كتابته تلك الرواية هي أن يربط ما كتبه في الليلة السابقة بما سيكتبه صباح اليوم التالي، لذلك توصل إلى أن الطريقة الوحيدة التي ستساعده على الربط بين كل شيء هو ألا يكتب كل ما لديه من أفكار مرة واحدة وهو شيء مشابه لاستراتيجية هيمنغواي بأنه ليس من الحكمة أن «تفرغ البئر ماءها»، وهو ما فعله ماركيز. لم يكتب كل ما لديه من أفكار وأحداث اكتفى بكتابة أفكاره المكتملة لكي يستطيع أن يركز بعدها على جعل الأفكار الأخرى المتناثرة داخله متكاملة وصالحة للكتابة. وبهذه الطريقة استطاع الكاتب الكولومبي صاحب نوبل أن يكتشف وسيلة فعالة ورائعة بعد أن يظل يكتب لست ساعات صباحاً يتوقف عن الكتابة في فترة الظهر ليستريح بعدها ويصحح ما كتبه بخط اليد صباحاً ثم يعود إلى الكتابة بعدها حتى وقت متأخر من الليل ثم يتوقف ويعود إلى العمل صباحاً مجدداً، وفي الصباح يطبق كل التصحيحات والملاحظات التي كتبها يدوياً في اليوم السابق وبعدها يبدأ عمل اليوم الجديد بسلاسة نسبية.


مقالات ذات صلة

هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

شمال افريقيا هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

حفلت الجلسة الافتتاحية لـ«الحوار الوطني»، الذي دعا إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل أكثر من عام، برسائل سياسية حملتها كلمات المتحدثين، ومشاركات أحزاب سياسية وشخصيات معارضة كانت قد توارت عن المشهد السياسي المصري طيلة السنوات الماضية. وأكد مشاركون في «الحوار الوطني» ومراقبون تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، أهمية انطلاق جلسات الحوار، في ظل «قلق مجتمعي حول مستقبل الاقتصاد، وبخاصة مع ارتفاع معدلات التضخم وتسببه في أعباء معيشية متصاعدة»، مؤكدين أن توضيح الحقائق بشفافية كاملة، وتعزيز التواصل بين مؤسسات الدولة والمواطنين «يمثل ضرورة لاحتواء قلق الرأي العام، ودفعه لتقبل الإجراءات الحكومية لمعالجة الأز

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا السيسي يبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي المصري

السيسي يبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي المصري

عقد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اجتماعاً، أمس (الخميس)، مع كبار قادة القوات المسلحة في مقر القيادة الاستراتيجية بالعاصمة الإدارية الجديدة، لمتابعة دور الجيش في حماية الحدود، وبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي للبلاد. وقال المستشار أحمد فهمي، المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية، في إفادة رسمية، إن «الاجتماع تطرق إلى تطورات الأوضاع على الساحتين الإقليمية والدولية، وانعكاساتها على الأمن القومي في ظل الظروف والتحديات الحالية بالمنطقة». وقُبيل الاجتماع تفقد الرئيس المصري الأكاديمية العسكرية المصرية، وعدداً من المنشآت في مقر القيادة الاستراتيجية بالعاصمة الإدارية. وأوضح المتحدث ب

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن واستقرار الدول

مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن واستقرار الدول

قالت مصر إن «استمرار ظاهرة (المقاتلين الأجانب) يهدد أمن واستقرار الدول». وأكدت أن «نشاط التنظيمات (الإرهابية) في أفريقيا أدى لتهديد السلم المجتمعي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا حادث تصادم بمصر يجدد الحديث عن مخاطر «السرعة الزائدة»

حادث تصادم بمصر يجدد الحديث عن مخاطر «السرعة الزائدة»

جدد حادث تصادم في مصر الحديث بشأن مخاطر «السرعة الزائدة» التي تتسبب في وقوع حوادث سير، لا سيما على الطرق السريعة في البلاد. وأعلنت وزارة الصحة المصرية، (الخميس)، مصرع 17 شخصاً وإصابة 29 آخرين، جراء حادث سير على طريق الخارجة - أسيوط (جنوب القاهرة).

