الحلقة الثانية... أكد صدام أن بغداد مطوقة بأسوار دفاعية... لكن الدبابات الأميركية كانت على أبوابها

«الشرق الأوسط» تنشر مقتطفات من كتاب «درء المجاعة عن العراق» لمحمد الراوي

صدام وأفراد عائلته (إلى يساره عدنان خيرالله أخو زوجته ساجدة)، وفي الصف الثاني (يمين) حسين كامل زوج ابنته رغد (أ.ف.ب./غيتي)
صدام وأفراد عائلته (إلى يساره عدنان خيرالله أخو زوجته ساجدة)، وفي الصف الثاني (يمين) حسين كامل زوج ابنته رغد (أ.ف.ب./غيتي)
TT

الحلقة الثانية... أكد صدام أن بغداد مطوقة بأسوار دفاعية... لكن الدبابات الأميركية كانت على أبوابها

صدام وأفراد عائلته (إلى يساره عدنان خيرالله أخو زوجته ساجدة)، وفي الصف الثاني (يمين) حسين كامل زوج ابنته رغد (أ.ف.ب./غيتي)
صدام وأفراد عائلته (إلى يساره عدنان خيرالله أخو زوجته ساجدة)، وفي الصف الثاني (يمين) حسين كامل زوج ابنته رغد (أ.ف.ب./غيتي)

