سجون لبنان «قنابل موقوتة»: متى تنفجر؟

سجناء في سجن رومية قرب بيروت (أ.ف.ب/غيتي)
سجناء في سجن رومية قرب بيروت (أ.ف.ب/غيتي)
TT

سجون لبنان «قنابل موقوتة»: متى تنفجر؟

سجناء في سجن رومية قرب بيروت (أ.ف.ب/غيتي)
سجناء في سجن رومية قرب بيروت (أ.ف.ب/غيتي)

«نحن أموات لكننا نتحرّك بين جدران أربعة»... بهذه العبارة لخّص أحد السجناء حالته مع آلافٍ من زملائه الموزّعين على السجون اللبنانية، حيث لا قيمة للإنسان بداخلها، تماماً كما هو حال المواطن خارجها؛ كونه يعيش في وطنٍ بات أشبه بالسجن الكبير.
لم يعد همّ نزلاء السجون العودة إلى الحريّة، ولا العيش مع أبنائهم وعائلاتهم تحت سقف واحد، لقد أصبحوا في صراع البقاء على قيد الحياة، وتجنّب الموت في الزنازين نتيجة الأوبئة والأمراض وحتى بالجوع، كما يروي السجين يوسف عبد الكريم لـ«الشرق الأوسط» معاناته مع كثيرين مثله من نزلاء السجون اللبنانية. يسأل عبد الكريم «هل يعقل أن يقبع 18 سجيناً في غرفة واحدة (زنزانة) لا تتسع لأكثر من خمسة أشخاص نتقاسم فيها ساعات النوم رأساً على عقب؟». ويضيف «المشكلة ليست بضيق الغرفة وعدم القدرة على النوم فقط، بل بـ(القرف) المجبرين على تقبّله والتأقلم معه، من غياب النظافة، وانبعاث الروائح الكريهة من الحمامات (دورات المياه) المفتوحة على الزنزانات، وحرماننا من الاستحمام لفقدان المياه لأوقات طويلة، والتقنين في وجبات الطعام وغيرها من المشاكل».
ويقول يوسف عبد الكريم، وهو اسم مستعار لأحد السجناء ألقابعين في سجن طرابلس، ويحاكم بمحاولة قتل، إن «ما يزيد الطين بلّة هو تراجع زيارات الأهل لأبنائهم، بسبب إضراب القضاة وامتناع النيابات العامة عن إعطاء التصاريح لهذه الزيارات، عدا عن تكاليف انتقال أهلنا من مكان إقامتهم إلى السجن... ولا أحد يُظهر أي رحمة». واعتبر أن ذلك «حرمنا من الطعام المنزلي الذي اعتدنا عليه وكذلك من الأدوية التي تصلنا دورياً». ويخلص إلى القول «أغلب السجناء، ما عدا (المدعومين)، بات محكوماً عليهم بالإعدام ليس نتيجة أحكام قضائية، بل بسبب الأوبئة وفقدان الأدوية والطعام»، مشيراً في المقابل إلى أن «هناك موقوفين أو محكومين ينزلون في سجون 5 نجوم لأنهم محسوبون على أحزاب وسياسيين».
شهادة هذا الشخص، تمثّل عيّنة صغيرة عن أزمة السجون التي عادت لتتصدّر الأزمات التي يغرق فيها البلد، خصوصاً مع ازدياد عدد الوفيات بداخلها نتيجة تفشّي الأوبئة والفيروسات، وتراجع الخدمات الطبية إلى الحدود الدنيا، ولامبالاة المنظمات الدولية وهيئات المجتمع المدني. ويُنذر هذا الوضع بحصول تحرّك داخل السجون، وربما خارجها، بما يجعلها «قنابل موقوتة جاهزة للانفجار»، على حدّ تعبير رئيس لجنة حقوق الإنسان النائب ميشال موسى. وتمثّلت الإشارة الأبرز إلى هذا الخطر باعتداء عدد من السجناء على عناصر قوى الأمن في سجن رومية؛ ما أدى إلى إصابة عنصرين.
ورغم استشعار الدولة بصعوبة الوضع، فهي تظهر عجزها عن إيجاد الحلول حتى المؤقتة. وأكد عضو لجنة الإدارة والعدل النيابية النائب عماد الحوت، أن ملفّ السجون «شائك ومعقّد ويتطلّب تحرّكاً عاجلاً للحدّ من خطورته وتداعياته». وأكد لـ«الشرق الأوسط»، أن البرلمان «يدرس اقتراح قانون يلحظ تخفيض السنة السجنيّة لمرّة واحدة، ما يتيح إطلاق عدد كبير من السجناء، في ظلّ الشلل الذي يضرب عمل القضاء وغياب الرعاية الصحية». وتحدث الحوت عن اقتراح قانون جديد للعفو العام «ينصف من يجب إنصافه». وقال «بدأنا عملاً جدياً لتسريع وتيرة قانون العفو يختصر الطريق لإقراره، لا أن يغرق في اللجان النيابية مرّة جديدة».