منى أبو النصر (القاهرة)
شمال افريقيا مصريون يساهمون في إغاثة النازحين من السودان

مصريون يساهمون في إغاثة النازحين من السودان

بعد 3 أيام عصيبة أمضتها المسنة السودانية زينب عمر، في معبر «أشكيت» من دون مياه نظيفة أو وجبات مُشبعة، فوجئت لدى وصولها إلى معبر «قسطل» المصري بوجود متطوعين مصريين يقدمون مياهاً وعصائر ووجبات جافة مكونة من «علب فول وتونة وحلاوة وجبن بجانب أكياس الشيبسي»، قبل الدخول إلى المكاتب المصرية وإنهاء إجراءات الدخول المكونة من عدة مراحل؛ من بينها «التفتيش، والجمارك، والجوازات، والحجر الصحي، والكشف الطبي»، والتي تستغرق عادة نحو 3 ساعات. ويسعى المتطوعون المصريون لتخفيف مُعاناة النازحين من السودان وخصوصاً أبناء الخرطوم الفارين من الحرب والسيدات والأطفال والمسنات، بالتعاون مع جمعيات ومؤسسات أهلية مصرية، على


القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
TT

القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

تأكيدات مصرية على لسان وزير الخارجية، بدر عبد العاطي، بشأن «الدور النبيل» الذي تقوم به القوات المصرية ضمن بعثات حفظ السلام عبر «تعزيز السلم والأمن» في أفريقيا، وأنها تعكس «الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في القارة السمراء».

تصريحات وزير الخارجية جاءت خلال زيارته للكتيبة المصرية ضمن قوات حفظ السلام في الكونغو الديمقراطية، التي تأتي أيضاً قبيل أسابيع من مشاركة جديدة مرتقبة مطلع العام المقبل في الصومال ضمن قوات حفظ سلام أفريقية، وسط تحفظات إثيوبية التي أعلنت مقديشو استبعاد قواتها رسمياً، وأرجعت ذلك إلى «انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الزيارة المصرية للقوات التي يمر على وجودها نحو 25 عاماً، تعد بحسب خبراء تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، تأكيداً على «الحضور المتنامي للقاهرة، وتعزيزاً لمشاركاتها بالقارة السمراء»، مستبعدين أن تتحول أي تحفظات إثيوبية تجاه الوجود المصري بمقديشو لمواجهات أو تصعيد عسكري.

وبحسب ما كشفته «الخارجية المصرية» في أواخر مايو (أيار) 2024، «فمنذ عام 1960، عندما أرسلت مصر قواتها إلى عمليات الأمم المتحدة في الكونغو، خدم ما يزيد على 30 ألفاً من حفظة السلام المصريين في 37 بعثة لحفظ السلام في 24 دولة، وبصفتها واحدة من كبريات الدول التي تسهم بقوات نظامية في عمليات حفظ السلام، تنشُر مصر حالياً 1602 من حفظة السلام من النساء والرجال المصريين في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام في الكونغو الديمقراطية والسودان وجنوب السودان والصحراء الغربية».

ووفق تقديرات نقلتها «هيئة الاستعلامات» المصرية الرسمية، منتصف يونيو (حزيران) 2022، تسترشد مصر في عمليات حفظ السلام بثلاثة مبادئ أممية أساسية، وهي «موافقة الأطراف والحياد، وعدم استعمال القوة إلا دفاعاً عن النفس، ودفاعاً عن الولاية».

بدر عبد العاطي يصافح كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

وتاريخياً، شاركت مصر في قوات حفظ السلام بأفريقيا في «الكونغو أثناء فترة الحرب الأهلية من 1960 إلى 1961، ثم من نوفمبر (تشرين الثاني) 1999، وكوت ديفوار لمساعدة الأطراف الإيفوارية على تنفيذ اتفاق السلام الموقع بينهما في يناير (كانون الثاني) 2003، والصومال في الفترة من ديسمبر (كانون الأول) 1992 إلى فبراير (شباط) 1995، وأفريقيا الوسطى من يونيو 1998 إلى مارس (آذار) 2000، وأنغولا من 1991 وحتى 1999، وموزمبيق من فبراير 1993 إلى يونيو 1995، وجزر القمر من 1997 وحتى 1999، وبوروندي منذ سبتمبر (أيلول) 2004، وإقليم دارفور بالسودان منذ أغسطس (آب) 2004».

