خلال النصف الأول من الشهر المقبل، يعود أفتك أنواع السمك إلى الشاشة الكبيرة. فيلم ستيفن سبيلبرغ الذي عُرض في صيف 1975 بعنوان «Jaws» (عن فكّي تلك السمكة الضخمة) يعود في صيف 2022 ليرى إذا ما كان هناك من لا يزال يخاف من أسماك القرش.
طبعاً من حين نجاحه (471 مليون دولار حول العالم)، أُنجز دفق كبير من أفلام القرش. كل عام أو عامين هناك قرش يهدد حياة أبرياء. آخرهم كان ذلك القرش الأبيض في «The Reef: Stalked» السنة الحالية. فيه اختارت أربع فتيات جميلات، بقعة نائية من المحيط للسباحة غير مدركات بالطبع أن هناك سمكة بأسنان حادة تنتظر مثل هذه الوليمة الكبرى.
180 فيلماً أو أكثر قليلاً، هو مجموع الأفلام التي أُنتجت عن أسماك القرش. معظمها روائي، ومعظم الروائي يمنح القرش دور الشرير المخيف. معظمها أفلام رعب. العديد منها مستوحى من نجاح «جوز» سبيلبرغ في ذلك العام البعيد.
الجامع بين غالبية هذه الأفلام أنها مثل أسماك القرش، لا تفكر إلا في مهامها المباشرة. بالنسبة إليها تسجيل عائدات مالية من الذين يريدون مشاهدة كيف تأكل السمكة الآدميين. كيف يختلط جمال الأبدان بوحشية الحيوان، والماء بالدماء، وكيف تعلو صرخات النساء خوفاً وهلعاً. قليل منها لديه أجندة أخرى. وأحد هذه الأفلام القليلة هو فيلم سبيلبرغ نفسه.
روبرت شو يتوسط روي شويدر وريتشارد دريفوس في «جوز»
رعونة لا بطولة
في جلّه هو حكاية (وضعها بيتر بنشلي) عن بلدة ساحلية صغيرة فوق جزيرة أميركية اسمها أميني. شريف البلدة مارتن برودي (روي شايدر)، لديه زوجة اسمها إيلين (لورين غراي، وصبيان صغيران. إنه الرابع من يوليو (تموز)، العيد الوطني لاستقلال أميركا. الساحل مكتظ بالسياح، وستيفن يصوّرهم على طبائعهم العادية. لكن هناك حس ينتاب المشاهد المفكّر من أن الغاية من تصويرهم بضجيجهم ومسالكهم الساذجة هو تسخيفهم، وليس منحهم صورة طالبي متعة بريئة. في ذلك، لو بحثت أكثر، شيء من اللوم أو التصغير.
عندما يكتشف برودي جثة امرأة نهشها القرش حتى الموت، يطلب من محافظ البلدة (موراي هاملتون) إغلاق الشاطئ، لكن عين هذا على الخسائر الكبيرة التي ستتعرض لها البلدة في حال حقّق هذا الطلب. يبني المحافظ موقفه على أن لا شيء يُثبت أن القتيلة ماتت نتيجة هجوم سمكة قرش رغم تقرير الطبيب الشرعي.
هذا الصراع بين المحافظ وبرودي هو الصراع بين من يفضّل الحفاظ على الاقتصاد، وبين ذلك الذي يفضل الوقاية من المخاطر. ضحية أخرى ومن ثَم صيد لقرش معتدل الحجم يفرح المحافظ على أساس أن القضية انتهت عند هذا الحد.
لكن برودي لا يعتقد أن القرش الذي تم صيده هو القرش الذي لا يزال يحوم في تلك المياه، ويستعين بصياد محترف اسمه كوينت (روبرت شو)، والعالم البيولوجي مات هوبر (ريتشارد دريفوس) والثلاثة يركبون يختاً ويمضون في البحر بانتظار هجوم الوحش الذي يقع بعد حين ويهدد الثلاثة. الوحيد الذي يخسر حياته هو كوينت. الآخران ينجحان في نسف السمكة القاتلة وتنتهي الحكاية عند هذا الحد (إلى حين الجزء اللاحق على الأقل).