ويقرّ المهتمون بملّف السجون بأن «مطالب السجون باتت أكبر من القدرة على تحقيقها، وتكاد الأمور تخرج عن السيطرة». ورأى مصدر أمني بارز، أن «معضلة السجون قديمة، لكنّ مع تفاقهما أضحت أشبه بالمأساة نتيجة الانهيار الكبير الذي يعانيه البلد». وأكد المصدر الأمني لـ«الشرق الأوسط»، أن «اختناق السجون بآلاف المحكومين والموقوفين يزيد من الأعباء وهذا الاختناق يترافق مع غياب الصيانة للمباني السجون والزنازين، واهتراء مجاري الصرف الصحي ودورات المياه وغياب التهوئة والتكييف نتيجة انقطاع التيار الكهربائي».
وفي حين تتوزّع السجون الرسمية على مختلف الأراضي اللبنانية، يجمعها همّ واحد يتمثّل بالاكتظاظ الذي يفوق قدرتها على الاستيعاب، وتعذّر إجراء المحاكمات في مواعيدها. وكشف المصدر الأمني، عن أن «سجون لبنان الرسمية يبلغ عددها 25 سجناً تضمّ نحو 8000 نزيل، وأكبرها سجن روميه المركزي الذي يضمّ 3700 محكوم وموقوف، في حين أن قدرته الاستيعابية لا تتعدى الـ1500 سجين». وأشار إلى أن «عدد المحكوم عليهم الذين يقضون عقوباتهم في كلّ السجون يتراوح بين 13 و15 في المائة، والنسبة المتبقية (نحو 85 في المائة) هي لموقوفين لم تستكمل محاكمتهم». وقال «المؤسف أن تراكم الأزمات ناتج من أمور عدّة، أهمها توقّف المحاكمات والتحقيقات التي بدأت مع انتشار وباء كورونا، واستكملت بإضراب القضاة المفتوح، وتأجيل المحاكمات لأوقات طويلة لعدم توفّر آليات لقوى الأمن الداخلي لنقل الموقوفين من السجون إلى المحاكم ودوائر التحقيق». وتحدّث عن معضلة أخرى «تتمثّل بتوقّف عمل (لجنة تخفيض العقوبات) منذ أكثر من ثمانية أشهر، وهذه اللجنة يرأسها قاضٍ وتضمّ ضابطاً في الأمن الداخلي وطبيباً نفسياً ومعالجاً اجتماعياً، وهي تخفّض عقوبات من أمضى أكثر من نصف العقوبة المحكوم بها إذا كان السجين صاحب سلوك حسن». وعزا السبب إلى أن «وزارة العدل لم تعيّن طبيباً نفسياً ولا معالجاً اجتماعياً، وتبيّن أن الأطباء والمعالجين الاجتماعيين يرفضون تعيينهم في مثل هذه اللجنة لتدنّي بدلهم المادي نتيجة انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية». وعبّر المصدر الأمني عن أسفه «لغياب التقديمات التي كانت تؤمّنها بعض المنظمات الدولية؛ لأن مساعداتها تحوّلت إلى أوكرانيا غداة اندلاع الحرب الروسية على هذا البلد».
وجدد رئيس اللجنة النيابية لحقوق الإنسان النائب ميشال موسى تحذيره من تفاقم أزمة السجون، وقال في تصريح له «على مدى سنوات طويلة حذرنا من واقع السجون كقنبلة جاهزة للانفجار، لقد بلغ الاكتظاظ أوجه في السجون والنظارات دون حلول تخفف منه، والمحاكمات تسير ببطء كبير، حيث عدد المسجونين غير المحكومين إلى ازدياد، إضافة إلى استسهال التوقيف عند البعض، وهناك كلام عن التقصير في التقديمات المعيشية والطبية، وتهديد الملتزمين بوقف تزويد السجون بالمواد الغذائية»، محذراً من «تزايد عدد الوفيات نتيجة تقصير طبي أو مشاكل داخل السجن». وطالب موسى وزارة الداخلية وقوى الأمن الداخلي والحكومة بـ«الإسراع في إيجاد الحلول لهذه الأزمة المتفاقمة وإجراء تحقيق شفاف في حالات الوفاة ومعاقبة المقصرين، وتأمين ظروف معيشية وصحية أفضل لأناس ظلمتهم الحياة أو ظلموا أنفسهم».
من جهته، أعلن عضو كتلة «اللقاء الديمقراطي» النائب هادي أبو الحسن في تغريدة له عبر «توتير»، أن «واقع السجون لم يعد يُحتمل، وما يعانيه السجناء على كل المستويات وآخرها الأوبئة مقلق جداً». ودعا أبو الحسن كل المعنيين إلى «مؤازرة وزير الداخلية خصوصاً لجهة استقطاب المساعدات من المنظمات الدولية ولإعادة طرح قانون العفو العام»، معتبراً أن «الإنسانية تبقى فوق كل الاعتبارات السياسية».