وضمن متابعة مصرية لقواتها، التقى بدر عبد العاطي، الجمعة، مع أعضاء كتيبة الشرطة المصرية المُشاركة في مهام حفظ السلام ضمن بعثة الأمم المتحدة لحفظ الاستقرار في الكونغو الديمقراطية خلال زيارته التي بدأت الخميس، واستمرت ليومين إلى العاصمة كينشاسا، لتعزيز التعاون بكل المجالات، وفق بيان صحافي لـ«الخارجية المصرية».

وقال عبد العاطي إن «مصر إحدى كبرى الدول المساهمة في قوات حفظ السلام الأممية»، مؤكداً أن «وجود الكتيبة المصرية في الكونغو الديمقراطية يعكس عمق العلاقات التاريخية بين البلدين وأهمية الشراكة الاستراتيجية مع دول حوض النيل الجنوبي». كما نقل وزير الخارجية، رسالة إلى رئيس الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسيكيدي، من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تتضمن سبل تعزيز العلاقات، وإحاطة بما تم توقيعه من اتفاقيات تعاون خلال زيارته وتدشين «مجلس أعمال مشترك».

ووفق الخبير في الشؤون الأفريقية، عبد الناصر الحاج، فإن كلمة السر في مشاركة مصر بشكل معتاد ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا بشكل عام هي «طبيعة القوات المصرية حيث تتجلى الإمكانات العالية والخبرات التاريخية المتراكمة، ما جعل مصر دائمة المشاركة والحضور ضمن قوات حفظ السلام منذ أزمان بعيدة»، مؤكداً أن لمصر تجارب عدة في العمل ضمن بعثات حفظ السلام في كثير من دول أفريقيا التي شهدت نزاعات وأوضاع أمنية بالغة التعقيد، مثل ساحل العاج، والكونغو، وأفريقيا الوسطى، وأنغولا، وموزمبيق، وليبيريا، ورواندا، وجزر القمر، ومالي وغيرها.

جانب من كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في مهام حفظ السلام بالكونغو الديمقراطية (الخارجية المصرية)

الحاج أشار إلى أنه رغم أن الاضطرابات السياسية التي تشهدها كثير من دول أفريقيا «تزيد من تعقيد» عمل بعثات الأمم المتحدة الخاصة بحفظ السلام في أفريقيا، وعدم قدرة هذه البعثات على إحراز أي تقدم في ظل نقص المؤسسات الديمقراطية الفعالة في عدد من البلدان الأفريقية؛ فإن مصر تدرك جيداً مدى أهمية تكثيف حضورها الأمني في القارة السمراء، باعتبار أن «العدول عن المشاركة المصرية ضمن بعثات حفظ السلام، سوف يترك فراغاً عريضاً» ربما تستغله دول أخرى تنافس مصر في خارطة التمركز الفاعل في أفريقيا.

الخبير الاستراتيجي المصري، اللواء سمير فرج، أوضح أن هناك قوات لحفظ السلام تتبع الأمم المتحدة، وأخرى تتبع الاتحاد الأفريقي، وكل له ميزانية منفصلة؛ لكن يتعاونان في هذا المسار الأمني لحفظ الاستقرار بالدول التي تشهد اضطرابات ومصر لها حضور واسع بالاثنين، مؤكداً أن مشاركة القاهرة بتلك القوات يتنامى ويتعزز في القارة الأفريقية بهدف استعادة الحضور الذي عرف في الستينات بقوته، وكان دافعاً ومساهماً لتأسيس الاتحاد الأفريقي والحفاظ على استقرار واستقلال دوله.