تنشر «الشرق الأوسط» اليوم الحلقة الثانية من كتاب الدكتور محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، «درء المجاعة عن العراق - مذكراتي عن سنين الحصار 1990 - 2003» (الذي يصدر قريباً عن دار «منتدى المعارف»). ويتناول الراوي مرحلة الانتفاضة ضد حكم الرئيس السابق صدام حسين، إثر خروجه مهزوماً من حرب تحرير الكويت، متهماً الإيرانيين بـ«الغدر» بالعراقيين بعدما وعدوهم بالوقوف إلى جانبهم إذا هاجمتهم أميركا، فإذا بهم يدعمون الثورة ضد حكم الرئيس العراقي. ويتناول الراوي أيضاً قصة الغزو الأميركي للعراق عام 2003، كاشفاً أن صدام كان يعتقد أن قواته قادرة على الصمود، مشيراً إلى أنه قال إن بغداد مسورة بثلاثة أسوار تحميها، لكن ذلك لم يمنع الدبابات الأميركية في الحقيقة من دخول العاصمة العراقية.
يتحدث الراوي عن الانتفاضة التي حصلت في العراق عام 1991 بعد طرد القوات العراقية من الكويت، فيقول: «على رغم إصابة وتدمير النسبة الغالبة من المشاريع المدنية والشلل العام الذي أصاب البلد، فإن تجهيز الغذاء استمر طيلة فترة القصف الجوي إلى حين وقف إطلاق النار في 3 مارس (آذار) 1991، حيث بدأت صفحة جديدة، والتي لم يحسب لها أي حساب، وهي أحداث 1991 التي بعد إعلان وقف إطلاق النار مباشرة (أطلقت عليها القيادة آنذاك صفحة الغدر والخيانة) وأطلق عليها بعد الاحتلال (الانتفاضة الشعبانية). وتسمية (صفحة الغدر والخيانة) مستمدة من غدر القيادة الإيرانية للعراق بعد أن تعهدت للوفد العراقي الذي زار طهران بعد فرض الحصار، والذي ترأسه نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزت إبراهيم، وأعضاؤه: نائب رئيس الجمهورية طه محيي الدين معروف، وعضو مجلس قيادة الثورة محمد حمزة الزبيدي، وعضو القيادة القطرية الدكتور سعدون حمادي وآخرون، بأنهم سيساندون العراق إذا ما نشبت الحرب مع الشيطان الأكبر أميركا، في حين انطلقت أحداث الفوضى بعد وقف إطلاق النار بمشاركة الحرس الثوري الإيراني والمخابرات الإيرانية والمعارضة العراقية الموجودة في إيران. أما الخيانة فأطلقت على العراقيين الذين خانوا بلدهم وهو يواجه أميركا وقوات التحالف من المعارضة العراقية في إيران ومن ساعدهم داخل العراق أثناء الحرب وبعدها مباشرة، مع الإشارة إلى أنني كرئيس للجانب العراقي في اللجنة العراقية - الإيرانية المشتركة شاركت أثناء انعقاد اللجنة في اجتماعها الأخير عام 2002 قبل غزو العراق في التفاوض مع الجانب الإيراني، وبطلب من مدير المخابرات العراقية الفريق طاهر حبوش، الذي كان موجوداً آنذاك في العاصمة الإيرانية طهران، وبحضور مدير المخابرات الإيراني، في أحد فنادق طهران، بمبادلة الضباط في المخابرات الإيرانية وعناصر من الحرس الثوري الإيراني الذين اعتقلوا في العراق من قبل الجهات الأمنية أثناء أحداث 1991 بأسرى عراقيين منذ فترة الحرب العراقية – الإيرانية، وتلبية طلب مدير المخابرات الإيراني بإضافة فقرة إلى الاتفاقية الثنائية التي كنا نناقشها مع وزير التجارة الإيراني شريعة مداري، وهي التزام العراق بشراء سلع من إيران بمقدار 450 مليون دولار، وتم ذلك.
ولقد تم تدمير ونهب كامل الخزين الغذائي وخزين السلع الأخرى، التي تم تخصيصها لمواطني كل محافظة قبل بدء الحرب في تلك الأحداث. ودمرت وعطلت المطاحن العائدة للقطاع الخاص في جميع محافظات الجنوب والفرات الأوسط ومحافظات الحكم الذاتي، عدا محافظة واسط، التي لم يتعرض خزينها أو سايلواتها إلى أي ضرر، وكذلك مخازن الهارثة الاستراتيجية في البصرة التي دافع عنها الحراس والشرطة والموظفون المكلفون بحمايتها. لقد أفرغت جميع محتويات مخازن وزارة التجارة من المواد الغذائية والسلع المعمرة والألبسة والأثاث والمواد الإنشائية والأدوات الاحتياطية التي كانت تستوردها الوزارة قبل بدء الحصار، وتم تدمير المخازن كأبنية وحرق بعضها بعد إفراغها من محتوياتها (الحرق حدث في محافظتي النجف والسليمانية)، وسقطت نظرية المحافظات الآمنة التي استخدمت في تركيز الخزين الاستراتيجي للغذاء في كربلاء والنجف ومحافظات الحكم الذاتي».
ويضيف: «في الوقت نفسه، وبعد يومين من وقف إطلاق النار اتصل بي سكرتير الرئيس حامد يوسف حمادي يوم 5 مارس، وأبلغني أن الرئيس يطلبك على عجل ومعك جداول بخزين الغذاء. أوصلتني سيارة من القصر الجمهوري يقودها أحد المرافقين إلى مقر وزارة التجارة البديل، ووصلنا أحد القصور في الرضوانية الواقعة في محيط بغداد بعد أقل من ساعة. ودخلت إلى أحد الأبنية الصغيرة والمخصصة لحراسة القصر المذكور المنتشرة بجوار السياج الرئيسي الذي يحيط بالقصر، فوجدت الرئيس وهو يجلس على منضدة عادية وعلى يمينه المرافق عبد حمود (الذي أصبح سكرتيراً له بعد عدة أشهر من توقف الحرب) وخلفه العميد أرشد ياسين، كما يظهر في الصورة والخبر الذي نشرته جريدة العراق. بادر إلى رغبته في الإعلان عن زيادة الحصص الغذائية التي توزع بموجب نظام البطاقة التموينية، وأراد شرحاً وافياً، وما هي الإمكانيات لذلك. وكان قد انفلت الوضع الأمني، وبدأت أعمال النهب من مخازن الوزارة، وعرضت أماكن خزن الحبوب تحت الأرض وكمية الخزين في محافظات بغداد ونينوى وصلاح الدين والأنبار.
وأبديت الإمكانية عن الإعلان عن بعض الفقرات. فقال الذي يهمني هو الخبز فهل نستطيع زيادة حصة الفرد من الطحين. أجبته بأنني لا أستطيع الإجابة إلا بعد أن أزور المحافظات للتحقق من الضرر الذي حصل في خزين القمح في المحافظات التي بدأ فيها الانفلات الأمني. وطلبت مهلة يومين لأبلغه بالإمكانية من عدمها، واقترحت أن نعلن بعد الاجتماع عن الفقرات الجاهزة مع الإشارة في خبر اللقاء إلى أن الوزارة ستعلن قريباً عن زيادات للفقرات الأخرى. ووافق على ذلك».
- السنوات السبع الشداد الأولى
يقول الرواي: «كانت السنوات السبع الأولى الأشد خطورة والأقسى في تاريخ العراق الحديث. كانت المجاعة محتملة في أي فترة تنفد فيها الأموال الشحيحة في البنك المركزي، وتفشل الجهود التي بذلناها لتأمين مواد غذائية من مصادر غير مضمونة في أفق زمني مفتوح غير محدد بفترة زمنية حول تاريخ رفع الحصار.
في أحد لقاءاتي بالرئيس الراحل عام 1992 سألته سؤلاً محدداً عن وجهة نظره عن الفترة الزمنية التي يتوقع أن يرفع فيها الحصار، أجاب باعتقاده في غضون سنتين. فالبطاقة التموينية تنهار كلياً إذا نفد خزين الغذاء الذي كان محتمـلاً في أي شهر تفشل فيها الجهود في تأمين مصادر تمويل لم تكن مضمونة على عكس الفترة التي سبقت الحصار حينما تتوافر المبالغ المطلوبة للغرض المذكور.
لا شك في أن اللجنة الخاصة بأسلحة الدمار الشامل التي تدار مباشرة من قبل أميركا، وبريطانيا، وبتدخل من إسرائيل، لا تخفي هدفها الأساسي في إطالة مدة الحصار لاستخدامه لأغراض سياسية لكي يحقق أهدافهم المعلنة في تغيير النظام السياسي (...) وكان الجانب العراقي يشعر بأن غرض اللجنة في إطالة أمد التفاوض هو سياسي أيضاً، وكلما طال الزمن تهاوت قدرة العراق على الصمود».
ويقول إنه تم «التمكن من تجاوز المجاعة في السنوات السبع الأولى» من الحصار نتيجة اعتماد مجموعة من الإجراءات، من بينها اللجوء للاحتياطي المتبقي للعراق من الذهب، والمقدرة قيمته بـ600 مليون دولار، حيث تولى البنك المركزي العراقي مسؤولية بيعه في سوق لندن لتحويله إلى دولار. كما تم اللجوء إلى استخدام «الأموال المجمدة» للعراق في البنوك الدولية لشراء المواد الغذائية والطبية والسلع المدنية الأخرى.
ويضيف: «كان عام 1994 ينذر بصعوبات كبيرة بسبب استمرار الحصار، واقتراب نفاد العملة الصعبة المضمونة لدى البنك المركزي، وارتفاع أسعار المواد الغذائية في السوق المحلية بسبب تصاعد الدولار، وبعد تقليص الحصة التموينية للطحين من 9 كيلو غرامات للفرد إلى 6 كيلوات لتدارك تجنب توقف تجهيز السكان بفقرة الطحين، وما زالت هنالك حاجة إلى 70 مليون دولار. وكان هنالك مبلغ من مبيعات النفط تم إبرام عقود قمح وسكر به عام 1992، وكان ممثل وزارة النفط مثنى البدري شقيق مؤيد البدري مع الدكتور عبد المنعم رشيد مع زهير عبد الرحمن مدير عام الشركة العامة لتجارة الحبوب معي في عمان. ونظراً لصدور القرار 778 في أكتوبر (تشرين الأول) 1992 منع بموجبه استخدام الأموال المجمدة مرة أخرى مما عطل تنفيذ هذه العقود في ذلك العام. أصبحت المجاعة حتمية، وبدأت حالة القلق على سلوك وحديث الرئيس في اجتماعات مجلس الوزراء... وذكر هل يصح أن نموت ونحن جالسون؟ أم نموت ونحن واقفون؟ وأعلن في آخر الخطبة أنه سيفتح مخازن العالم ولا يسمح أن يجوع الشعب العراقي. وبقينا أنا والرئيس فقط ندرك اقتراب توقف تجهيز المواطنين بالطحين لمدة شهرين وانتابنا القلق الشديد. وفجأة تردنا برقيات بأن العقود التي أبرمت عام 1992 قد تم تحمليها في البواخر وستصل العقبة قبل نفاد الطحين، والإعلان عن توقف التجهيز للمواطنين، وكانت يد الله مع الشعب العراقي لتمنع المجاعة، وأبلغت فوراً الرئيس الراحل بالمفاجأة التي لم نتوقعها، فقد اعتبرناها عقوداً ميتة».
- الخلاف مع حسين كامل
وعلى رغم حديث الراوي عن خلافات نشبت بينه وبين حسين كامل، إلا أنه يوضح قائلاً: «لا بد من القول، ومن خلال صلتي القريبة به حين كنا نعمل سوية في رئاسة الجمهورية، حيث كان مديراً لجهاز الأمن الخاص، ومشرفاً على الحرس الجمهوري، وكنت آنذاك وكيلاً لرئيس ديوان الرئاسة، بأنه لم يكن يتخذ القرارات لوحده وإنما كانت لديه كوادر ذات كفاية في هيئة التصنيع العسكري، وفي وزارة الصناعة، وفي وزارة النفط، ومعظم قراراته تمثل رأي العاملين معه في كل قطاع وليس رأيه المنفرد. واستمد قوته من قوة الرئيس ويعمل باسم الرئيس، من خلال صلة القرابة من جهة، والمصاهرة من جهة ثانية. وبحكم ذلك، وكونه أصبح الشخص الثاني في الدولة فعلياً كان يوفر المستلزمات المادية والدعم المالي للقطاعات التي يشرف عليها وللعاملين وحمايتهم، والتي لا تتوفر للوزراء الآخرين ولنواب الرئيس، فتجاوزت سلطاته الوزارات الأخرى. إلا أنه كان يتسرع في اتخاذ بعض القرارات التي كانت تتطلب تأنياً ودراسة معمقة».
ويتحدث عن قصة انشقاق حسين كامل وفراره إلى الأردن، فيقول: «كنت أقود السيارة كعادتي في زياراتي داخل العراق إلى المحافظات لمتابعة أنشطة وزارة التجارة، وكذلك في زياراتي إلى الأردن وسوريا في فترة الحصار لمنع الطيران المدني العراقي والدولي للوصول من وإلى العراق. كان بجانبي وزير الزراعة خالد عبد المنعم رشيد، الصديق الشخصي للرئيس الراحل، حينما تم إذاعة خبر هروب حسين كامل في أخبار الساعة السادسة مساءً، وكنا قد اقتربنا من جسر سامراء، قلت له: لنعد إلى بغداد وأنت الصديق الشخصي للرئيس لصعوبة الموقف. أجاب بأن الموضوع عائلي بينه وبين عدي لا حاجة للعودة. واستمر سيرنا باتجاه مدينة الموصل، واجتمعنا في اليوم الثاني لوصولنا مع نائب رئيس مجلس قيادة الثورة الذي تولى قبل شهرين مهمة رئاسة اللجنة الزراعية التي أصبحت اللجنة العليا لمتابعة موضوع الحصاد والتسويق الذي كان السبب في تكليفه بالمهمة المذكورة. عرضت في الاجتماع مقترح العودة إلى بغداد، خصوصاً السيد نائب رئيس مجلس قيادة الثورة الشخص الثاني المسؤول، واستمر عملنا الروتيني حتى بعد إعلان حسين كامل إسقاط النظام في المؤتمر الصحافي ليكون هو رئيساً للبلاد».
ويوضح: «الأكيد أن النزاع بين عدي وحسين بلغ أشده، كما أن حسين كامل كان أقوى من عدي الذي ليس له حظوة عند والده، في حين أصبح حسين كامل فعلياً الشخص الثاني في الدولة. ومعظم القرارات التي اتخذها الرئيس الراحل قبل الحصار وبعده كان له مشاركة فيها من خلال قربه ولقاءاته اليومية العائلية. وكان أقوى من نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزت إبراهيم، ونائب رئيس الجمهورية طه ياسين رمضان، وكلاهما كان يحذر منه، ويتوددان إليه، ولا يرفضان له طلباً... لم يكن هروب حسين كامل ناجماً في تقديري عن الصراع القائم بينه وبين عدي فقط، حيث كان كما ذكرت له سلطة وموقع أكبر بكثير من عدي الذي كان يشغل منصباً رياضياً كرئيس للجنة الأولمبية ورئيس مجلس إدارة جريدة وقناة تلفزيون (الشباب)، وليس له تأثير في قرارات الدولة كما كان يتمتع به حسين كامل، وكان يخضع لمراقبة شديدة من والده. وأحد الأسباب فقدانه الأمل في أن يشغل منصب رئيس الوزراء الذي كان يتطلع للوصول إليه.
(...) اتصل بي الرئيس الراحل هاتفياً الساعة الرابعة فجر يوم 29 مايو (أيار) 1994 بعد الارتفاع الفاحش لأسعار الطماطم (البندورة) في الأسواق المحلية، وقال: (أنا حالياً في علوة الرشيد/ سوق الجملة للخضراوات/ الذي يقع في وسط طريق بغداد ومدينة المحمودية أدقق أسعار الطماطم والخضراوات، فهل أسعار الخضراوات من مسؤوليتك؟)، أجبته بأن تسعيرة الخضراوات ألغيت قبل فرض الحصار، ووزارة التخطيط لديها قسم يتابع لأغراض إحصائية تلك الأسعار فهل أتولى الموضوع؟ أجاب: (لا، وإنما تأتيني الساعة العاشرة صباحاً في مكتبي).
جاءت سيارة الحماية إلى الوزارة، وأوصلتني قبل الساعة العاشرة صباحاً، وكان في الانتظار الدكتور خليل المعموري (من محافظ بابل) رئيس أمانة مجلس الوزراء ووكيل رئيس ديوان الرئاسة، ودخلنا الساعة العاشرة صباحاً بعد وصول حسين كامل ويحمل كالعادة مسدسه (هو وطه ياسين رمضان يدخلان على الرئيس بمسدساتهما فقط). وبعد الانتهاء من مناقشة أسعار الخضراوات، وقبل انتهاء الاجتماع استأذنت الرئيس لإبداء رأي، وقلت: «بأن ظروف البلد تزداد صعوبة مع استمرار الحصار ونحن في السنة الرابعة، ورغم الجهود التي يبذلها رئيس مجلس الوزراء، فإنني أرى أن البلد سيواجه صعوبات كبيرة في الفترة القادمة إذا لم تتول سيادتكم رئاسة المجلس»، وانتهى الاجتماع. في الساعة التاسعة من مساء اليوم نفسه أذيع في الأخبار الرئيسة في قناة العراق التلفزيونية الخبر الرئيس؛ وهو إعفاء أحمد حسين السامرائي من منصب رئيس الوزراء وإعادته إلى منصبه رئيساً لديوان رئاسة الجمهورية بدرجة نائب رئيس وزراء، وتولى صدام حسين رئيس الجمهورية منصب رئيس الوزراء. فقد حسين كامل أي أمل له في التعيين بعد أن عاد الرئيس الراحل رئيساً لمجلس الوزراء».
- الغزو الأميركي عام 2003
يقول الراوي، «بدأ العدوان الأميركي في 19 مارس جواً على مزرعة الدورة، وبدأت الحرب البرية في اليوم التالي، يوم 20 مارس. كان كل شيء يسير بشكل طبيعي وفق الخطة المعتمدة. وأضفنا لها قيام أسطول من الشاحنات المحملة بالطحين نمرة صفر لتوزيعه على المخابز في مناطق بغداد كافة، وكنت أرافق تلك الشاحنات للتحقق من تزويد تلك المخابز، والقنابل تهطل على بغداد كالمطر...
بعد أسبوع من بدء العدوان طلبني الرئيس الراحل، وحضرت مع وزير النفط اجتماعاً مصغراً كان حاضراً فيه نائب رئيس الجمهورية طه ياسين رمضان، ونائب رئيس الوزراء طارق عزيز، وقصي صدام حسين عضو القيادة والمسؤول عن بغداد، ووزير الدفاع الفريق سلطان هاشم، والدكتورة هدى عماش عضو القيادة القطرية مسؤولة الرصافة للحزب. طلب الرئيس مني أن أجلب مواد غذائية إضافية إلى داخل مدينة بغداد تحسباً للقتال داخل المدينة (...) كما وجه الرئيس الراحل وزير النفط الدكتور عامر محمد رشيد بأن يكثف من الدخان الناجم عن حرق الوقود لمنع الصواريخ من الوصول إلى أهدافها.

جنود أميركيون ومواطنون عراقيون خلال إطاحة نصب الرئيس العراقي صدام حسين في ساحة الفردوس ببغداد يوم 9 أبريل 2003 (غيتي)

وأثناء الحديث عن سير المعارك، وكان التركيز على صمود الجيش في أم قصر، طلبت الحديث، وذكرت بأنني سافرت إلى مدينتي راوة في محافظة الأنبار قبل بدء العدوان العسكري، وسألت مسؤول الشعبة الحزبية ما هو عدد قاذفات الآر بي جي التي لديكم؟ أجاب ست قاذفات فقط، وعند عودتي إلى بغداد زرت مسؤول مكتب الجزيرة للحزب في مدينة حديثة، وهو من أقربائي وسألته السؤال نفسه، وكان عدد القاذفات المزود بها ست قاذفات فقط. وهذا عدد قليل جداً. لم يحصل تركيز على هذه النقطة سوى تدخل نائب رئيس الجمهورية بأنه على استعداد لاستيراد كمية من سوريا. ولم يتحدث عن الموضوع كل من وزير الدفاع وقصي صدام حسين، رغم المعلومات العامة بتوافر مليون قاذفة لدى العراق قبل الحرب».
ويضيف: «(...) بعد أكثر من أسبوع، وعند دخول القوات الأميركية النجف، طلبنا الرئيس مجدداً أنا ووزير النفط لمتابعة تنفيذ توجيهاته في الاجتماع الماضي. تحدث الرئيس الراحل بأن الفريق صلاح عبود ومحافظ النجف وعضو مجلس قيادة الثورة مزبان خضر هادي (المسؤول عن محافظات الوسط بعد تقسيم العراق إلى أربع مناطق مستقلة، للمسؤول صلاحية رئيس مجلس قيادة الثورة في الدفاع عن المنطقة التي يشرف عليها) طلبوا التوجيه بالانسحاب من مدينة النجف بعد وصول القوات الأميركية إلى المدينة، وبدء أعمال النهب في دوائر الدولة، وانفلات الوضع الأمني، ووافقت على طلبهم. طلبت الحديث، وذكرت للرئيس الراحل بأن البصرة صامدة وتقاتل القوات الأميركية منذ أسبوعين، رغم أن أعمال النهب مستمرة من مخازن وزارة التجارة في البصرة قرب المنطقة الصناعية، وهذا لا يعني سقوط المدينة. طلب الرئيس من سكرتيره الفريق عبد ومن وزير الداخلية محمود ذياب الأحمد الخروج فوراً من الاجتماع للاتصال بهم وإبلاغهم بعدم الانسحاب من المدينة. وبعد أكثر من نصف ساعة عادا وأبلغا الرئيس بأنهم انسحبوا فعـلاً من النجف. (...) وأثناء حديث الرئيس عن سير المعارك بعد خروج السكرتير ووزير الداخلية من الاجتماع، قال الرئيس بأن القوات الأميركية لن تتمكن من دخول بغداد، فالمدينة مطوقة بثلاثة أسورة (مصدات) محركاً يده اليمنى على اليسرى بشكل دائري ثلاث مرات تعبيراً عن الأسورة الثلاثة».
ويتابع: «كانت مدينة بغداد متماسكة، وتتلقى القصف الهائل من القوات الجوية الأميركية، ومن الصواريخ البعيدة المدى. وكنت يومياً أرافق القافلة المحملة بالدقيق (خالٍ من النخالة نمرة صفر) لتوزيعها على المخابز من باب المعظم مروراً بشارع الشيخ غمر وصولاً إلى الباب الشرقي وإلى البتاويين والكرادة الشرقية ومناطق بغداد الأخرى. وكانت المنظمات الحزبية تمسك الأرض بالمتاريس التي أقامتها حسب المناطق المسؤولة عنها ضمن نشاطها الحزبي، وكان المواطنون متلاحمين مع تلك المنظمات منهم من يزودهم بالطعام والفواكه، ومنهم من يوجد بالقرب منهم لإبداء المشاركة الرمزية، حتى ظهور وزير الدفاع في ندوة تلفزيونية شرح فيها عدم تمكن القوات البريطانية من التأثير على صمود القطعات العسكرية التي كانت تقاتل في أم قصر في البصرة. ورداً على سؤال من إحدى وكالات الأنباء عن موعد وصول القوات الأميركية إلى بغداد، أجاب وزير الدفاع خلال سبعة أيام، كما أخبرني غسان القاضي مراسل إحدى وكالات الأنباء المشاركة في المؤتمر الذي كان معي ضمن مجموعة المسافرين في أول زيارة لأداء العمرة في المدينة المنورة ومكة المكرمة عام 2013 بعد إطلاق سراحي عام 2012، لقد كان لهذه الإجابة تأثير مدمر على معنويات من كان في مدينة بغداد، وبدأت العوائل تغادر المدينة أفواجاً أفواجاً، وكنت ألاحظ ذلك في انحسار نقاط وجود المنظمات الحزبية في مناطق بغداد كافة.
وكانت آخر زيارة لي في مدينة الثورة قبل يوم من احتلال بغداد، وإعلان تغيير النظام الوطني في 9 أبريل (نيسان)، حيث لم أجد سوى تجمعين لفرقتين حزبيتين بعد أن كان وجودها يملأ المدينة... وكانت الدبابات الأميركية قد وصلت طريق القناة بالقرب من حي المعلمين في حي القاهرة، حيث مقر مبيتي مع أخوتي في دار والدي في ذلك الحي أثناء الحرب».
ويقول: «في يوم الجمعة 3 أبريل كان أحد أفراد الحماية ينتظرني أمام مسجد أبو حنيفة، حيث أديت الصلاة أنا والدكتور ناجي الحديثي وزير الخارجية، وأبلغني أن الرئيس يطلبك على الفور. ذهبت معه بعد أن سلمت على الدكتور ناجي صبري. وعند وصولي الاجتماع سلمت على الحاضرين، وجميعهم قادة عسكريون، وكان عضو القيادة القطرية المسؤول عن بغداد قصي، يجلس على جانبه الأيمن وهو في حالة انهيار واضحة على وجهه الشاحب، وعدي على يساره عكس قصي الذي كان جالساً واثقاً من نفسه مثل الذئب، حيث كان فدائيو صدام يقاتلون ببسالة».
الحلقة الأولى... علي صالح لصدام: الحرب واقعة... والهدف تدمير الجيش العراقي


مقالات ذات صلة

بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة يؤلف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

ثقافة وفنون بيدرو ألمودوفار (إ.ب.أ)

بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة يؤلف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

يجري النظر إلى بيدرو ألمودوفار، على نطاق واسع، باعتباره أعظم مخرج سينمائي إسباني على قيد الحياة. أما هو فيرى نفسه كاتباً في المقام الأول - «كاتب حكايات»،

نيكولاس كيسي
يوميات الشرق الصور الثابتة في أي كتاب مدرسي تتحوَّل نماذج تفاعلية ثلاثية البُعد (فرجينيا تك)

الذكاء الاصطناعي يضخّ الحياة بالكتب المدرسية الجامدة

طوّر فريق من الباحثين في جامعة «كولورادو بولدر» الأميركية نوعاً جديداً من الكتب المدرسية التفاعلية التي تتيح تحويل الصور الساكنة نماذجَ محاكاة ثلاثية البُعد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «شيء مثير للاهتمام جداً» (رويترز)

نسخة نادرة من مخطوطة «الأمير الصغير» للبيع

ستُطرح نسخة نادرة من المخطوطة الأصلية لرواية «الأمير الصغير» للكاتب أنطوان دو سانت أكزوبيري، للبيع؛ وهي التي تحتوي على تصحيحات وتعليقات مكتوبة بخطّ المؤلّف.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب القوة في موازين الحياة

القوة في موازين الحياة

يسعى كتاب «لعب الأدوار بقوة» للكاتبة والباحثة الأميركية، ديبورا جرونفيلد، إلى تفكيك مفهوم «القوة»، بما له من حمولات سيكولوجية، واجتماعية، وسياسية، وإنثروبولوجية

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب «استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

«استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

يأخذ المفكر اللبناني مشير باسيل عون قارئه، في مؤلفه الجديد «استنطاق الصامت: مفاتحات فلسفية في الاجتماع والدين والسياسة» الصادر حديثاً عن دار «سائر المشرق»

مالك القعقور (لندن)

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.