وزير الداخلية للسجناء: طولوا بالكم
> تعهد وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال بسّام المولوي بـ«السعي لإيجاد حلول واضحة» لأزمة السجون. وقال في كلمة ألقاها في عيد الأمن العام، إن قضية السجون «لها شقّان، الأول يتعلق بالإمكانية الضعيفة، والشق الآخر والأهم هو اكتظاظ السجون وبالتالي عدم الانضباط». وتوجه إلى السجناء بالقول «طولوا بالكم».
وتحدث وزير الداخلية عن الانتقادات لجهاز الأمن العام، قائلاً «لن نقبل بالتعدي على الأمن العام؛ لأنها مؤسسة وطنية، تمتلك تاريخاً عريقاً في الدولة، وهدفها الحفاظ على المؤسسات وبناء الدولة».

وزارات تتنازع الصلاحية على سجون «مهترئة»
> وُضعت كلّ الدراسات التي أعدتها الدولة اللبنانية لتطوير السجون في أدراج النسيان، وحتى الاعتمادات التي رصدتها منظمات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي لإنشاء ثلاثة سجون جديدة وحديثة لم تأخذ طريقها للتنفيذ بسبب البيروقراطية المعتمدة في لبنان، والخلافات المزمنة والمستحكمة على إدارة السجون «المهترئة» بين وزارتَي الداخلية والعدل، والتي يدفع ثمنها السجناء وذووهم.
وأشار الباحث في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين إلى أن السجون الرسمية «تنتشر في كلّ المحافظات ومراكز الأقضية، ويبلغ عددها 25 سجناً، ما عدا النظارات ومراكز التوقيف المؤقت». وأوضح لـ«الشرق الأوسط»، أن «أحدث السجون هو سجن روميه، الذي أنشئ قبل ما يقارب ستين عاماً، وبني على أساس قدرة استيعابية لا تتعدّى الـ1500 سجين في حين يحوي الآن على أكثر من 3500».
وأفاد شمس الدين، بأن «أبرز السجون وأكبرها تسلسلاً: سجون روميه المركزي، بعبدا، الريحانية، جبيل وبيت الدين (جبل لبنان)، طرابلس، حلبا، البترون وأميون (شمال لبنان)، صيدا، جزّين، مرجعيون، بنت جبيل والنبطية (جنوب لبنان)، زحلة، بعلبك وراشيا (البقاع)». وهناك سجن للنساء في ثكنة بربر الخازن في بيروت وسجن بعبد للنساء في جبل لبنان. وتحدث المصدر الأمني عن استحداث سجن جديد في منطقة ضهر الباشق القريبة من رومية، مخصص للفتيات القاصرات.
وفي الواقع، لا يتوقّف رقم السجناء والموقوفين عند حدود الـ8000 سجين الذين تحدث عنهم المصدر الأمني، بل يبدو أن الرقم أعلى من ذلك بكثير؛ إذ قال الباحث محمد شمس الدين؛ إن «نظارات قصور العدل، والنظارات التابعة لمخافر وفصائل قوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والشرطة العسكرية، تحوي مئات الموقوفين احتياطياً بقرارات تتخذها النيابات العامة بانتظار استكمال التحقيقات الأولية». ولفت إلى أن «التوقيفات في النظارات والمخافر مؤقتة، وهي خاضعة للزيادة والانخفاض بين يوم وآخر».


مقالات ذات صلة

رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

المشرق العربي رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

تُوفّي الموسيقار اللبناني إيلي شويري، عن 84 عاماً، الأربعاء، بعد تعرُّضه لأزمة صحية، نُقل على أثرها إلى المستشفى، حيث فارق الحياة. وأكدت ابنته كارول، لـ«الشرق الأوسط»، أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قبل أن تعلم به العائلة، وأنها كانت معه لحظة فارق الحياة.

المشرق العربي القضاء اللبناني يطرد «قاضية العهد»

القضاء اللبناني يطرد «قاضية العهد»

وجّه المجلس التأديبي للقضاة في لبنان ضربة قوية للمدعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون، عبر القرار الذي أصدره وقضى بطردها من القضاء، بناء على «مخالفات ارتكبتها في إطار ممارستها لمهمتها القضائية والتمرّد على قرارات رؤسائها والمرجعيات القضائية، وعدم الامتثال للتنبيهات التي وجّهت إليها». القرار التأديبي صدر بإجماع أعضاء المجلس الذي يرأسه رئيس محكمة التمييز الجزائية القاضي جمال الحجار، وجاء نتيجة جلسات محاكمة خضعت إليها القاضية عون، بناء على توصية صدرت عن التفتيش القضائي، واستناداً إلى دعاوى قدمها متضررون من إجراءات اتخذتها بمعرض تحقيقها في ملفات عالقة أمامها، ومخالفتها لتعليمات صادرة عن مرجع

يوسف دياب (بيروت)
المشرق العربي جعجع: فرص انتخاب فرنجية للرئاسة باتت معدومة

جعجع: فرص انتخاب فرنجية للرئاسة باتت معدومة

رأى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع أن فرص انتخاب مرشح قوى 8 آذار، رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، «باتت معدومة»، مشيراً إلى أن الرهان على الوقت «لن ينفع، وسيفاقم الأزمة ويؤخر الإصلاح». ويأتي موقف جعجع في ظل فراغ رئاسي يمتد منذ 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث فشل البرلمان بانتخاب رئيس، وحالت الخلافات السياسية دون الاتفاق على شخصية واحدة يتم تأمين النصاب القانوني في مجلس النواب لانتخابها، أي بحضور 86 نائباً في دورة الانتخاب الثانية، في حال فشل ثلثا أعضاء المجلس (86 نائباً من أصل 128) في انتخابه بالدورة الأولى. وتدعم قوى 8 آذار، وصول فرنجية إلى الرئاسة، فيما تعارض القوى المسيحية الأكثر

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي بخاري يواصل جولته على المسؤولين: الاستحقاق الرئاسي شأن داخلي لبناني

بخاري يواصل جولته على المسؤولين: الاستحقاق الرئاسي شأن داخلي لبناني

جدد سفير المملكة العربية السعودية لدى لبنان، وليد بخاري، تأكيد موقف المملكة من الاستحقاق الرئاسي اللبناني بوصفه «شأناً سياسياً داخلياً لبنانياً»، حسبما أعلن المتحدث باسم البطريركية المارونية في لبنان بعد لقاء بخاري بالبطريرك الماروني بشارة الراعي، بدأ فيه السفير السعودي اليوم الثاني من جولته على قيادات دينية وسياسية لبنانية. وفي حين غادر السفير بخاري بكركي من دون الإدلاء بأي تصريح، أكد المسؤول الإعلامي في الصرح البطريركي وليد غياض، أن بخاري نقل إلى الراعي تحيات المملكة وأثنى على دوره، مثمناً المبادرات التي قام ويقوم بها في موضوع الاستحقاق الرئاسي في سبيل التوصل إلى توافق ويضع حداً للفراغ الرئا

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي شيا تتحرك لتفادي الفراغ في حاكمية مصرف لبنان

شيا تتحرك لتفادي الفراغ في حاكمية مصرف لبنان

تأتي جولة سفيرة الولايات المتحدة الأميركية لدى لبنان دوروثي شيا على المرجعيات الروحية والسياسية اللبنانية في سياق سؤالها عن الخطوات المطلوبة لتفادي الشغور في حاكمية مصرف لبنان بانتهاء ولاية رياض سلامة في مطلع يوليو (تموز) المقبل في حال تعذّر على المجلس النيابي انتخاب رئيس للجمهورية قبل هذا التاريخ. وعلمت «الشرق الأوسط» من مصادر نيابية ووزارية أن تحرك السفيرة الأميركية، وإن كان يبقى تحت سقف حث النواب على انتخاب رئيس للجمهورية لما للشغور الرئاسي من ارتدادات سلبية تدفع باتجاه تدحرج لبنان من سيئ إلى أسوأ، فإن الوجه الآخر لتحركها يكمن في استباق تمدد هذا الشغور نحو حاكمية مصرف لبنان في حال استحال عل

محمد شقير (بيروت)

تركيا: لا مكان لـ«الوحدات الكردية» في سوريا الجديدة

حديث جانبي بين وزيري الخارجية التركي هاكان فيدان والأميركي أنتوني بلينكن خلال مؤتمر وزراء خارجية دول مجموعة الاتصال العربية حول سوريا في العاصمة الأردنية عمان السبت (رويترز)
حديث جانبي بين وزيري الخارجية التركي هاكان فيدان والأميركي أنتوني بلينكن خلال مؤتمر وزراء خارجية دول مجموعة الاتصال العربية حول سوريا في العاصمة الأردنية عمان السبت (رويترز)
TT

تركيا: لا مكان لـ«الوحدات الكردية» في سوريا الجديدة

حديث جانبي بين وزيري الخارجية التركي هاكان فيدان والأميركي أنتوني بلينكن خلال مؤتمر وزراء خارجية دول مجموعة الاتصال العربية حول سوريا في العاصمة الأردنية عمان السبت (رويترز)
حديث جانبي بين وزيري الخارجية التركي هاكان فيدان والأميركي أنتوني بلينكن خلال مؤتمر وزراء خارجية دول مجموعة الاتصال العربية حول سوريا في العاصمة الأردنية عمان السبت (رويترز)

أكدت تركيا أن «وحدات حماية الشعب الكردية» التي تعد أكبر مكونات «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، لن يكون لها مكان في سوريا في ظل إدارتها الجديدة.

وتحولت التطورات الأخيرة في البلد الجار إلى محور سجال بين الرئيس رجب طيب إردوغان والمعارضة التركية.

وبدا أن هناك تركيزاً من تركيا على إنهاء وجود «الوحدات الكردية» ليس فقط في المناطق القريبة من حدودها، وإنما في جميع الأراضي التي تسيطر عليها في شمال شرقي سوريا عبر الاستمرار في عمليات «الجيش الوطني السوري» الموالي لها، والاتفاق مع الإدارة السورية الجديدة.

القضاء على «الوحدات الكردية»

وأكد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، أن بلاده «تريد سوريا خالية من الإرهاب»، وأن هدفها الاستراتيجي هو إنهاء «وحدات حماية الشعب» التي وضع أمامها خيارين: إما أن تحل نفسها أو أن يتم القضاء عليها.

وقال فيدان في مقابلة تلفزيونية ليل الجمعة - السبت بعد ساعات قليلة من مباحثاته في أنقرة مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن حول سوريا، إن «تركيا وأميركا كانتا في موقفين متعارضين تماماً بخصوص التنظيم (الوحدات الكردية). هذه قضية وجودية تتعلق بأمننا القومي؛ لذلك نحن دولة أخذت هذه القضية بأعلى قدر ممكن من الجدية».

فيدان خلال مقابلة تلفزيونية ليل الجمعة (الخارجية التركية)

ولفت فيدان إلى أن تركيا استخدمت العمليات في الميدان والأدوات الدبلوماسية على الطاولة بكل جدية، وأن موقفها لا يزال كما هو دون أي تغيير، مضيفاً: «المعارضة السورية كانت تقاتل نظام بشار الأسد منذ سنوات طويلة، وتعرضت لظلم وخسائر لا تصدق، إلا أنها استعادت سوريا الآن. وبطبيعة الحال، سوف يتخذون الخطوات اللازمة لضمان سلامة البلاد».

وتابع: «نعتقد أن (تنظيم الوحدات الكردية) لن يكون قادراً بعد الآن على إيجاد أرضية كبيرة في سوريا نتيجة للخطوات التي ستتخذها الإدارة في دمشق لضمان سلامتها الوطنية والإقليمية».

وقال فيدان: «القضاء على التنظيم الإرهابي هو هدف استراتيجي بالنسبة لتركيا. وبعبارة أخرى: إما أن يحل نفسه أو يتم القضاء عليه. بالطبع، هناك محددات معينة، وأعتقد أنه سيكون من المفيد التعبير عنها؛ أولاً: رغم أن وسائلنا وإمكاناتنا قادرة على القضاء على التنظيم، فإننا سننتظر أولاً الخطوات التي سيتخذها الأشقاء في سوريا للقضاء على هذا التهديد، من خلال اتخاذ خطوات تضمن سلامة أراضيهم ووحدتهم الوطنية».

عناصر من «وحدات حماية الشعب الكردية» في شمال سوريا (إعلام تركي)

وأضاف: «في المرحلة الأولى يجب أن يغادر مسلحو التنظيم الإرهابي (الوحدات الكردية) غير السوريين، سواء من قدموا من العراق أو إيران أو تركيا أو أوروبا؛ أن يغادروا سوريا. وفي المرحلة الثانية يجب على مستوى قيادة التنظيم بأكمله، بمن في ذلك السوريون، مغادرة البلاد».

الغرب و«داعش»

وتابع: «يجب أن تقوم العناصر ممن لا تنتمي لتنظيم (حزب العمال الكردستاني - الوحدات الكردية) الإرهابي بإلقاء السلاح والعودة إلى حياتهم الطبيعية في سوريا بالاتفاق مع الإدارة الجديدة».

ولفت فيدان إلى أن أميركا والأوروبيين يقولون إن «الوحدات الكردية» تكافح «داعش»، لكن «الحقيقة أنهم جعلوا منها حارساً على تنظيم (داعش) الإرهابي»، لافتاً إلى ضرورة أن تتسلم الدول الغربية مواطنيها المنخرطين في «داعش».

وقال إن سوريا باتت «لاعباً دولياً مستقلاً»، ولن تعترف بتنظيم «الوحدات الكردية» الإرهابي، مشيراً في الوقت ذاته إلى أنه بينما يتم القضاء على «الوحدات الكردية»، ينبغي ألا يتعرض الأكراد الذين يعيشون في المدن العريقة في المنطقة منذ قرون طويلة للأذى؛ لأن القمع الذي مارسه التنظيم ضد العرب والأكراد واضح دائماً؛ إذ يفرض سيطرته عليهم بإبقائهم تحت الضغط.