وهو ما أكده وزير الخارجية المصري خلال زيارته للكتيبة المصرية بالكونغو الديمقراطية بالقول إن «المشاركة في بعثات حفظ السلام تعكس الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في أفريقيا، والمساهمة الفاعلة في صون السلم والأمن الدوليين».

هذا التأكيد المصري يأتي قبل نحو شهر من المشاركة المصرية في قوات حفظ السلام الأفريقية، بالصومال، حيث أكد سفير مقديشو لدى مصر، علي عبدي أواري، في إفادة، أغسطس الماضي، أن «القاهرة في إطار اتفاقية الدفاع المشترك مع الصومال ستكون أولى الدول التي تنشر قوات لدعم الجيش الصومالي من يناير 2025 وتستمر حتى عام 2029. بعد انسحاب قوات الاتحاد الأفريقي الحالية»، قبل أن تعلن مقديشو، أخيراً «استبعاد القوات الإثيوبية رسمياً من المشاركة في عمليات البعثة الجديدة؛ بسبب انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الرئيس الصومالي خلال توقيعه قانوناً في يناير الماضي يُبطل مذكرة تفاهم «أرض الصومال» وإثيوبيا (حساب الرئيس الصومالي على «إكس»)

ولم تعلق أديس أبابا رسمياً على هذا الاستبعاد، لكن تحدّث وزير الخارجية الإثيوبي السابق، تاي أصقي سيلاسي، في أغسطس الماضي، عن الموقف الإثيوبي بشأن البعثة الجديدة لقوات حفظ السلام في الصومال، حيث طالب بـ«ألا تشكّل تهديداً لأمننا القومي، هذا ليس خوفاً، لكنه تجنّب لإشعال صراعات أخرى بالمنطقة»، مؤكداً أن بلاده «أصبحت قوة كبرى قادرة على حماية مصالحها».

وعدَّ الخبير الاستراتيجي المصري أن استمرار الوجود المصري في قوات حفظ السلام على مدار السنوات الماضية والمقبلة، لاسيما بالصومال له دلالة على قوة مصر وقدرتها على الدعم الأمني والعسكري وتقديم كل الإمكانات، لاسيما التدريب وتحقيق الاستقرار، مستبعداً حدوث أي تحرك إثيوبي ضد الوجود المصري في الصومال العام المقبل.

فيما يرى الخبير في الشؤون الأفريقية أن الاستعداد القوي الذي أظهرته مصر للمشاركة ضمن بعثة حفظ السلام في الصومال، يأتي من واقع الحرص المصري على استتباب الأمن في هذه البقعة الاستراتيجية في القرن الأفريقي؛ لأن استتباب الأمن في الصومال يعني تلقائياً تأمين حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر، ومن ثم ضمان انسياب الحركة التجارية الدولية عبر قناة السويس. فضلاً عن أن مصر لن تنزوي بعيداً وتترك الصومال ملعباً مميزاً للقوات الإثيوبية، خصوصاً بعدما أبرمت إثيوبيا اتفاقاً مطلع العام مع إقليم «أرض الصومال» لاستغلال منفذ «بربرة» البحري المطل على ساحل البحر الأحمر.

وفي تقدير عبد الناصر الحاج فإن نجاح مصر في أي مشاركة فاعلة ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا، يتوقف في المقام الأول، على مدى قدرة مصر في انتزاع تفويضات واسعة من مجلس السلم والأمن الأفريقي لطبيعة عمل هذه البعثات، بحسبان أن إحدى المشكلات التي ظلت تسهم في إعاقة عمل بعثات حفظ السلام، هي نوعية التفويض الممنوح لها؛ وهو الذي ما يكون دائماً تفويضاً محدوداً وقاصراً يضع هذه البعثات وكأنها مُقيدة بـ«سلاسل».

وأوضح أنه ينبغي على مصر الاجتهاد في تقديم نماذج استثنائية في أساليب عمل قواتها ضمن بعثات حفظ السلام، بحيث يصبح الرهان على مشاركة القوات المصرية، هو خط الدفاع الأول لمدى جدواها في تحقيق غاية حفظ السلام.