قبل 33 عاماً تقريباً أطلق المرشد الراحل للجمهورية الإيرانية روح الله الخميني، فتواه بـ«إهدار دم» الروائي سلمان رشدي لتجد بعد سنوات طويلة من ينفذها ويطعن الرجل الذي يصارع الموت راهناً في إحدى المستشفيات الأميركية، غير أن الحادث أعاد التذكير بفتاوى أخرى تبدو «عابرة للتأويلات الدينية».
ومن حرق المفكر جوردانو برونو عام 1600 بتهمة ثبتتها محاكم التفتيش الأوروبية تمثلت في «إنكار معتقدات كاثوليكية»، مروراً بمحاولة اغتيال الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ بفتوى «ذات إسناد منسوب لتأويل ديني سُني»، وصولاً إلى محاولة اغتيال سلمان رشدي بعد سنوات من فتوى بـ«إهدار دمه» تستند إلى «مرجعية شيعية»، تبدو مراجعة بعض الحوادث التي قدمها مرتكبوها باعتبارها «تأويلات دينية» مسألة جديرة بالفهم.
وباعتبارها أحدث تعبير عن أثر تلك الفتاوى تظهر جريمة محاولة اغتيال رشدي، مفسرة لتأثيرات «التحريض على القتل»، فالرجل المولود عام 1947، جلبت له روايته «آيات شيطانية» الصادرة عام 1988 سيلاً من التهديدات غير المسبوقة، كان أبرزها ما أطلق مرشد إيران الخميني عام 1989 بـ«إهدار دمه»، ووفق ما نقلت «أسوشييتد برس» فإن «45 شخصاً قتلوا في أعمال شغب بسبب (آيات شيطانية)، من بينهم 12 شخصاً في مسقط رأس رشدي في مومباي الهندية، وفي عام 1991 قتل الياباني هيتوشي إيغاراشي الذي ترجم الرواية طعناً، فيما نجا مترجم إيطالي للرواية من هجوم بسكين، وفي عام 1993. تم إطلاق النار على ناشر الكتاب النرويجي ثلاث مرات ونجا».
لكن فتوى «إهدار دم» رشدي بدت «عابرة للمرشدين الإيرانيين»، إذ أيدها المرشد على خامنئي في عام 2017. الذي «سُئل على موقعه الرسمي عما إذا كانت (الفتوى ضد رشدي ما زالت سارية؟) ليرد على ذلك قائلاً: (المرسوم كما أصدر الإمام الخميني)»، وفق ما توثق Cnn العربية.
ويعتقد أستاذ الفلسفة الإسلامية الأكاديمي المصري، الدكتور أحمد سالم، أن «الروح الإقصائية موجود في الفتاوى (ذات الإسناد المنسوب لتأويل شيعي) كما في غيرها من التأويلات، غير أن معالجاتها ودراستها والاطلاع عليها وعرضها، قد لا يكون بشكل مماثل لغيرها من الفتاوى (ذات الإسناد المنسوب إلى تأويل سني) على سبيل المثال».
ويقول سالم لـ«الشرق الأوسط»: «كنا نعتقد سابقاً أن الفتوى بحق رشدي، انتهت، لكن ثبت أنها مؤثرة ومستمرة بدليل تعرضه لمحاولة اغتيال، فضلاً عما تعرض له سابقاً المفكر الإيراني على شريعتي في إيران (في سبعينيات القرن الماضي)، وكذلك المجددين المعاصرين مثل عبد الكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري».
وفي صدى لمحاولة اغتيال رشدي في إيران، دخلت «وكالة فارس» على خط التغطية بتقرير حديث وصفت فيه رشدي بـ«المرتد» في تغطيتها لنبأ الحادث الذي تعرض له.
وإذا كانت فتوى «إهدار دم» رشدي المستندة «إلى تأويل منسوب لارتكاز شيعي» احتاجت لنحو 34 عاماً لمحاولة تنفيذها؛ فإن فتوى أخرى لكنها مستندة إلى «تأويل منسوب لارتكاز سني» احتاجت إلى المدة الزمنية نفسها تقريباً في حالة الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ، والذي تعرض لمحاولة عام 1994 على خلفية رواية «أولاد حارتنا» التي نشرها عام 1959.