فيدان وبلينكن يتحدثان للصحافيين عقب انتهاء مباحثاتهما في أنقرة الجمعة (الخارجية التركية)

وأضاف فيدان أن هدفهم في المرحلة الجديدة في سوريا هو «إقناع المجتمع الدولي والجهات الإقليمية الفاعلة بحماية الشعب السوري، ودعم الإدارة الجديدة في دمشق، والتعاون من أجل إعادة الاستقرار إلى سوريا مجدداً».

«الجيش الوطني» و«تحرير الشام»

ونوّه فيدان بدور «الجيش الوطني السوري»، قائلاً إنه «لو لم يتم دعم (الجيش الوطني السوري)؛ لما تم تدمير المعارضة السورية فحسب، بل لكان ملايين اللاجئين قد أتوا إلى تركيا».

وعن بعض المخاوف المتعلقة بـ«هيئة تحرير الشام»، قال فيدان إن «هذا أمر طبيعي للغاية»، مشدداً على ضرورة إزالة هذه المخاوف، وأنه تواصل مع وزراء خارجية دول عربية في هذا الشأن، وأن «العالم بات متقبلاً للمعايير والمحددات التي وضعتها تركيا».

أحد مقاتلي «تحرير الشام» أمام مقر السفارة التركية في دمشق قبل وقت قليل من افتتاحها السبت (أ.ف.ب)

وأضاف أن هناك رغبة في رؤية سوريا لا يوجد فيها إرهاب، ولا تحظى فيها التنظيمات الإرهابية مثل «حزب العمال الكردستاني» و«وحدات حماية الشعب الكردية» و«داعش» بالدعم، وتابع: «ولا تتعرض الأقليات لسوء المعاملة، بل يتم تلبية متطلباتهم الأساسية. و(تكون) سوريا لا يشعر أحد فيها بالحاجة للتعامل مع أسلحة الدمار الشامل، والبلد الذي لا يشكل أي خطر وتهديد للمنطقة، وفي الوقت نفسه يتم ضمان وحدة البلاد وسلامة أراضيها».

وتابع أنهم أبلغوا الإدارة الجديدة في دمشق بهذه «المخاوف»، وأنهم ينتظرون منها اتخاذ المواقف والخطوات اللازمة لإزالتها، و«سنتابع كيف سيتطور الأمر لاحقاً، وسنناقش ذلك على المدى القريب والمتوسط، وسنتابعه عن كثب».

المرحلة الانتقالية

بدوره، أكد وزير الدفاع التركي، يشار غولر، أن تركيا لم ولن تسمح بالأمر الواقع الجديد الذي يحاول تنظيم «حزب العمال الكردستاني - وحدات حماية الشعب الكردية» الإرهابي تطويره عقب الأحداث الأخيرة، وبخاصة في محيط مناطق العمليات التركية في سوريا.

وزير الدفاع التركي يشار غولر متحدثاً في البرلمان (وزارة الدفاع التركية)

وقال غولر في كلمة أمام البرلمان خلال مناقشة ميزانية وزارته لعام 2025 ليل الجمعة - السبت، إن «الوحدات الكردية» اضطرت إلى الانسحاب من مناطق تل رفعت وجنوب الباب وخط منبج نتيجة للعمليات الناجحة التي نفذها «الجيش الوطني السوري»، و«لن نسمح أبداً باستغلال حالة عدم الاستقرار في الميدان».

وشدد غولر على أن تركيا ستواصل جهودها ومبادراتها النشطة لضمان أن تكون عملية الانتقال السياسي في سوريا آمنة وسلسة وتحل المشاكل القائمة، معرباً عن اعتقاده بأنه سيتم إرساء الأمن والاستقرار الكاملين في سوريا، من خلال حل سياسي شامل في الفترة المقبلة بعد سقوط الأسد.

سجال سياسي

في الوقت ذاته، تحولت التطورات الأخيرة في سوريا والموقف التركي من «وحدات حماية الشعب الكردية» إلى محور سجال بين الرئيس رجب طيب إردوغان، وزعيم المعارضة رئيس حزب «الشعب الجمهوري» أوزغور أوزال، وقال إردوغان: «لقد خرج السيد أوزال محاولاً الضغط علينا من خلال حزب (الاتحاد الديمقراطي) الذي تشكل (الوحدات الكردية) ذراعه المسلحة».

إردوغان متحدثاً في مؤتمر لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم (الرئاسة التركية)

وكان أوزال وجّه خلال مقابلة تلفزيونية، الخميس، سؤالاً إلى إردوغان بشأن قرار حزب «الاتحاد الديمقراطي» الكردي استخدام العلَم السوري، وهل لا يزال يصرّ على أنه تنظيم إرهابي.

ورد إردوغان في كلمة خلال مؤتمر لحزب «العدالة والتنمية» في أرضروم (شمال شرقي تركيا)، السبت، قائلاً: «موقفنا بشأن الامتدادات السورية للمنظمة الإرهابية الانفصالية (حزب العمال الكردستاني) واضح يا سيد أوزال»، مضيفاً: «تعالَ واشرح، هل تعتنق رأي زعيمك السابق (كمال كليتشدار أوغلو) بشأن حزب (الاتحاد الديمقراطي) و(وحدات حماية الشعب الكردية) حينما قال إن (الوحدات الكردية) لن تهاجمنا؟».

وتساءل إردوغان: «متى أصبح تغيير العلَم كافياً لتبرير امتدادات حزب (العمال الكردستاني)؟ أنت لا تعرف سوريا، ألا تعرف حتى المخططات التي كان حزب (العمال الكردستاني) يفعلها منذ 40 عاماً؟ ماذا يجب أن نقول؟! نسأل الله لهم البصيرة».

وقال الرئيس التركي إن الأزمة السورية كانت بمثابة اختبار حقيقي لمعرفة أين يقف كل طرف في تركيا، وإن مجرد النظر إلى التطورات في سوريا خلال الأسبوعين الماضيين يكفي لفهم ما يعنيه حزب «العدالة والتنمية» و«تحالف الشعب» (العدالة والتنمية والحركة القومية والوحدة الكبرى) بالنسبة لتركيا.

زعيم المعارضة التركية رئيس حزب «الشعب الجمهوري» أوزغور أوزال (من حسابه في «إكس»)

وعدّ إردوغان أن أكبر فرصة لتركيا هي أن يكون حزب «العدالة والتنمية» في غرفة القيادة بتركيا في جميع الأزمات.

استطلاع رأي

في السياق، أظهرت نتائج أول استطلاع للرأي أُجري في تركيا بعد التطورات في سوريا، ارتفاع أصوات حزب «العدالة والتنمية»، وفقد حزب «الشعب الجمهوري» تفوقه الذي حققه منذ الانتخابات المحلية في 31 مارس (آذار) الماضي.

وبحسب نتائج الاستطلاع الذي أجرته شركة «آسال» في 26 ولاية تركية في الفترة من 9 إلى 12 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، جاء حزب «العدالة والتنمية» في المرتبة الأولى بنسبة 32.5 في المائة، وحزب «الشعب الجمهوري» في المرتبة الثانية بنسبة 30.7 في المائة، وحزب «الحركة القومية» في المرتبة الثالثة بنسبة 9.6 في المائة، وذلك بعد توزيع أصوات المترددين التي بلغت 30 في المائة.

إردوغان ملوّحاً لأعضاء حزبه خلال مؤتمر في كوجا إيلي غرب تركيا مساء الجمعة (الرئاسة التركية)

وكان حزب «الشعب الجمهوري» حصل على المرتبة الأولى في الانتخابات المحلية التي أُجريت في 31 مارس الماضي، للمرة الأولى من 47 عاماً، بنسبة 37.8 في المائة من الأصوات في جميع أنحاء تركيا، وحصل حزب «العدالة والتنمية» على 35.5 في المائة ليأتي في المرتبة الثانية للمرة الأولى خلال فترة بقائه في الحكم التي استمرت 22 عاماً.