هناك شيء خطأ في عملية التخلص من كوينت، وهو أن موته إدانة أكثر منه تضحية. رعونة أكثر منه بطولة. اختيار من يموت ومن يحيا في الأفلام عموماً، له علاقة بمفهوم معين. غالباً الشرير يموت لأنه شرير. الطيّب إذا مات فلأنه ضحية. لكن بالنسبة لكوينت فإن المسألة مختلفة. هو يمثّل الرجولة، والرجولة عند سبيلبرغ مسألة معقّدة. أبطاله إذن عاشوا المحنة، فإن ذلك يعود إلى أنهم ليسوا ذوي الرجولة الآتية من معين القوّة والثبات. ريتشارد درايفوس في «Close Encounter of the Third Kind»، هو رجل، لكنه ضعيف وهو يعيش في النهاية. دينيس ويفر في «Duel»، هو رجل ضعيف تلاحقه شاحنة بقصد دهسه. يحتال عليها فتسقط في الوادي ويعيش هو.
سمكة من صفيح
في هذا المثال الأخير، الشاحنة الضخمة هي رمز للرجولة. بالتالي، سمكة القرش رمز للرجولة كذلك. الصراع ضدهما هو صراع الضعيف ضد القوي، وإذا كان من بين الآدميين من هو قوي فسيُضحّى به لكي يكتمل التماثل بين الرجل القوي ورمز الرجل القوي.
لا يوجد في «جوز» أي اعتبار لأن يكون القرش أنثى. لقد حُكم عليه كذكر. وهوبر، الذي لا يجرؤ على التفكير في السقوط بين أنياب القرش كما حدث مع كوينت، يؤكد ذلك عندما يقول: «إما أن أتمكن منه أو أن يتمكن مني» (Either I get HIM or HE gets me).
يكاد هذا الرمز يعمل على وسيط آخر: أبطال سبيلبرغ عموماً ليسوا من أهل الثقافة والعلم. صحيح أن هوبر عالم بيولوجي، لكنه يبدو متفانياً في إظهار قدراته الخاصّة كمتعلم أكثر من ممارسة العلم الذي درسه. برودي، هو الشخص الطيّب الذي لن يستطيع الفوز في أي معركة يدوية. ربما لذلك عمد إلى سلك البوليس لأن ذلك يمنحه حماية.
درايفوس في «لقاءات قريبة من النوع الثالث» مثالي، مرتبك، حالم وغير سعيد بوضعه (زوجاً)، وواثق من أنه سيكون من بين النخبة التي ستصل إلى المكان الذي ستحط فيه السفينة الآتية من الفضاء. حتى جنود «إنقاذ المجند رايان» ليسوا بالمفهوم الرجولي ذاته لشخصيات المخرج روبرت ألدريتش في «Attack» و«Too Late the Hero». أو كشخصيات هوارد هوكس، وجون فورد، وهنري هاذواي، وأنطوني مان حيث القوّة الذكورية هي التي تسود وتصنع الانتصارات الكبيرة.
أفضل ما في الفيلم ليس مشاهد التحضير لظهور القرش الفعلي والهلع، الذي يسببه بين مواطنين عزّل من القوّة. وليس المشاهد الأخرى للقرش وهو يدور حول السفينة ويقضمها، قليلة. هي بالفعل مشاهد مثيرة، تشبه تلك المثيرة في «مبارزة»، وفي فيلم سبيلبرغ الآخر «جوراسيك بارك» (فيه يقتل رجلاً آخر معتد بقوّته حين يواجه القوّة الأكبر التي يمثلها الديناصور). لكن هذه مشاهد مونتاجية بارعة مع موسيقى حاشدة لرفع برموميتر التوتر، واستخدام وحش من صفيح بطريقة مؤثرة.
المشهد القيّم الفعلي، هو ذلك الذي يتجالس فيه الرجال الثلاثة ليحكي كل منهم شيئاً عن نفسه. حكايات برودي وهوبر لا شيء غير عادي فيها، لكن حكاية كوينت تأخذنا في أرجاء ومساحات شخصية مركّبة لم تفهم سوى مبدأ القوّة، خصوصاً أنه كان من بين الذين أُنقذوا من الباخرة الأميركية «إنديانابوليس»، حين أصيبت وغرقت خلال الحرب العالمية الثانية. بمهارة ومعرفة، يترك سبيلبرغ الممثل شو (أفضلهم) سرد الحكاية فيقول في أسى: «1100 رجل غرقوا، 316 نجوا. الباقون أكلتهم أسماك القرش».
إنه حوار طويل في نحو 3 دقائق يقوم به روبرت شو لاجئاً إلى ابتسامة ساخرة وأخرى مقهورة. هذا رجل لم يشأ أن ينسى ويبتعد، بل لا يزال يشعر بالرغبة في الانتقام من ذلك القرش الذي، حسب ما يقول: «يتقدّم منك بعينين ميّتتين. لن تشعر بأنه حي إلا عندما يبدأ بالعض. المحيط يصبح أحمر اللون».
نوعان للعائلة
بذلك يضع سبيلبرغ المشاهدين أمام موقف لا يخلو من التناقض. كوينت هو رجل من خارج التاريخ، ليس لأنه، بعرف الفيلم كما الواقع، أكبر سناً من رفيقيه، بل لأنه آتٍ من تجربة الحرب العالمية الثانية. آخرون اشتركوا فيها، لكنهم خرجوا منها بجراح أقل ثخانة. كوينت بالنسبة لمشاهديه ضحية تستدعي التعاطف، لكنه يحمل، في الجانب الآخر، مما يمنح شسبيلبرغ الفرصة للتشكيك بأهميّته. إنه رجل غير عصري. لا يعيش كما الآخرين. أمضى حياته في صيد القرش، وسيموت بما أمضى حياته في صيده.
طبعاً لا نعرف ما يكفي عن حياة برودي وهوبر. ليس تاريخهما مسألة مهمّة. لكن ما هو مهم، أن برودي رجل عائلة والعائلة لديه مهمّة.
هذا هو الحال عند سبيلبرغ. في العديد من أفلامه يجد لزاماً الحديث عن العائلة من وجهتي نظر متناقضتين. هناك أفلام له تتحدث عن الشرخ في العائلة، وأفلام عن اتحادٍ ما. الشرخ موجود في «مبارزة» عندما نرى دينيس ويفر يتحدّث هاتفياً مع زوجته التي ستتركه. في «لقاءات قريبة من النوع الثالث» الخلاف بين الحالم درايفوس وبين زوجته المتبرّمة من حياتها معه، واضح.
الجانب الثاني هو انعكاس لشعور سبيلبرغ بحبّه لأبيه. هذا متبدّى في العلاقة التي تربط توم كروز بابنه في «War of the World» سنة 2005. لكنها أيضاً في «إمبراطورية الشمس» (1987). وتأخذ بُعداً عاطفياً شديداً في «A.I. Artifiicial Interllegence» سنة 2001 حيث ذلك الصبي غير الآدمي يبحث عن الحنان الذي فقده من الأم ومن الأب على حد سواء وسوف لن يجده.
في السنوات التالية لفيلم «جيروسيك بارك» الأول (1993)، أخذ سبيلبرغ التخلي عن مسائل العائلة وصراع الرجولة، لإثبات وجود لا قيمة فعلية له في عالم اليوم، ناشداً معالجات مختلفة لا مكان فيها لتلك المفادات. عملياً، ترسّخ الاتجاه الجديد بعد «تقرير الأقلية» (Minority Report) 2002. وتبع ذلك انتقاله بين أنواع من الأفلام التي يسودها رجال ونساء بلا تواريخ حياة واضحة. أفلام مثل «The Terminal» و«ميونيخ» (رغم وجود مشهد تُفجر فيه الموساد منزل عربي بحضور أولاده)، ولاحقاً في «War Horse»، و«لنيكولن»، و«جسر الجواسيس» وسواها.
لكن فيلم سبيلبرغ المقبل سيعاود طرح هذه المسائل المشار إليها في هذا التحليل من جديد. الفيلم هو «The Fabelmans»، والحبكة تدور حول حياته ما بين السابعة والثامنة عشرة من عمره.