ووفق ما ظهر من تحقيقات مع منفذ محاولة اغتيال الأديب المصري البارز، فإنه كان منتمياً لـ«الجماعة الإسلامية» وحصل على «فتوى» من قادته لتنفيذ الجريمة.
اللافت أن «الجماعة الإسلامية» عادت بدورها في عام 2006 لتنعى محفوظ وتقول بعد رحيله إن «الرواية العربية فقدت برحيله أحد أهم أركانها»، وزادت أن «محاولة الاعتداء على محفوظ، لم تكن تمثل خطاً عاماً في الجماعة».
وقبل سنوات من محاولة اغتيال محفوظ، تمكن منتمون لـ«جماعة التكفير والهجرة» في مصر عام 1977 من قتل وزير الأوقاف آنذاك، الشيخ محمد الذهبي، بقيادة شكري مصطفى قائد ومؤسس التنظيم الذي اعتنق فتاوى «تكفير المجتمع والحكومة».
وكذلك كان المفكر المصري، فرج فودة، ضحية في عام 1992 لـ«فتوى بوصفه مرتداً»، تسببت في مقتله رمياً بالرصاص على يد شخصين، قال أحدهما في التحقيقات إنه نفذ الجريمة استناداً إلى «فتوى من الشيخ عمر عبد الرحمن بعدم وجود إثم في قتل المرتد».
وصحيح أن «الجماعة الإسلامية» و«التكفير والهجرة» كانتا تستندان إلى مرجعية متشددة تصل في نهاتيها إلى «تأويل منسوب لارتكاز سني»، فإن أستاذ الفلسفة الإسلامية، يشرح لـ«الشرق الأوسط»، أن «ثمة متغيراً بين الانتسابين في الحالة السنية والشيعية، ويتمثل في الأولى أن مجموعات وتنظيمات وكيانات يمكن أن تولي على رأسها قائد تحصل منها على فتواه، بينما في الحالة الشيعية يندر حدوث ذلك بسبب الطبيعة الكهنوتية لسلك الفتوى وآلية صدروها المحصورة في أشخاص بعينهم».
ولا تبدو الفتاوى ذات الطابع المتشدد أو المحرضة على القتل قاصرة على فترة حقبتي الثمانينات والتسعينات اللتين شهدتا حضوراً كبيراً لجماعات «الإسلام السياسي»، إذ شهدت باكستان عام 2018 توترات كبيرة، وصلت إلى حد «التحريض ضد وزراء وقضاة»، عبر رجل دين باكستاني يميني متطرف ينتمي لحزب «حركة لبيك»، وكان ذلك رداً «لتبرئة ساحة امرأة مسيحية اتهمت بالتجديف»، وذلك بعد سجنها 8 سنوات.
وهدد الحزب حينها «قضاة المحكمة العليا الذين برأوا ساحة السيدة، وحث طهاتهم وخدمهم على قتلهم».
لكن هل تُعد تلك الفتاوى ذات الإسناد الديني قاصرة على الحالة «ذات التأويل المنسوب للإسلام؟»
لا يبدو ذلك؛ إذ شهدت الهند في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، دعوات متطرفة من قبل منتمين لـ«الهندوسية» حرضوا خلالها على «قتل المسلمين»، وبحسب تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» حينها فإن «المئات من النشطاء والرهبان الهندوس المتطرفين» قالوا خلال التجمع الكبير، «إنهم سيحولون الهند (الجمهورية العلمانية دستورياً) إلى أمة هندوسية، حتى لو تطلب ذلك الموت والقتل».
وبالعودة إلى فترة زمنية أقدم وتحديداً عام 1600 ميلادية، نجد المفكر والفيلسوف الإيطالي جوردانو برونو، الذي «قتل حرقاً بعدما قررت محاكم التفتيش الرومانية إعدامه»، وكان ذلك بسبب أفكاره التي لم تقبلها «الكنيسة الكاثوليكية»، ورأت أنها تتضمن «هرطقة».
«فتاوى الدم» سلاح قاتل «عابر للتأويلات الدينية»
من محاكم التفتيش... إلى الخميني
«فتاوى الدم» سلاح قاتل «عابر للتأويلات الدينية»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة