تحل اليوم الذكرى الثانية والعشرين لرحيل طلال مداح، صوت الأرض وقيثارة شرقها، والزرياب الذي ساهم في نشر الأغنية السعودية والخليجية للعالم، وأحد أبرز مطربي العالم العربي الذي تميز بصوت عذب وأغاني ما زال يتردد صداها حتى اليوم.
«وردك يا زارع الورد» كانت هذه الكلمات بداية انطلاقة طلال الفنية، شدا بها في أواخر عام 1959 لتلقى رواجاً بين الشباب العربي في ذلك الحين والذين كانوا مندهشين من هذه الظاهرة الصوتية الصاعدة، والأسلوب الفريد في الأغنية السعودية الجديدة.وتوالت من بعدها الأغاني، وانتشرت الظاهرة {الطلالية} بين محبيه في ارجاء الوطن العربي ليبدأ طلال في صناعة الأغنية السعودية ملهماً بذلك العديد من الفنانين الذين ظهروا من بعده واستخدموا نفس أسلوبه بطريقتهم الخاصة.
وقد انتشر جمهور طلال في كل البلدان العربية، فما كان عليه إلا أن يغني بلهجاتهم ليصل إلى قلوبهم، فغنى بالمصري والعراقي واللبناني واليمني والسوداني والتونسي، ولم يكتفِ بذلك فقد أبدع بالغناء باللغة الإنجليزية.
ومع هذه الهالة الفنية وشهرته الواسعة وصوته المميز، يندر التحدث عن «طلال الإنسان»، الذي كان معروفاً بفعل الخير لجيرانه وأصدقائه، لذلك تحدثت «الشرق الأوسط» مع مقربين له، عاصروه وكانوا قريبين له في جلساته الخاصة، ليتحدثوا عن بعض المواقف التي تعكس مدى إنسانية هذا الفنان الكبير الذي لم تمنعه أضواء الشهرة من مساعدة القريبين منه.تقول ابنته إخلاص إن والدها كان فناناً وأباً عظيماً وفريداً وعطوفاً فوق العادة على أفراد عائلة، وكان رحيماً بدرجة استثنائية لأبنائه وبناته، ومحباً جداً ومهتماً بكل التفاصيل، وتستذكر عندما قرر الأطباء إجراء عملية جراحية لها لتعديل انحراف الساق كان قلقاً عليها بشكل كبير، وألغى مقابلة كان سيجريها مع إحدى القنوات التلفزيونية ليبقى معها، لكنه لم يستطع أن يدخل إلى غرفة المستشفى لأنه لا يتحمل أن يرى أحد أبنائه يتألم.
كما تستذكر إخلاص أن والدها كان أشد عقاب لديه هو عدم الحديث معهم عندما يخطئون، ولم يكن يعاقبهم إلا بهذه الطريقة، وتضيف وبرغم انشغالاته وسفره المتكرر، فإنه كان يحرص على الاتصال للسؤال عنهم بشكل دائم.
وختمت بأن والدها قد يكون في أعين الناس ذلك الفنان المشهور الذي ذاع صيته في أرجاء العالم، لكنه بالنسبة لها، هو الأب التي تتمناه أي فتاة، فكان رحيماً وطيباً ومهتماً جداً بالعائلة واحتياجاتهم، كما كان حريصاً على فعل الخير ومساعدة من هم حوله.
وعن الحنان وعطف الأب تحدثت ابنته دينا التي رحل والدها عندما كانت بالتاسعة من عمرها بأن شخصيته في المنزل كانت هادئة ولطيفة ويقضي أغلب وقته إما بالعزف أو الحديث معنا، أو مع أصدقائه في الصالون الخاص الذي كان يستقبل فيه أكبر الفنانين. وتستذكر أحد المواقف التي لا تنساها معه، حينما كانت جالسة معه وهو يعزف على العود ليفاجئها بسؤالها عن رأيها بأحد الألحان التي كان يعمل عليها، مما أسعدها وزاد من ثقتها بنفسها، بعدها ذهبا سوياً إلى المطبخ وقاما بإعداد وجبة العشاء لها في لحظة أبوية حانية لا تفارق مخيلتها.
ومن المطربين تحدث الفنان أحمد فتحي الذي عرف طلال لسنوات طويلة يقول: «التقيته للمرة الأولى في بداية السبعينات في منزله بجدة بصحبة مجموعة من كبار الفنانين والملحنين، وأسمعته لحنيّن لي لم يكتملا، حينها شجعني على إكمالها وأخذها ليسجل بها أغانيه، دعماً لي ولمساعدتي على تنمية موهبتي. ويكمل بأن هذا النبل والتشجيع لا يأتي إلا من فنان حقيقي»، مضيفاً: «لقد رافقته لسنوات في القاهرة وعرفته عن قرب وتأكد لي بأنه صاحب شخصية طيبة وعظيمة ومتواضعة وداعمة لكل الفنون الجميلة لأنه كان فناناً نقياً بكل ما تعنيه الكلمة».
من جانبه، يقول صانع الأعواد موريس شحاتة، والذي كان هو ووالده توفيق من المقربين لطلال مداح، إنه قابل مداح لأول مرة عندما كان بعمر الخامسة عشرة، وبقي يلازمه مع والده الذي كان يصنع أعواده لسنوات طويلة، فكان يرى به الإنسانية الكبيرة التي لا يعرفها الجميع، وعلى حد قوله، فإنسانيته لا تستطيع وصفها في كتب ومجلدات، فشخصيته كانت عظيمة وقلبه يتسع للجميع.
يصف شحاتة طلال بـ«الطفل» في المحبة والمسامحة والنية الصافية التي كانت تغلب عليه في مواقف كثيرة، حيث كانت حياته كلها فرح، ويحب أن يساعد الناس جميعاً بلا أي منّة، ويهتم بجميع من كانوا حوله، وباب منزله مفتوح دائماً للجميع، وقد اعتاد الجميع الدخول بلا استئذان للجلوس معه والحديث إليه كان يحب أن يجتمع الناس من حوله ولا يحب البقاء وحيداً.
ويقول شحاتة، نقلاً عن أحد المقربين من مداح - رفض ذكر اسمه - إن طلال خصص شقة في منزله، للمتزوجين حديثاً من أهالي الحي، ليقضوا شهر العسل هناك، مؤكداً أن جيرانه اعتادوا الطلب منه عند الحاجة، ويستذكر أحد المواقف عندما أتت اثنتان من النساء في شهر رمضان يطلبن المساعدة وقام بإعطائهما نصف أمواله، وقال لهن إنه قسم مصروف البيت بينه وبينهم، وذلك من حبه للعطاء والكرم.
إن طال الحديث أو قصر عن طلال، لا تنتهي القصص التي تعكس شخصيته التي اتفق الجميع على حبها، من جماهيره وعائلته وأصدقائه، كما أن بلاده التي غنى لها وتغنى بها في مناسبات عدة، لم تنس طلال مداح، حيث تم تغيير اسم المسرح الذي غنى به لآخر مرة باسمه، وبقي منزله المتواضع، والممتلئ بالقصص والفن في مكانه حفاظاً على تاريخه العريق الذي سطره بصوته الذي لا يتكرر.