الدبلوماسية الفرنسية تتحرك مع ماكرون لمواجهة التحديات

ماكرون خلال احتفال بالذكرى الـ 78 لإنزال قوات الحلفاء في جنوب فرنسا في الحرب العالمية الثانية (أ.ب)
ماكرون خلال احتفال بالذكرى الـ 78 لإنزال قوات الحلفاء في جنوب فرنسا في الحرب العالمية الثانية (أ.ب)
TT

الدبلوماسية الفرنسية تتحرك مع ماكرون لمواجهة التحديات

ماكرون خلال احتفال بالذكرى الـ 78 لإنزال قوات الحلفاء في جنوب فرنسا في الحرب العالمية الثانية (أ.ب)
ماكرون خلال احتفال بالذكرى الـ 78 لإنزال قوات الحلفاء في جنوب فرنسا في الحرب العالمية الثانية (أ.ب)

عادت الحياة تدب في شرايين الدبلوماسية الفرنسية بعد غياب «قسري» سببه العطلة الصيفية. ورغم أن الرئيس إيمانويل ماكرون لم يوقف اتصالاته بعدد من قادة العالم من منتجعه الصيفي في حصن بريغونسون المطل على مياه المتوسط، ومنهم الرئيس الروسي ونظيره الأوكراني ورئيس وزراء الهند والرئيس الجزائري وغيرهم، فإنه هذا العام امتنع عن دعوة شخصية عالمية، كما فعل في السنوات الماضية مع فلاديمير بوتين في أغسطس (آب) عام 2019 أو مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركيل في التوقيت نفسه من العام اللاحق.
من هنا، فإن الزيارة التي سيقوم بها ماكرون إلى الجزائر ما بين 25 و27 الجاري تعد نقطة الانطلاق لإعادة تفعيل الدبلوماسية الفرنسية ولمواجهة التحديات الكثيرة التي تنتظرها للأشهر المقبلة.
ولا شك أن الاجتماع التقليدي لسفراء فرنسا في العالم سيوفر الفرصة، في حال انعقاده، لمراجعة سياسة فرنسا الخارجية وما كان لها من نجاحات وإخفاقات وللتخطيط للقادم من الأيام خصوصاً أن ماكرون سيباشر فعلياً عهده الثاني من خمس سنوات بعد نجاحه في انتخابات أبريل (نيسان) الماضي.
بيد أن تناول تحديات فرنسا الخارجية لا يمكن أن يقرأ إلا على ضوء المتغيرات التي فرضت نفسها على أوروبا والعالم وانعكاساتها على الأداء الفرنسي ولكن أيضاً الأوروبي، باعتبار أن باريس جزء لا يتجزأ من الاتحاد الأوروبي والأكثر حماسة لمزيد من الانخراط، بما في ذلك للاستقلالية الاستراتيجية لا بل لتشكيل قوة عسكرية تكون قادرة، في نطاق جغرافي معين، الدفاع عن المصالح الأوروبية بحيث لا تعود أوروبا رهينة القرارين الأميركي والأطلسي. من هنا، فإن الحرب التي أطلقها الرئيس الروسي في 24 فبراير (شباط) الماضي ضد أوكرانيا تشكل التحدي الأكبر وتدفع باريس، ومعها العواصم الأوروبية الأخرى، إلى طرح السؤال «الوجودي» الذي يتناول أمنها الجماعي. الحرب تدور منذ ستة أشهر على التراب الأوروبي. ورغم أن روسيا سبق لها أن اقتطعت جزءاً من أوكرانيا (شبه جزيرة القرم) وضمتها إلى أراضيها عام 2014، وأن انفصاليي منطقة الدونباس أقاموا في الفترة عينها جمهوريتين لم تعترف بهما أي جهة خارجية باستثناء روسيا الشتاء الماضي، فإن ذلك لا يمكن مقارنته بما يحصل في أوكرانيا منذ 178 يوماً حيث الحرب شاملة ومتواصلة ولا شيء في الأفق يدل على احتمال توقفها أو التوصل إلى هدنة ما بسبب تمسك كل طرف بمطالبه وغياب الوساطات الجدية. وترى مصادر دبلوماسية رسمية في باريس أن موضوع الأمن الأوروبي والعلاقة مع الحلف الأطلسي من جهة ومع روسيا من جهة أخرى يشكلان الشغل الشاغل لفرنسا وللدول الأوروبية بشكل عام.
أول من أمس، عاد ماكرون إلى التواصل مع نظيره الروسي على خلفية المخاوف من كارثة نووية محتملة بسبب القصف المدفعي الذي استهدف منشآت تابعة لمحطة زابوريجيا النووية الأوكرانية التي احتلتها القوات الروسية منذ بدء الحرب على أوكرانيا. وكان آخر اتصال بين المسؤولين يعود لنهاية شهر مايو (أيار) الماضي. والحال أن التهديد النووي دفع ماكرون الذي سعى في الماضي لبناء علاقة خاصة مع بوتين ولم يفتأ يكرر أن روسيا تنتمي إلى أوروبا وأنه من الأفضل للأمن الأوروبي ربطها بالعربة الأوروبية على أن تقيم مع الصين تحالفاً يغير التوازنات الاستراتيجية، إلى التوجه مجدداً إلى سيد الكرملين. وهذه المرة، نجح ماكرون في انتزاع تنازل من بوتين فحواه قبول الأخير وصول بعثة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتقييم الموقف وإصدار توصيات لتجنب كارثة نووية أضعاف ما عرفته أوروبا والعالم لدى حادثة محطة تشرنوبيل، الواقعة في أوكرانيا في عام 1985. ولم يكتف ماكرون بذلك، بل طلب تحقيق هدنة في محيط المحطة وتوفير الضمانات الأمنية لمفتشي الوكالة. وسبق له أن دعا إلى انسحاب القوات الروسية من زابوريجيا. ولذا، فإن التحدي المباشر هو أن ينجح في حمل بوتين على تنفيذ وعده. والحال أنه أغدق كثيراً من الوعود في السابق ولكنها كانت زائفة وأبرزها أنه تعهد له بعودة القوات الروسية من بيلاروسيا ومن الحدود المشتركة مع أوكرانيا إلى قواعدها حال انتهاء المناورات التي كانت تجريها. والتتمة يعرفها الجميع.
- هشاشة البناء الأوروبي
يجمع المراقبون في العواصم الأوروبية على القول إن الحرب الدائرة في أوكرانيا بينت شيئاً رئيسياً وهو هشاشة البناء الأوروبي. فلا الأوروبيون نجحوا، من خلال الوساطة التي قام بها الرئيس ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز مع الرئيس الروسي لإثنائه عن القيام بمغامرته العسكرية في أوكرانيا ولا استطاعوا لاحقاً التسويق لهدنة تفضي إلى مفاوضات. ويعني ذلك أن قدرة التأثير الأوروبية، أقله في مجالهم الأوروبي الحيوي، ضعيفة إن لم تكن معدومة. والهشاشة الأخرى برزت من خلال تبعيتهم مختلفة الدرجات للغاز والنفط الروسيين، ومخاوفهم من العجز عن توفير الطاقة اللازمة. ورغم أن باريس أقل تبعية من غيرها من الدول الأوروبية، كألمانيا مثلاً، للغاز والنفط الروسيين بفضل اعتمادها على إنتاج الطاقة الكهربائية من محطاتها النووية، إلا أن الرئيس ماكرون سارع قبل يومين إلى تنبيه الفرنسيين من «الأيام العصيبة» التي تنتظرهم فيما خص الطاقة التي ارتفعت أسعارها (المشتقات النفطية، الغاز، الكهرباء) بنسب جنونية.
من هنا، سعى ماكرون لدى الإمارات العربية المتحدة والمملكة السعودية والجزائر والنرويج للتزود بما تحتاجه فرنسا تحسباً للشتاء القادم. وفي سياق التحديات الشاملة، لا بد من الإشارة إلى التحدي المناخي. وقد جاءت الحرائق التي التهبت في فرنسا نحو ستة ملايين متر مربع في الأسابيع الأخيرة وموجات القيظ المتلاحقة التي لم تعرفها البلاد منذ عقود والأعاصير، لتذكر السلطات الفرنسية بضرورة تنشيط «الدبلوماسية المناخية» حيث لباريس مسؤولية خاصة باعتبار أن اتفاقية المناخ الموقعة في العاصمة الفرنسية نهاية عام 2015 وضعت بشكل ما تحت رعايتها. وتعي السلطات الفرنسية أن الارتفاع المستمر لدرجات الحرارة ستظهر آثاره بالدرجة الأولى في البلدان الفقيرة، وفي أفريقيا على وجه الخصوص، ما من شأنه أن يفاقم أزمة الهجرات العشوائية التي تسعى أوروبا إلى حماية نفسها منها. وليست باريس في منأى عنها وعن تبعاتها على الصعيد الوطني الفرنسي لجهة تسببها بأزمات سياسية واجتماعية ولكونها رافعة لليمين المتطرف كما برز ذلك في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الفرنسية. ففي الأولى، تأهلت مارين لو بن، مرشحة اليمين المتطرف للجولة الرئاسية النهائية. وفي الثانية، حصل حزبها على 89 مقعداً في البرلمان وهو رقم لم يسبق له أن حققه في تاريخه.
- تحدي الساحل والإرهاب
يوم الاثنين الماضي، خرج آخر جندي فرنسي من مالي بعد حضور عسكري دام تسع سنوات. ولم يكن رحيل قوة «برخان» طوعياً بل إن تدهور العلاقات بين باريس، القوة المستعمرة السابقة، وباماكو هو السبب. علماً بأن «برخان» التي وصل عددها في عام 2020 إلى 5500 رجل، كانت مهمتها محاربة التنظيمات الإرهابية والجهادية في منطقة الساحل وخصوصاً في مالي. وتجدر الإشارة إلى أن «عملية سيرفال» في 2013 التي تحولت لاحقاً إلى «برخان» أُطلقت لمنع سقوط العاصمة باماكو بأيدي التنظيمات الجهادية والإرهابية، وأهمها اثنتان: «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» و«الدولة الإسلامية» في منطقة الصحراء. وسارعت باريس إلى التأكيد أنها «لن تنسحب» عسكرياً من منطقة الساحل التي تضم، إلى جانب مالي، موريتانيا والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.
وخلال الجولة التي قام بها نهاية يوليو (تموز) إلى بنين والكاميرون وغينيا بيساو، أكد ماكرون أن بلاده جاهزة لمساعدة بلدان خليج غينيا ودول غرب أفريقيا بشكل عام في مساعيها لمحاربة الإرهاب. وتنظر باريس إلى هذه المسألة على أنها تحدٍ استراتيجي يمس المصالح الأساسية لفرنسا في هذه المنطقة من العالم، حيث تعاني من منافسة متعددة الأشكال تأتي من الصين وتركيا وإسرائيل والولايات المتحدة، ولكن خصوصاً من روسيا ومن ذراعها الضاربة في أفريقيا أي ميليشيا «فاغنر» التي يعتبر الفرنسيون أنها على صلة بالكرملين.
- الشرق الأوسط
بيد أن ما سبق ليس سوى غيض من فيض التحديات التي تفرض نفسها على السياسة الخارجية الفرنسية. ففي الشرق الأوسط، تريد باريس أن يكون لها دور إن في الملف النووي الإيراني أو في توطيد مواقعها في بلدان الخليج العربية والعراق فضلاً عن لبنان الذي يعد بوابتها إلى المنطقة. وفيما خص لبنان، لم يوفر ماكرون أي جهود من أجل مساعدة هذا البلد للتغلب على أزماته المالية والاقتصادية والصحية والتربوية ولكن أيضاً السياسية. إلا أن نجاحاته كانت ضعيفة.
واليوم، ما تريده باريس تجنب الفراغ المؤسساتي في ظل وجود حكومة تصريف أعمال ورئيس مكلف لا يؤلف ورئيس جمهورية تنتهي ولايته بعد شهرين. ولا تريد باريس أن تعطي الانطباع بأنها تتدخل مباشرة في الشأن اللبناني. إلا أن مسؤوليها لا يخفون قلقهم من المرحلة المقبلة، ومما قد تحمله من مفاجآت غير سارة إذا بقيت الأمور سائرة على هذا المنوال.


مقالات ذات صلة

فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

شؤون إقليمية فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

ندّدت فرنسا باحتجاز البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني ناقلة النفط «نيوفي» التي ترفع عَلَم بنما، في مضيق هرمز الاستراتيجي، وذلك صبيحة الثالث من مايو (أيار)، وفق المعلومات التي أذاعها الأسطول الخامس، التابع لـ«البحرية» الأميركية، وأكدها الادعاء الإيراني. وأعربت آن كلير لوجندر، الناطقة باسم «الخارجية» الفرنسية، في مؤتمرها الصحافي، أمس، أن فرنسا «تعرب عن قلقها العميق لقيام إيران باحتجاز ناقلة نفطية» في مياه الخليج، داعية طهران إلى «الإفراج عن الناقلات المحتجَزة لديها في أسرع وقت».

ميشال أبونجم (باريس)
العالم باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

قالت وزارة الخارجية الفرنسية إنها تأمل في أن يُحدَّد موعد جديد لزيارة وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني بعدما ألغيت بسبب تصريحات لوزير الداخلية الفرنسي حول سياسية الهجرة الإيطالية اعتُبرت «غير مقبولة». وكان من المقرر أن يعقد تاياني اجتماعا مع وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا مساء اليوم الخميس. وكان وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان قد اعتبر أن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني «عاجزة عن حل مشاكل الهجرة» في بلادها. وكتب تاياني على «تويتر»: «لن أذهب إلى باريس للمشاركة في الاجتماع الذي كان مقررا مع الوزيرة كولونا»، مشيرا إلى أن «إهانات وزير الداخلية جيرالد دارمانان بحق الحكومة وإي

«الشرق الأوسط» (باريس)
طرد الطيور في مطار «أورلي الفرنسي»  بالألعاب النارية

طرد الطيور في مطار «أورلي الفرنسي» بالألعاب النارية

يستخدم فريق أساليب جديدة بينها الألعاب النارية ومجموعة أصوات لطرد الطيور من مطار أورلي الفرنسي لمنعها من التسبب بمشاكل وأعطال في الطائرات، حسب وكالة الصحافة الفرنسية. وتطلق كولين بليسي وهي تضع خوذة مانعة للضجيج ونظارات واقية وتحمل مسدساً، النار في الهواء، فيصدر صوت صفير ثم فرقعة، مما يؤدي إلى فرار الطيور الجارحة بعيداً عن المدرج. وتوضح "إنها ألعاب نارية. لم تُصنّع بهدف قتل الطيور بل لإحداث ضجيج" وإخافتها. وتعمل بليسي كطاردة للطيور، وهي مهنة غير معروفة كثيراً لكنّها ضرورية في المطارات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم فرنسا: المجلس الدستوري يصدر عصراً قراره بشأن قبول إجراء استفتاء على قانون العمل الجديد

فرنسا: المجلس الدستوري يصدر عصراً قراره بشأن قبول إجراء استفتاء على قانون العمل الجديد

تتجه الأنظار اليوم إلى فرنسا لمعرفة مصير طلب الموافقة على «الاستفتاء بمبادرة مشتركة» الذي تقدمت به مجموعة من نواب اليسار والخضر إلى المجلس الدستوري الذي سيصدر فتواه عصر اليوم. وثمة مخاوف من أن رفضه سيفضي إلى تجمعات ومظاهرات كما حصل لدى رفض طلب مماثل أواسط الشهر الماضي. وتداعت النقابات للتجمع أمام مقر المجلس الواقع وسط العاصمة وقريباً من مبنى الأوبرا نحو الخامسة بعد الظهر «مسلحين» بقرع الطناجر لإسماع رفضهم السير بقانون تعديل نظام التقاعد الجديد. ويتيح تعديل دستوري أُقرّ في العام 2008، في عهد الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، طلب إجراء استفتاء صادر عن خمسة أعضاء مجلس النواب والشيوخ.

ميشال أبونجم (باريس)
«يوم العمال» يعيد الزخم لاحتجاجات فرنسا

«يوم العمال» يعيد الزخم لاحتجاجات فرنسا

عناصر أمن أمام محطة للدراجات في باريس اشتعلت فيها النيران خلال تجدد المظاهرات أمس. وأعادت مناسبة «يوم العمال» الزخم للاحتجاجات الرافضة إصلاح نظام التقاعد الذي أقرّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)


2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